فمعرفة المرء ذاته في هذا البعد الجديد، في هذا البعد الثالث لحياة المرء اللاشعورية، تعني أن تكون حراً، أن تكون متيّقظاً. والحقيقة هي أن معظمنا نصف نائمين حين نعتقد أننا يقظون. ونحن فعلاً لسنا يقظين إلا بما يكفي لإنجاز المهمات الضرورية لكسب الرزق؛ وقد حلّت لعنة اليقظة...

أود أن أذكر ثلاث مسائل أخرى هي إضافات شديدة الأهمية إلى المناهج التحليلية النفسية الكلاسيكية من أجل شفاء عصاب الطبع الحديث. والمنهج الأول هو إدراك المرءِ لا شعورَه. وهذه الكلمات نفسها لا تعني شيئاً على الإطلاق عندما تُستخدم بالمعنى العقلي الخالص. فمن السهل اليوم القول: إدراك ذاتك، شعورك ولا شعورك ـ فتلك هي الشعارات الآن.

ولو فكر المرء فيما تعنيه هذه الكلمات أو تكلم عنها، لأضحى كل هذا حياً. وفعلاً فإن الأمر نفسه يكون عندما ترى لوحة فنية. فإذا نظرت إلى لوحة لرامبرانت ـ وأنا أذكره أنه واحد من رسامّي الأثيرين ـ فإنك يمكن أن ترى اللوحة نفسها مائة مرة وتكون جديدة في كل مرة، فهي منعشة دائماً، تحييك وأنت تحيي اللوحة لنفسك. ولكنك يمكن أن تمرّ بها مُبدياً ملاحظة: "أه، رامبرانت، الرجل ذو الخوذة" ثم تسير إلى اللوحة التالية. لقد شاهدتها، حسناً ولكنك لم ترها.

ويصدق الأمر نفسه على العلاقات الشخصية. من يرى شخصاً آخر حقاً؟ يكاد لا يراه أحد. فنحن راضون وسعداء بأن نرى مظاهرنا الخارجية فقط. وذلكم هو السبب في أن اتصالاتنا فقيرة، فقيرة تماماً، ويكاد لا يوجد ما هو ضد هذا الفقر في الاتصال، إذا يطمسه نوع من الرفقة والصداقة والابتسام، والابتسام، الابتسام.

والسؤال اللاحق هو: ماذا يعني أن يعرف المرء نفسه؟ إن معرفة المرء نفسه لا تعني مجرد إدراك ما نفعله بل أن نصبح مدركين ما هو اللاشعور بالنسبة إلينا، وماذا لا نعرف. وكان الاكتشاف العظيم لفرويد أنه أثبت ذلك وجعله واضحاً جداً، ربما أشد وضوحاً مما كان في أي وقت، فوسّع بذلك مجال معرفة المرء لنفسه كثيراً. كانت "معرفة المرء لنفسه" قبل مائة سنة تعني أساساً معرفة كل شيء نعرفه عن أنفسنا. واليوم تعني معرفة أنفسنا بالنظر إلى أننا ندرك أنفسنا وبالنظر إلى أننا غير مدركين لأنفسنا؛ وذلك يعني إبانة القطاع الأكبر من حياتنا النفسية ـ أي القطاع الذي يعمل منفصلاً عن التفكير الشعوري العادي، ذلك القطاع الذي يظهر على خشبة المسرح في الليل حين نحلم، أو في حالة الذُّهان حين نهلوس.

ويمكن كذلك أن تصف ذلك بطريقة مختلفة. فمعرفة المرء ذاته في هذا البعد الجديد، في هذا البعد الثالث لحياة المرء اللاشعورية، تعني أن تكون حراً، أن تكون متيّقظاً. والحقيقة هي أن معظمنا نصف نائمين حين نعتقد أننا يقظون. ونحن فعلاً لسنا يقظين إلا بما يكفي لإنجاز المهمات الضرورية لكسب الرزق؛ وقد حلّت لعنة اليقظة على بعض الناس بخصوص ذلك.

ولكن من أجل مهمة أن نكون أنفسنا، من أجل المهمة التي تتجاوز تلك الوظيفة الحيوانية، والإحساس بأنفسنا، ومن أجل المهمة التي تتخطى العمل ـ وأن نكون آلة تغذية وحب ـ من أجل هذه المهمة نحتاج إلى استبصار آخر، أفضل من الاستبصار الذي لدينا منه ما يكفي في حالة نصف اليقظة. والشخص المدرك حقاً ذاته، الذي ينفذ من السطح إلى جذور وجوده هو المتيّقظ.

وإذا نظرنا إلى حياة جل الناس، فإنه لغريب كم هم أنصاف نائمين. لا أحد يعرف من لا شيء، لا أحد يعرف ماذا يريد أن يفعل، وما هي العواقب.

والناس، ماداموا يعالجون مشكلات وجودهم الإنساني، فهم جهلة. وعندما يعالجون مسائل العمل، فهم يعرفون معرفة جيدة جداً. وعندئذ يعرفون كيف يترأسون، وكيف يحتال المرء على الآخرين وعلى نفسه. ولكن عندما يصل الأمر إلى مسألة الحياة فهم أنصاف أيقاظ أو أقل من أنصاف أيقاظ.

وأود أن أنقل ما لديّ من الانطباع حول التيقّظ على أساس خبرتي، والذي أود من المهتم أن يكون لديه حول نفسه وحول الناس الآخرين. ويستغرق زمناً إدراك هذه الحالة من نصف التيقّظ، حتى يعتقد الناس أنهم متيقّظون على أوسع مدى. وفي الواقع فإن المفارقة أننا نكون أكثر تيقّظاً لأنفسنا ونحن نيام منا ونحن أيقاظ. فعندما نكون نائمين أو عندما نكون مجانين، وعلى الأقل في بعض مراحل الجنون، فإننا بالفعل نكون مدركين للغاية أنفسنا بوصفنا ذوات، بوصفنا أشخاصاً يشعرون، بوصفنا أناساً؛ ولا يظل هذا الإدراك منفصلاً إلا عن الحياة الخارجية. وهو لا يوجد إلا في الظلام، أو إذا تحدّثنا بيولوجياً، ما دام الكائن الحي متحرراً من وظيفة في الاحتيال على العالم، أو دفاعه عن نفسه، أو انشغاله بالبحث عن الطعام.

ولكننا حالما نستيقظ نذهب إلى النوم. وعندئذ نفقد كل التبصّر، وكل اليقظة من أجل العمليات الأدق لشعورنا ومعرفتنا. ونكون نياماً إلى كل شيء، وتلك هي الطريقة التي نعيش بها. أليس من العجب أن الناس لا يفهمون حياتهم إلا قليلاً جداً ؟ وأن الناس أشقياء في غمرة الوفرة؟ وأن الناس الذين يملكون كل شيء من شأنه أن يكون ضرورياً ليجنوا من الحياة أفضل ما يمكن أن تمنحهم الحياة، يتخبّطون، وهم أشقياء، ممتعضون، ويكون لديهم في نهاية حياتهم على الأغلب إحساس مرير وحزين جداً بأنهم قد عاشوا ومع ذلك لم يكونوا أحياء؟ وأنهم كانوا يقظين ولكنهم لم يتيقّظوا أبداً؟ ذلك ما يعني أن يدرك المرء ذاته.

وليصير المرء مدركاً لا شعوره فإنه لا يحتاج إلى أن يُحلَّل. ولا يحتاج ليعيش التجربة حقاً إلا إلى بعض الاهتمام وبعض الشجاعة. على المرء أن تكون لديه الشجاعة، مثلاً، ليَخبُر: "اعتقدت أنه إنسان محترم وأرى فجأة أنه ليس كذلك على الإطلاق. إنني لم أحبّه أبداً، وكنت أعرف دائماً أنه ليس إنساناً محترماً."

ومن الغرابة بمكان أننا نعرف ما نكبت. وفي الحقيقية لا توجد كلمة لهذه المعرفة التي لدينا، لهذا الإدراك الذي لدينا عن الأشياء التي كبتناها. إنه ليس "ما قبل الشعور" بالمعنى الفرويدي، ولا ريب، لأن ما قبل الشعور شيء قريب من الوعي. ولكنه ليس مكبوتاً، بمعنى أنه كذلك منفصل عن نظامنا. ولا ريب أنه يكون محمياً في الكثير من الأحيان من خلال ما يدعوه المرء المقاومة، ولكن من الغرابة بمكان أنك تجد في الكثير من الأحيان كذلك أن الشخص قد يرى شيئاً ما، ويمتلك تبصّراً وفجأة يعرف: " ولكنني عرفت ذلك كل الوقت، عرفت ذلك طيلة حياتي. إنه ليس جديداً حقاً. لقد عرفته وفي الوقت نفسه لم أعرفه".

توجد هذه الظاهرة الإدراكية التي هي ليست شعورية وليست لا شعورية بصورة كلية. ولهذه الظاهرة نتائج حتى بالنسبة إلى التقنية التحليلية النفسية. ويتحدث المرء كثيراً عن مقاومة المريض. وذلك مسوَّغ تماماً والمقاومة، بوصفها حماية من شيء نخاف أن ندركه، قوية جداً. ولكن في الكثير من الأحيان، إذا أخبر المحلل المريض بشيء، مثلاً، يراه على الفور: "هذا ما أراه، وأنا لا أستطيع أن أثبت ذلك لك ولكن هذا ما أسمعه،" فإنه لن يكون نادر الحدوث أن يقول المريض: "أوه، أنت على حق، إنني لم أعرف ذلك، ولكنني عرفته أيضاً. "وعندما يعبّر عن هذا البثّ شخص غيره بقوة، وضوح، وبصدق كافٍ لا بلغة أُخيولية أو مفرطة في النظرية، فقد يقول الشخص:"آه يا سيدي، أجل، هذا أنا، هذا صحيح، هذا حقيقي."

وتعتمد مسألة كم من المرات يحدث ذلك على عمق المقاومة. فإذا كانت المقاومة ضخمة فإن ذلك لا يسعف. ولكن في تلك الأحوال حيث لا تكون المقاومة ضخمة ولكن الحصن لا يدافع إلا دفاعاً خفيفاً، فعلى الفور قد يظهر إدراك شيء هو اللاشعور، والإحساس به، في حين قد يستغرق فحص تلك المقاومة وقتاً أطول إذا لم يستطيع المحلل أن يعلن أولاً وبصورة مباشرة: "اسمعني الآن، هذا ما أراه." إنها مسألة براعة من المحلل أن يعرف متى يستطيع أن يعرف ذلك، أو متى لا يستطع. وفي بعض الأحوال لا يكون ثمة اختلاف لأنه لو كانت المقاومة كبيرة جداً لأجاب المريض: "حسناً، ما تقوله واضح بما فيه الكفاية،" وذلك هو ذلك. وفي بعض الأحوال يكون ذلك خطراً لأنه على الرغم من أن المريض يقول: "لا، ذلك كله هراء، هنا." يكون في لا شعوره شيء يستجيب لذلك ولا تكون استجابته ببساطة من قبيل "هذا هراء،" وفي اليوم التالي أو بعد ساعة يصاب الشخص باكتئاب بالغ الشدة، لأنه لم يستطع أن يتحمل هذه الحقيقة المفاجئة. والآن، إذا كان هذا الشيء الكلي مكبوتاً، فلماذا يستجيب بتلك الطريقة؟ إن شيئاً ما فيه قد سمع ذلك.

إنه لمن الملائم لنا شخصياً أن نفكر على الدوام: "إذا كنت لا أدرك ذلك، فهو مكبوت، وإذا كان مكبوتاً، فربما كان عليّ أن أذهب إلى محلل نفسي مدة سنة، وإذا كنت لا أستطيع القيام بذلك أو لا أريده، تركته وحده." ولكن الأمر ليس بتلك البساطة. وإذا درّبت نفسي أن أكون حساساً تجاهه، وقد أكتشف شيئاً عنه، من دون عون حتى من المحلل قد أكتشف يوماً: "آه، إن ذلك ليس كما أعتقد تماماً."

والحساسية ضرورية لإدراك أن لا شعور المرء معروف لنا: فإذا كنا، مثلاً، نسوق سيارة، نكون حساسين للغاية تجاه ضجة السيارة من دون التفكير فيها. فنلاحظ أدق ضجة، وأدنى اختلاف. ونستطيع أن نفكر في شيء مختلف كل الاختلاف، وأن نكون مركّزين تماماً على المشهد الذي أمامنا ـ ولكن إذا كان هناك أدنى تغيّر في مستوى الضجة، أو في نوعية الصوت، فإننا ندرك ذلك على الفور.

* مقتبس من كتاب: فــن الإصــغاء-إريك فروم

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق