إنها مسؤولية الشريحة الواعية ذات الرؤية الدقيقة للحاضر وللمستقبل، وهي التي قصدها أمير المؤمنين في إحدى خطبه الواردة بنهج البلاغة: "أنتم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم"، وهي رسالة لمن يحمل في قلبه الحب والولاء والإيمان لأمير المؤمنين، ولأهل بيت رسول الله، بأن يسهم في عملية الفرز الكبرى بين قيم الحق وقيم الباطل...

{وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}

سورة البقرة- الآية 42

كيف تمكن أصحاب الجمل تعبئة آلاف المقاتلين المستميتين لمحاربة أمير المؤمنين، عليه والسلام، وقد انتخبته الغالبية العظمى من المسلمين قبل اربعة أشهر فقط من نشوب هذه المعركة، وكان من المبايعين؛ طلحة والزبير؟

بل وكيف مَرَقَ الخوارج من جيش أمير المؤمنين وكانوا يقاتلون معه الفئة الباغية (جيش معاوية)؟ الفترة قياسية جداً لانجاح عملية التحول والانقلاب في الرأي، وعلى شخصية عظيمة يقرّ لها المسلمون جميعاً –آنذاك- بالفضل والشأن، حيث فقدان وسائل التواصل الاجتماعي، وتقنية الاتصال السريع والمجاني العابر للحدود وللجدران وللغرف الصغيرة.

فهذا الحارث بن حَوَط الليثي يدخل على أمير المؤمنين ويقول: يا أمير المؤمنين، ما أرى طلحة والزبير وعائشة احتجوا إلا على حق! فقال، عليه السلام: يا حارث، إنك إن نظرت تحتك ولم تنظر فوقك جِزَتَ عن الحق؛ إن الحق والباطل لا يعرفان بالناس، ولكن اعرف الحق باتباع من اتبعه، والباطل باجتناب من اجتنبه".

وعندما كان أمير المؤمنين في طريقه لمواجهة الناكثين المتخندقين في البصرة، بعث الى أبو موسى الأشعري، وكان والياً من قبل عثمان على الكوفة، يستنهضه أهلها للانضمام الى معسكر الحق، فكان جوابه أن توجه الى الناس بالقول: "إنّها فتنة صمّاء، النائم فيها خيرٌ من اليقضان، واليقظان فيها خيرٌ من القاعد، والقاعد خير من القائم، والقائم خير من الراكب، فكونوا جرثومة من جراثيم العرب، فاغمدوا السيوف، وانصلوا الأسنَّة، واقطعوا الأوتار، وآووا المظلوم والمضطهد حتى يلتئم هذا الأمر، وتتجلّى هذه الفتنة"!

بيد أن هذا الموقف المتخاذل لم يؤثر على الرأي العام في الكوفية، لما يبدو وجود نوع من الوعي والمعرفة بشخصية الإمام، فجاءت الاستجابة سريعة من أهلها بعد أن ارسل الإمام بدايةً؛ هاشم بن هاشم المرقال، وعندما دنا من الكوفة أرسل ابنه الامام الحسن، عليه السلام، وعمار بن ياسر، فلم يخرجا منها إلا ومعهما حوالي سبعة آلاف رجل ينضم الى جيش أمير المؤمنين.

حقاً، إنه لسؤال يقفز من ذاكرة التاريخ، رغم أننا نعيش أيام ذكرى مولد أمير المؤمنين، ويفترض أن تكون مناسبة تبعث على البهجة والفرح، لا الأسى والأسف؛ فكيف تغيّر رأي جمعٌ كبير من المسلمين عن طاعة أمير المؤمنين بعد أن اجتمعت كلمتهم على بيعته للخلافة حبّاً ورغبة، وقد احتشدوا وتدافعوا على داره، في مشهد تاريخي مذهل عدّه الباحثون والمؤرخون بأنه من أندر مشاهد انتخاب زعيم لأمة في ذلك الزمان؟

إنه "اللبس" الذي حذر منه، عليه السلام، داعياً المسلمين لمعرفة الحق، قبل معرفة رموزه مهما كانوا، لأن الوصول الى قمة السلطة، والى الاموال والامتيازات تدفع هذه الرموز لتعكير المياه، كما هو التعبير الشائع، ثم محاولة الاصطياد منه، او خلط الحق بالباطل، كما هو في الادبيات الدينية.

المشاعر الانسانية.. الثغرة القاتلة

بعد الايمان برسالة السماء عقلاً، بفضل المعاجز، والآثار المباشرة على الواقع الملموس، يأتي دور الإيمان قلباً من خلال الالتزام والاندماج والتفاعل، ولذا قال الله –تعالى-: {قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}، لأن القلب المطمئن بالايمان هو الذي يوظف المشاعر والاحاسيس؛ وليس العكس، فالعلاقات الاجتماعية، والرغبات الشخصية، وحتى الغرائز والنزعات الكامنة في نفوس البشر، لن تكون ذات شأن أمام التضحية والإيثار والإخلاص، وكان هذا من جملة ابتُلي به أمير المؤمنين منذ الايام الاولى لانتخابه حاكماً –رسمياً- وهو الإمام المفترض الطاعة منذ يوم الغدير، وهو العالم يقيناً بهذا المآل من ذوات من انتخبوه وبايعوه، لذا كان رفضه الشديد أمام إلحاح المُلحّين، قبل ان يستجيب لهم في نهاية الأمر.

المسلمون في تلك الحقبة التاريخية الحاسمة وجدوا أنفسهم أمام شخص يعرفوه بأنه الحاكم (الخليفة) بعد من سبقه في هذا المنصب، وايضاً هُم أمام شخصين آخرين، هما من أبرز صحابة رسول الله؛ طلحة والزبير، يُضاف اليهما في كفة الميزان؛ عائشة التي تحمل عنوان "أم المؤمنين"، أملاً في زيادة ثقل الكفّة، فهي عندما كانت تخاطب المسلمين آنذاك على أنها "أمهم"، وكانوا ينادونها؛ "يا أماه"، فهل يصح للانسان المسلم عصيان أمر أمّه؟!

ولعل هذا يفسّر إصرار الناكثين، اصطحاب عائشة وضمها الى معسكرهم مهما كلّف الثمن، ومنه؛ شهادة الزور، وهي الاولى في الاسلام، لئلا تغيّر رأيها فزعاً من نار جهنم التي حذر منها رسول الله نسائه عندما قال: "ليت شعري أيتكنّ صاحبة الجمل الأدبب تنبحها كلاب الحوأب يُقتل عن يمينها وشمالها قتلى كثيرة كلهم في النار وتنجو بعد ما كادت"؟! فجاء عدد كبير ممن استأجرهم الأمويون ليحلفوا بالله كذباً و زوراً بأن المنطقة التي نبحتها الكلاب ليست الحوأب.

نفس الدور التضليلي أتقنه الحسن البصري الذي عاصر أمير المؤمنين في شبابه، و مات وهو في الثمانية والتسعين من العمر مدركاً الإمام الباقر، عليه السلام، وما يزال حتى اليوم يلهج به البعض كأحد رموز المعرفة، ومن رواد التصوف، حاول جهده أن يظهر بما يجذب الآخرين اليه، وبما لا يُحسب على العاصين لأمر أمير المؤمنين، كما فعل ذات مرة بينما كان أمير المؤمنين يتحدث الى الناس في البصرة بعد انتصاره في معركة الجمل، فرأى الحسن البصري ومعه ألواح يكتب كلما يتكلم به الإمام، فناداه بأعلى صوته: "ما تصنع؟! قال نكتب آثاركم لنحدث بها بعدكم! فقال أمير المؤمنين عليه السلام: أما إن لكل قوم سامريّ، وهذا سامري هذه الأمة، إلا أنه لا يقول: {لا مساس}، وهذا يقول: لا قتال"، في إشارة منه، عليه السلام، الى موقفه الحيادي –بظنه- في معركة الجمل، وقوله للإمام بأني سمعت هاتفاً يناديني بعدم اللحاق بمعسكر طلحة والزبير، ويقول: الى أين تذهب، إن القاتل والمقتول في النار! فقال له الإمام صدق قائلك، فهل تدري من صاحب النداء، قال لا، قال: انه أخوك أبليس! يقول: القاتل والمقتول منهم في النار".

واستمر بنهجه هذا الى أن ادرك الامام الباقر، عليه السلام، فأراد التنطّع بالعلم فزعم "أن الذين يكتمون العلم تؤذي ريح بطونهم من يدخل النار، فقال أبو جعفر، عليه السلام: فهلك إذاً، مؤمن آل فرعون، والله مدحه بذلك! وما زال العلم مكتوما منذ بعث الله -عز وجل- رسوله نوحا، فليذهب الحسن يميناً وشمالا، فوالله ما يوجد العلم إلا ههنا".

وبعد معركة الجمل، راحت جماعة ممن لم يدخل الإيمان في قلوبهم استغلال المنطقة الرخوة في النفوس لتبرير سقوطهم في خديعة رفع المصاحف، فقالوا: "لا حكم إلا لله"، وأنكروا على الإمام ان يكون جديراً بالحكم، فقد التبس عليهم الأمر مرتين؛ الاولى: عندما رأوا المصاحف على أسنة الرماح فقالوا: كيف نقاتل أناساً يقرأون القرآن؟! وبعد أن أجبروا الإمام على وقف القتال وكان على وشك الانتصار على جيش معاوية، اكتشفوا الخديعة و أنهم مضحوك عليهم، فجاؤوا الى الإمام يطالبونه بخرق الاتفاق بدعوى عدم جدارة معاوية ايضاً للحكم، وعندما رفض الإمام نقض العهد، قفزوا أمامه يكفرونه، ثم آلت الأمور الى ما يحدثنا التاريخ بما يدمي القلب من كيفية تخلّص معاوية من موت محقق على يد مالك الأشتر بفضل رعونة الخوارج الذين أشهروا السيف بوجه أمير المؤمنين بأن "ادعوه يرجع من الميدان وإلا قتلناك"، ثم مسرحية التحكيم، وما فعله ابو موسى الأشعري، وبذلك تنتهي معركة صفين بخلاص معاوية وصاحبه عمرو من العاص، ليس من الموت، وإنما من انهيار دولتهم وسلطانهم في الشام، وذلك بمساعدة من مغفلين ومضللين مثل الخوارج.

بيد أن أمير المؤمنين الذي يراقب دواب الأرض وما تحمل في فمها، كما يحرص على مصير المسلمين ويرعى شؤونهم، لم يترك أولئك المضَللين وشأنهم، فسعى جهده لإزالة الغشاوة عن قلوبهم، فأرسل عبد الله بن العباس لينصحهم قبل اندلاع المعركة، وسبقه الى ذلك؛ الصحابي الجليل؛ ابو أيوب الانصاري، فسعوا في نصحهم و إرشادهم فآب منهم خلق كثير، وجاء في المصادر التاريخية أن عددهم في بداية التمرد وسط معركة صفين كان يربوا على أثني عشر ألف رجلاً، لم يبق منهم بعد محاولات الإرشاد إلا اربعة آلاف معاند وناصب للعداء لأمير المؤمنين، وكانوا هم رجال معركة النهروان وفيها كانت نهايتهم، ولم ينجُ منهم سوى فلول تفرقوا في الأمصار.

لطالما حذر أمير المؤمنين من حالة الخلط بين الحق والباطل، وانتاج موقف فكري وثقافي جديد يجعل صاحبه سالماً على التلّ، ويضمن له البقاء فترة أطول في الحياة، والابقاء على أمواله، وفرصة عمله، وامتيازاته، فكانت البداية في كتاب الله المجيد؛ القرآن الكريم، على يد الخوارج بشعارهم: "لا حكم إلا لله"، مقتبسين من الآية الكريمة الواردة غير مرة: {إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ}، وقد أيدهم الإمام على مقولتهم هذه، ولكنه في الوقت نفسه كشف سوء فهمهم، وتوظيفهم للقيم والمفاهيم الايجابية لاغراض سلبية فقال قولته الشهيرة: "كلمة حق يُراد بها باطل".

وبعد القرآن الكريم، استمر هذا التوظيف في قطار التاريخ ليشمل فيما بعد؛ العلم، ثم الفن، ثم الأدب، وهي مما تطرب النفوس وتحفز المشاعر ولكن! ليس باتجاه تزكية النفوس بالأخلاق السامية والفضائل والمكارم، وليس باتجاه تنمية المهارات والقدرات لمزيد من البناء والابداع والتطور في حياة الانسان، وإنما كانت الغاية القصوى إضفاء المشروعية على الانظمة السياسية، وضمان فترة أطول لهذا الحاكم او ذاك.

كيف عالج الإمام داء الخلط بين الحق والباطل؟

جاءه ذلك الرجل الذي ادعى الرهبنة والعبادة والانقطاع التام عن الدنيا فعاتبه أمير المؤمنين، وذكّره بنعم الله المباحة للخلق، فعندما قال للإمام: يا أمير المؤمنين هذا أنت على خشونة ملبسك، وجشوبة مأكلك –يريد التشبّه به، عليه السلام- فنهره الإمام فوراً وقال له: ويحك! إني لست كأنت، إن الله فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس كيلا يتبيّغ –يهيج- بالفقير فقره".

إن الغنى والثروة والمال من مداخل الحق، وقد أحلّ الله البيع وأباح جني الارباح من التجارة مهما عظمت، ومن حق الانسان ان يكون ثرياً بالطرق المشروعة، بالمقابل فان الفقر والحرمان من مداخل الباطل، وهو ما حذر منه الإسلام، وعمل الإمام خلال فترة حكمه القصيرة على مكافحته وإزالته من وجه المجتمع، ولكن لم يسمح الإمام بالتخلص من هذا الباطل بباطل مثله، وإنما بقيمة حق تكون في الجهة المقابلة وهي؛ العدل ليطمئن الفقير، بل جميع افراد المجتمع بالأمن الاقتصادي والمعيشي، وأنهم لن يقعوا فريسة للاثرياء والاقوياء يستغلون ظعفهم، وقلة وعيهم لمزيد من الاثراء والهيمنة.

وعليه؛ فعندما يعزم الفقير على انتشال نفسه من مستنقع الفقر الى رحاب العمل والغِنى والتطور، فانه مسيرته تكون سلمية، وبشكل تدريجي هادئ بعيداً عن الصخب وإحداث المشاكل للمحيط الاجتماعي بدعوى أنه "صاحب حق"، او أن "الحق معه"، وهو في ذلك ربما يلجأ الى كل الوسائل لإضفاء المصداقية على مقولته هذه، وإن اختلطت معها وسائل من صنع الباطل.

ولكن! كيف نحقق هذا التحول الجميل؟!

إنها مسؤولية الشريحة الواعية ذات الرؤية الدقيقة للحاضر وللمستقبل، وهي التي قصدها أمير المؤمنين في إحدى خطبه الواردة بنهج البلاغة: "أنتم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم"، وهي رسالة لمن يحمل في قلبه الحب والولاء والإيمان لأمير المؤمنين، ولأهل بيت رسول الله، بأن يسهم في عملية الفرز الكبرى بين قيم الحق وقيم الباطل في جميع القضايا والظواهر التي تعيشها الامة، وأن تجعل كل شيء في نصابه في عالم السوشيال ميديا (الاعلام الجماهيري)، فالعلم والمال، والمعرفة، والفن، والرياضة، والأدب، كلها مسائل ايجابية من شأنها تطوير حياة الانسان، وهو ما يريده الله –تعالى- للبشر من خلال التفكّر في كيفية جعل هذه المفاهيم أدوات لتسخير كل ما في الحياة لخدمة الانسانية، لا أن تتحول هذه الأدوات الى أهداف وغايات نجري خلفها، او نجعلها أُطر فارغة من المحتوى لحياتنا، كأن تتحول كل حياتنا الى نقاش وجدال، او بحث عن الجديد، او عن جميل المظهر، في وقت نحتاج فيه الى التعاون والتسامح والاحترام المتبادل والشعور الجماعي بالمسؤولية.

اضف تعليق


التعليقات

ام فرقان
العراق
مقال رائع. احسنتم2022-02-15