لا يكمن سر الوجود الإنساني فقط في البقاء على قيد الحياة، بل بإيجاد شيء نعيش لأجله بمعنى آخر، الهدف من الحياة هو العيش في سبيل هدف. فإذا علمنا سبب وجودنا: وإذا امتلكنا سبباً لوجودنا- سنشعر بأننا أكثر ارتباطاً وأننا على قيد الحياة. أي هدف أعظم...
مانفريد كيتس دي فريز

 

يعد ديريك مثالاً على التنفيذي الناجح. فلطالما كان طالباً متفوقاً في المدرسة الثانوية لينتقل بعدها من دون جهد يذكر إلى أحد الجامعات المرموقة. ليلتقي خلال سنوات الدراسة بزوجته المستقبلية ويتزوجا مباشرة بعد التخرج. وبعد عمله لبضع سنوات في شركة استشارات رائدة، قرر ديريك الحصول على شهادة الماجستير في إدارة الأعمال من إحدى أشهر الكليات. انضم بعدها إلى بنك استثماري شهير في وول ستريت، ليصبح شريكاً خلال وقت قصير. خلال سنوات مسيرته المهنية الناجحة، أصبح أباً فخوراً لثلات فتيات.

كان ديريك خلال مراحل حياته شخصاً ذو تركيز عالي، سواء في العمل أو المنزل. وبالرغم عن عدم إفصاحه عنه بشكل واضح إلا أن هدفه في الحياة أن يصبح معيلاً ممتازاً. تغيرت الظروف، فعندما تركت ابنته الصغرى الجامعة، اضطربت مشاعره ما بين الشعور بالفراغ وعدم وجود هدف يعيش لأجله. وتساءل عما حل بثقته بنفسه التي لطالما كانت لديه، وشعوره بوجود هدف يعيش لأجله. شعر في أعماقه بالإحباط. وأدرك عندما استرجع شريط حياته أنه لم يقضي الوقت الكافي مع بناته كون كان منغمساً في العمل. ووجد نفسه بعيداً عن زوجته أيضاً. باختصار، وجد ديرك نفسه متخبطاً بعد انقضاء اهم فترات حياته.

لم يكن ديريك الشخص الوحيد الذي يكافح لإيجاد معنى لوجوده. فهو موضوع يقلق الكثيرين في مراحل متاخرة من حياتهم. فالحياة الخاوية تتطلب إعادة النظر بحياتهم بما في ذلك زواجهم، وفي أغلب الوقت لا يعجبهم ما يرون. لا عجباً أن تزيد معدلات الطلاق عند الأشخاص الذي تجاوزوا الخمسين.

مع تقدمنا بالعمر نحتاج لإيجاد معنى جديد لحياتنا

أنهى الرسام الفرنسي بول جوجان عام 1897 وكان يبلغ من العمر آنذاك 49 عاماً، لوحته التي حملت عنوان: من أين أتينا؟ ومن نحن؟ وإلى أين نحن ذاهبون؟. نستطيع أن نفهم من رسالته أن اللوحة عبارة عن تأملات في الولادة والحياة والموت، ومستوحاة من الأساطير التاهيتية. تناولت اللوحة أسئلة جوهرية حول جذور الإنسان ومعنى الوجود الإنساني. اعتبر جوجان لوحته تحفة لا سيما كونها جاءت في مرحلة من حياته كان يعاني فيها العديد من الضغوطات.

كما كتب فيودور دوستويفسكي: "لا يكمن سر الوجود الإنساني فقط في البقاء على قيد الحياة، بل بإيجاد شيء نعيش لأجله". بمعنى آخر، الهدف من الحياة هو العيش في سبيل هدف. فإذا علمنا سبب وجودنا: وإذا امتلكنا سبباً لوجودنا- سنشعر بأننا أكثر ارتباطاً وأننا على قيد الحياة. أي هدف أعظم يرتبط بنظرة إيجابية تجاه الحياة، وسعادة أكبر، فكلما زاد شعورنا بالرضا كلما زادت ثقتنا بنفسنا. وقد تؤثر حالتنا النفسية بقدرتنا على محاربة الأمراض. فشعورنا بوجود هدف معين قد يكون عائقاً أمام شعورنا بالشيخوخة. فكبار السن الذين يعيشون من أجل تحقيق أهداف ذات معنى سيختبرون تلك المرحلة من حياتهم بشكل أفضل.

وعلى العكس من ذلك، فإن عدم وجود هدف يجعلنا عرضة للاكتئاب والقلق والإدمان. وقد يتسبب بأزمة في الحياة الزوجية. لذا من الضروري أن نسأل أنفسنا باستمرار: من أنا؟ ولماذا انا هنا؟ وما هو المعنى الحقيقي للحياة؟ وما المغزى من حياتي؟ على الرغم من أننا سعينا لإيجاد إجابات على تلك الأسئة في مرحلة من مراحل حياتنا وشعرنا أنه ينبغي علينا فهم أسباب وجودنا.

ما وراء الاحتياجات البيولوجية

الهدف الرئيسي للحياة من وجهة نظر تطورية هو الاستمرار بالعيش. برنامج بيولوجي من أجل البقاء والتكاثر يؤكد ماهية تعقيد دورات الحياة، والتي يكون الموت فيها هو نقطة التعادل. ولكن حتى بعد موتنا ستنتقل جيناتنا إلى الجيل التالي، ليظهر السؤال الوجودي من جديد: ماذا بعد؟

يمكن القول أن هذا السؤال يطاردنا أكثر من أي وقت مضى كوننا نعيش اليوم حياة أطول. نحن لسنا مثل أسماك السلمون في المحيط الهادئ التي تسبح في اتجاه المنبع لتبيض، فقط لتموت بعدها مباشرة. وكما يوضح مثال ديريك فإن حياة الإنسان العاقل أقل وضوحا. فطول فترة حياة الإنسان تساهم في توسيع فراغنا الوجودي.

في كتابه "الأخلاق النيقوماخية"، يرى أرسطو أننا نحتاج إلى التمييز بين اللذة الحسية "hedonia" والقيم الخيرية والعقلية "eudaimonia" من أجل الوصول للسعادة القصوى. تعزى اللذة الحسية إلى الاحتياجات الذاتية التي يؤدي الشعور بالرضا عنها إلى متعة مؤقتة. وعلى النقيض فإن القيم الخيرية والعقلية، هي حالة أكثر موضوعية للسعادة، أي أن نعيش حياتنا جيداً. بحسب أرسطو، السعادة هي أكثر من مجرد ملذات مؤقتة. فمن أجل الوصول إلى السعادة الحقيقة نحتاج إلى إدراك إمكاناتنا.ويبدأ معنى حياتنا عندما نفهم من نحن وكيف نستطيع أن نتأقلم مع عالمنا.

تحمل مسؤولية حياتنا

وجد العديد من الأشخاص في الماضي، الراحة ومعنى الحياة في الدين. ولكن مع انحسار دوره في المجتمع المعاصر، أصبح من الأصعب الاعتماد عليه لإيجاد أجوبة لسبب وجودنا هنا. لا يعني ذلك أنه يتوجب علينا تفادي مسألة الوجود.

لاحظ الطبيب النفسي والناجي من محرقة الهولوكوست فيكتور فرانكل، من خلال تجربته الشخصية في معسكر الاعتقال، أن السجناء اللذين لديهم فرصة أكبر للنجاة ليس من يتمتعون بلياقة بدنية أكبر، بل أولئك الذين يتمتعون بمعتقدات الأقوى. ولاحظ أنه بمجرد أن يفقد السجين الأمل، يصبح محكوم عليه بالفشل. كانت قدرتهم على إيجاد المعنى هي السبب بنجاتهم. يرى فرانكل في كتابه "إرادة المعنى"، أن الحياة من دون معنى إلا في حال خلقنا هدفاً وجودياً. وبغض النظر عن مصيرنا البيولوجي، يبقى دافعنا الأساسي في الحياة هو اكتشاف معنى لحياتنا والسعى وراءه.

من وجهة نظر وجودية، فإن حالة الاكتئاب التي سيطرت على ديريك، لن تجعله مدركاً لوفاته فحسب، بل تحدته أيضًا للخروج من رداءه الذي طالما ارتداه. كان عليه أن يدرك أننا لسنا مجرد منتج لعامل الوراثة والبيئة. وأننا نمتلك القدرة على اتخاذ القرارات وتحمل مسؤولية حياتنا.

الآن أصبح أطفاله أشخاصاً مستقلين، ويتوجب على ديريك إعادة اكتشاف قيمة حياته وإيجاد هدف لها. وأن يعول على الماضي والحاضر والمستقبل. وأن يسعى جاهداً لتحريك ما بداخله. بعد ذلك، في حال لم يدرك ماهية ما هو عليه، لن ينجح أبدأُ بإيجاد إجابات. وللمضي قدماً يتوجب عليه التركيز على الأمور التي يحبها. وتوظيف مهاراته ومعارفه لصالح ما يجعله يشعر بوجوده على المدى الطويل. مع ذلك، وبعيداً عن القيم الخيرية والعقلية -مخاوف حول عيش حياته بشكل أفضل- يجب أن لا ينسى ديرك أن يولي اهتماما للذة الحسية من خلال خلق خبرات ولحظات سعيدة.

البحث بشكل أكبر عن معنى لحياتنا

بالنسبة لأربشطو وفرانكل، الهدف هو الأهم في الحياة. وتزداد الحاجة للهدف بشكل خاص عقب التقاعد- عندما لا نستطيع الاعتماد على عمل منتظم ينظم حياتنا اليومية. وفي حال عجزنا عن إيجاد إجابة على مسألة الهدف، ستبقى حياتنا سطحية وفارغة بالرغم من توافر الموارد.

الأفراد الذين يمتلكون إحساساً عالياً بالهدف، والذين ينجحون بإيجاد طرق جديدة لإيجاد معنى لحياتهم، يمتلكون وصفة ناجحة للتقدم في العمر. يأتي ذلك إلى جانب عوامل رئيسة: الهدف من الحياة هو العيش في سبيل الآخرين. فالتشابه مع الآخرين، ونسيان ماهية أنفسنا، قد يخلق شعوراً كبيراً بالرضا. وجدنا بناءً على ذلك أمراً بالغ الأهمية، العلاقة التكافلية بين السعادة الشخصية وسعادة البشرية والكون.

بمجرد أن قمنا بكل ذلك وأصبحنا جاهزين، فقد حان الوقت لأن نسأل أنفسنا كيف نوائم العوامل التي تعزز سعادتنا الشخصية مع الآخرين الذي يعملون في سبيل سعادة الجماعة أو العالم. وكما قال ديسموند توتو، الناشط الحقوقي الجنوب أفريقي، والحائز على جائزة نوبل للسلام: "إنسانيتي مرتبطة بك، فبذلك نستطيع أن نكون جميعنا".

* مانفريد كيتس دي فريز، أستاذ مساعد في تنمية المهارات القيادية والتغيير التنظيمي بكلية إنسياد
https://knowledge-arabia.insead.edu

اضف تعليق