إن المبالغة في ممارسة المازوشية ينجم عنها مبالغة في ممارسة السادية في حالة تبادل الأدوار بين الضحية والجلاّد، والمشهد العراقي يؤكد هذه الحقيقة السيكولوجية، فقد كانت السلطة في العراق بيد السّنة العرب أكثر من ألف سنة فيما كان الشيعة في دور المعارضة للزمن نفسه...

توطئة

ليس من الصحيح علميا" وعمليا" القول بوجود شخصية عراقية واحدة تمثل المجتمع العراقي لسببين في الأقل:

1. التنوع الاثني والمذهبي والديني.

وقوع أحداث كبيرة في الــ 27 سنة الأخيرة نجم عنها دخول عوامل جديدة في تشكيل الشخصية العراقية.

وأنه من الأصوب القول بحالين أو أمرين:

الأول: وجود خصائص أو صفات عامة يشترك فيها معظم العراقيين.

والثاني: وجود شخصيتين متمايزتين، الأولى تمثل جيل الكبار المولودين قبل عام 1975 والثانية تمثل جيل الشباب المولودين بعد هذا العام (على اعتبار أن عمر الجيل يكون بين 30الى 35 سنة، ولتباين الأحداث التي وقعت للجيلين).

وتناولنا للسادية والماسوشية في الشخصية العراقية لا يعني أن توافرهما موجود حصريا" في الشخصية العراقية دون غيرهما، فستناول لاحقا" " ثنائيات "أخرى من السمات أو الصفات مثل " التروي والاندفاعية ".

تحديد مفهوم

تعني السادية، بمصطلحات الطب النفسي، نوعا من الاضطراب في الممارسة الجنسية يحدث بتكرار خيالات أو رغبات جنسية تتصف بالشدة والإلحاح، أو سلوك جنسي يتضمن معاناة نفسية أو جسدية أو كليهما لدى الطرف الأخر بالعلاقة الجنسية تسبب إثارة جنسية ومتعة لدى الشخص السادي، أي أن الشخص السادي لا يحصل على متعته الجنسية ولا تحدث عنده " الرعشة الجنسية " إلا بإيقاع الألم على شريكه بالعملية الجنسية، وقد تصل السادية الجنسية إلى حالة قتل الآخر غير أنها تكون في الغالب مصحوبة بأعراض من الفصام أو اضطراب الهوية الانشطاري.

وقد اشتقت مفردة السادية من اسم " ماركيز دو ساد " وهو روائي وضابط فرنسي عاش في القرن الثامن عشر.. سجن عددا من المرات بسبب ممارسته العنف في سلوكه الجنسي، واشتهر بمؤلفاته التي تحبب العنف في الممارسة الجنسية لا سيما في روايته " جوستن و جوليت ".

إما الماسوشية " المازوخية، المازوشية " فتعني، بمصطلحات الطب النفسي، اضطرابا جنسيا يستهدف الحصول على المتعة الجنسية عن طريق الشعور بألم بدني أو نفسي أو كليهما. هذا يعني أن الماسوشي لا يحصل على اللذة والرعشة الجنسية إلا بعد أن يقوم الطرف الأخر بإيقاع الألم فيه.

وقد اشتقت مفردة الماسوشية من اسم " ليبولد زاخر ماسوش " وهو كاتب نمساوي عاش في القرن التاسع عشر وله روايات كثيرة اشهرها " فينوس في الفراء ".

ومع اختلافهما فأنه يجمعهما عامل مشترك هو أن كليهما يحصل على المتعة عن طريق الألم، فالسادي يستمتع بإيقاع الألم على الآخر والماسوشي يستمتع بإيقاع الألم عليه من قبل آخر. والحالة " النموذجية " لهما أن يكون الرجل ساديا" و المرأة ماسوشية، فيشبع السادي رغبته في إيقاع الألم بامرأة في أعماقها رغبة أو حاجة إلى أن يسيطر عليها فرد يجيد فن الإذلال والإهانة والتحقير،ولا تشعر بأنوثتها إلا حين يقهرها رجل قوي.

توسيع المفهوم

لم يعد مفهوما السادية والماسوشية مقتصرا على السلوك الجنسي بل جرى توسيع لهما ليشمل أنواعا أخرى من السلوك لاسيما أصحاب السلطة الذين يفرطون في استعمال القوة مع الخصوم، والاستمتاع بتوسلات واستذلال وإهانة الآخر في حالة السادية، وميل الفرد إلى أن يكون مظلوما أو تعريض نفسه للإهانة والإذلال في حالة الماسوشية. ويجيز بعض الكتّاب لأنفسهم وصف شعوب معينة بالسادية وشعوب أخرى بالماسوشية.

الشخصية تحديد مفهوم

يتفق علماء النفس على أن الشخصية تتكون من أربعة مكونات، هي:

1 المكون الجسمي ويتضمن الجانب البيولوجي والفسيولوجي والعضوي بشكل عام.

2 المكون العقلي ويتضمن العمليات العقلية مثل التفكير والإدراك والتعلم.

3 المكون النفسي ويتضمن الحالة الوجدانية والانفعالية للفرد.

4 المكون الاجتماعي ويتضمن التعلمات التي يكتسبها الفرد في المجتمع الذي يعيش فيه.

ولا يوجد في الوقت الحاضر تعريف للشخصية متفق عليه، بالرغم من حقيقة أن علم نفس الشخصية يستقطب أشخاصا" من العلماء والمفكرين المبدعين ومن ذوي التفكير الأصيل.

على أن التعاريف الحديثة للشخصية اقتربت من أن يكون التميزDistinguish أو التفرّد في الشخصية بين اثنين إلى أربعة مفاهيم هي: السلوك Behavior والفكر Thought، والانفعال Emotion ( المزاج بأنواعه: الفرح،الحزن،الحب، الغضب، الاكتئاب...)، والمشاعر Feeling (الشعور بالنقص،الثقة بالنفس...).

ونرى أن الشخصية هي بناء فرضي معقد يستعمل لتفسير مسألتين أساسيتين هما:

الأولى: استقرار السلوك واتساقه عبر الزمن وعبر المواقف

والثانية: تمايز أو اختلاف سلوك الأفراد الذين يتعرضون لنفس الموقف

ونقصد بالبناء الفرضي للشخصية: تجريد يشير إلى الحالة الداخلية أو البينية للفرد، التي تتضمن التاريخ التعلمي الخاص به، والمكونات البيولوجية له، والطرائق التي انتظمت بها الأحداث المعقدة، التي تؤثر في استجابة الشخص للتنبيهات الاجتماعية والبيئية.

واهم محددين في الشخصية هما:

* العامل الوراثي. ويتضمن تركيبة الدماغ وتوازن الهرمونات وما يرثه الفرد من صفات أو استعدادات عبر الجينات (ترى وجهة نظر حديثة أن الفرد يرث استعدادات سلوكية أيضا مثل الغضب والانبساط... بل وحتى وجود جينة تحمل الاستعداد للخيانة الزوجية !).

* العامل الاجتماعي الحضاري ( الثقافي ). وهذا يقوم على افتراض أن شخصياتنا ومعتقداتنا واتجاهاتنا.. هي متعلمة " مكتسبة " من الآخرين وأن من المستحيل فهم الشخص بشكل كامل دون فهم ثقافته أو حضارته ( culture) وهويته العرقية ( ethnic identity) وهويته نوعه ( gender identity) وعوامل اجتماعية وثقافية أخرى.

محور الموضوع

نميل إلى الاعتقاد بأن السادية والمازوشية سلوكان مكتسبان يتم تعلمهما من البيئة الاجتماعية التي يعيش فيها الفرد، باستثناء السلوك المضاد للمجتمع antisocial bahavior أو السيكوباث psychopath الذي هو نوع من اضطرابات الشخصية. وتعود بداية نشوء هذين السلوكين إلى أساليب التنشئة الأسرية للأطفال، إذ تشير الدراسات على مستوى الأسرة العربية وليس العراقية فقط إلى شيوع أنماط التربية المتسلطة التي تسعى إلى بناء شخصيات مطواعة تميل إلى الإذعان والتبعية وتعويد الطفل العربي على الخضوع للكبار وطاعة السلطة عبر أجواء أسرية تشيع فيها السلطة الأبوية الصارمة وأساليب قهر الأبناء والقمع النفسي والازدراء والاحتقار والسخرية والتهكم وخلق الإحساس بالدونية والشعور بالنقص.*

من جانب آخر، فان العلاقة بين الأب والأم عندنا هي في معظمها شبيهة بعلاقة " سي السيد بزوجته أمينه " في ثلاثية نجيب محفوظ، حيث الأب يمثل القوة والسلطة ( يحلل لنفسه اللهو الحرام

ويحرّم على بيته اللهو الحلال) فيما تمثل الأم الطاعة والخضوع. ولأن الوالدين يشكلان الأنموذجين للأبناء فان الطفل يقلد الأب والطفلة تقلد الأم.. فينمو عن طريق التقليد تهيؤ نفسي لأن يأخذ الذكر دور الأب وتأخذ البنت دور الأم. وحين يبلغ السادسة من العمر تأتي المدرسة لتعزز أنماطا من السلوك المازوشي. فالدراسات تشير إلى أن النظم المدرسية العربية تسعى إلى الضبط الاجتماعي وتوليد المسايرة والانصياع لمعايير الجماعة، وأن الأنظمة التربوية العربية تقوم على تكريس علاقات السلطة الخاصة بالنظام الأبوي، وأن ما يتعرض له الأطفال من قهر وتسلط تربوي يضعهم في دائرة استلاب شاملة.

غير أن العامل الحاسم في شيوع السادية والماسوشية على صعيد الناس يعود إلى علاقة السلطة بمواطنيها. وللتوضيح فان " السلطة " هي غير "التسلط ". فالسلطة في المفهومين الفلسفي والأخلاقي، ضرورة اجتماعية " لتنظيم أمور المجتمع "، وضرورة نفسية " لتحقيق الشعور بالأمن " وضرورة أخلاقية " لتحقيق العدل بين الناس "، وهي بهذه المعاني تكون مشروعا تمارس بموجبه القوة " لا التسلط " لإقرار ما وجدت لأجله، فيما يتضمن التسلط معاني: الظلم والقهر والإرهاب والعنف والإكراه وما يماثلها.

ويكاد العراقيون ينفردون عن باقي الشعوب في علاقتهم بالسلطة. فعلى مدى ألف وأربعمائة سنة تولّى السلطة في العراق أربعة أنظمة هي:الأموي والعباسي والعثماني والبعث، مارست الظلم والطغيان والاضطهاد والعنف ضد الخصوم والتمثيل البشع برموزهم.

وعلى الرغم من اختلاف الزمن والظروف فان السلطة في أنظمة الحكم هذه تشترك في أنها مصابة بثلاثة أمراض هي السادية والسيكوباثية والنرجسية. ففيما يخص موضوعنا السادية فان السلطة في العراق وعبر أكثر من ألف سنة مارست مختلف الأساليب التي تجعل الناس ينظرون إلى " الخضوع " بوصفه حقا للسلطة وواجبا عليهم، ويتقبلون آلامهم ولا يشكونها حتى لأنفسهم، ليتحقق من خلال ذلك (معادل نفسي ) طرفاه "السادية " و"المازوشية " يمنح السلطة الشعور بالاطمئنان على ديمومتها.

ومن خصائص السادية أن صاحبها ( خليفة، ملك، رئيس جمهورية، حاكم أو والي مثل الحجاج..) يعمد إلى ذمّ الآخرين وازدرائهم والتقاط عيوبهم وتحقيرهم والبحث عن أخطائهم وتضخيمها من أجل معاقبتهم بشدّة. وتسيطر عليه دوافع تدفعه قسرا إلى تدمير سعادة الآخرين وتبديد آمالهم. وهو حين يرى إشارة ولو خفيفة يشعر فيها ما قد يفسّر أنه نيل من اعتباره فانه يصاب بنوبات من الغيظ الجنوني تدفعه إلى أن يتفنن في إنزال العذاب بمن يراه مذنبا بحقه،لأنه يشعر من الداخل بأنه منبوذ مقضي عليه.

وفي المقابل شاع بين الناس (ولا يشمل هذا النخب التي ثارت أو تمردت ضد السلطة) أنماط من السلوك المازوشي المتمثل بالخضوع للسلطة: " الياخذ أمي يصير عمي، " والاتكالية: " آني شعليّ".

آخر الساديات

يمثل النظام السابق آخر أنواع السادية التي مارستها السلطة في العراق. ففي السبعينيات بدأ تدجين للعراقيين على السلوك المازوشي وإشاعة مزاجه أخذ شكل الترغيب والترهيب للانتماء إلى حزب البعث الحاكم، ثم الإجبار على الالتحاق بالجيش الشعبي وعسكرة الناس الذي هو إجراء يعد من أعلى الممارسات في (معادل) السادي – المازوشي بين السلطة ورعاياها، والمبالغة في أساليب إذلال الناس وتحقيرهم، أقساها: أخذ ثمن الطلقات من أهل المعدوم الذي تم بها قتله، وعدم السماح بإقامة مجالس العزاء للذين تعدمهم السلطة، والإعدام في الساحات العامة للهاربين من الجيش.

وكان أن خلق حالة من الخوف والرعب الجماعي والرقابة الأمنية المؤسسية والحزبية، وأوصل الفرد العراقي إلى أقصى حالات اليأس المتمثلة بتوليد يقين لديه بأن تقرير مصيره بيد سلطة قوية لم تستطع أن تطيح بها ثلاثة حروب كبيرة وحصار شامل لثلاثة عشر عاما.

حتى " البطاقة التموينية " كان لها دور سيكولوجي في إشاعة المزاج المازوشي بتوليد وتقوية الشعور لدى المواطن بأن الدولة هي خيمته التي يستظل بها، وأن عليه أن يخضع لها حتى لو كانت ظالمة.

و"الحملة الإيمانية " أيضا كان لها هدف مازوشي هو توجيه المواطن نحو التذرع بالصبر على ما أصابه من محن وفواجع، والشكوى لله، وكبت شعور التذمّر من السلطة التي هي سبب محنه وفواجعه.

وهكذا تعمقت الهوة بين السلطة والناس، ونجم عن ممارسة السادية من قبل السلطة مبالغة في ممارسة المازوشية بين الناس وكبت ملأ الحوصلة وحقد يغلي من الداخل ينتظر لحظة الانفجار ليشفي غليله في انتقام بشع.

وأوضح سلوك مازوشي هو مناسبات العزاء في عاشوراء، ففي هذه الطقوس الشعبية يجري ضرب الكتفين بـ"الزنجيل " وضرب الرأس بـ"القامه " على إيقاع موسيقى الطبول والدفوف وروائح البخور وماء الورود، في حالة من التباهي بين الضاربين بالزناجيل والقامات في أيهم كتفاه أكثر احمرارا ودماء وأيهم تسيل الدماء من رأسه بغزارة، في دعاية جماهيرية لإشاعة سيكولوجيا المازوشية. وأخطر ما فيها إشراك الأطفال بالمواكب وتدريبهم على السلوك المازوشي بضرب الزنجيل في مشاهد تحبب جلد الذات العلني والتباهي به، في مواكب ظاهرها: التعبير عن حب وتقدير وتعظيم لرجل شجاع ومبدئي من طراز فريد وشهيد خالد ورمز للإنسانية في تحدي طغيان السلطة المتجسدة بشخص الإمام العظيم الحسين (ع)، وداخلها السيكولوجي: تنفيس عن المكبوت في أوقات الظلم، واستغاثة للخلاص في أوقات الأزمات، واثبات للذات وتنبيه للآخر في حالات توقع الخطر.. وهذا الأخير يغذيه الطائفيون ويوظفونه لأغراض سياسية.

وأرجو أن لا يفسّر كلامنا هذا بأن السلوك المازوشي صفة تنفرد بها الشيعة ( وكثير منهم مناضلون تحني رأسك لهم )، فللطوائف الأخرى سادياتها ومازوشياتها التي تتجسد بأعلى مواصفاتها في أوقات الأزمات كما هو حاصل الآن.

الكارثة في التبادل النفسي للأدوار

إن المبالغة في ممارسة المازوشية ينجم عنها مبالغة في ممارسة السادية في حالة تبادل الأدوار بين " الضحية " و " الجلاّد "، والمشهد العراقي يؤكد هذه الحقيقة السيكولوجية. فقد كانت السلطة في العراق بيد السّنة العرب أكثر من ألف سنة فيما كان الشيعة في دور " المعارضة " للزمن نفسه. وبالمعنى السيكولوجي لدى الشيعة، يعني هذا أن السّنة كانوا يمثلون دور السادي وأنهم مظلومون من ألف سنة. والذي حصل بعد التغيير 2003 تبادل للأدوار، فصار الشيعة في السلطة والسّنة في المعارضة، وتبادل في سيكولوجيا السادية والماسوشية بالتبعية نجم عنه أن الطائفة التي كانت تعدّ نفسها " ضحية " بالغت في الانتقام ممن تعدّه " جلادّها " حين امتلكت السلطة، وأن الطائفة التي كانت تعدّ " جلادّا " دافعت عن نفسها أن تكون "ضحية " وبالغت في الانتقام ممن تعدّه صار " جلادها ". وأصيب كلا الطرفين بحالة تعدت الخوف من الآخر إلى " بارانويا " في أقصى درجاتها بأن وصل كلاهما إلى الاعتقاد بأن الآخر قد رفع شعار: " لأتغدى بصاحبي قبل أن يتعشى بي !".

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق


التعليقات

محمد علي
العراق
يبدو المقال كأنه درس في علم النفس لاشخاص يبحثون عن لقمة العيش والمأوى والكرامة. ثم ما علاقة الاحتجاجات الاخيرة بصعود الشيعة الى الحكم وتنحي السنّة، أو بالشعائر الحسينية وما يقوم به الناس في عزاء الامام الحسين، عليه السلام؟ وهل هؤلاء مرضى مثل المتظاهرين بحاجة الى أطباء نفسانيين؟!!2019-10-08