سياسة - قضايا استراتيجية

كيف يمكن عقد صفقة مع بوتين؟

المعاهدة الشاملة تشكل الطريقة الوحيدة لتجنب الحرب

بعد عقود من الانقسام، سيكون من الصعب، وربما من المستحيل، على روسيا والغرب إبرام أي صفقات أمنية بشأن أوروبا. إذ لا يملكان سوى قليل من الثقة في بعضهما بعضاً، وتوجد أسباب متعددة تدعوهما إلى الشك. لكن، بالنظر إلى المخاطر، يتعين عليهما المحاولة. إذا أشار بوتين إلى التزامه بالتفاوض...
بقلم: مايكل ماكفويل- فورين أفيرز

وضع فلاديمير بوتين العالم في حالة من التوتر والتأهب، إذ نشر الرئيس الروسي أكثر من 100 ألف جندي على حدود أوكرانيا، وهدد بإجراءات "عسكرية تقنية" إذا استمر "حلف الناتو" في التعاون مع كييف. ومن جانب واحد، عمد إلى صياغة معاهدتين صارمتين للغاية في ديسمبر (كانون الأول) بهدف تقييد تلك المنظمة وأعضائها. وتحتوي المعاهدتان على مطالب لا جدوى منها، أهمها إغلاق باب "الناتو" المفتوح أمام أوكرانيا وحظر قوات تلك المنظمة [الناتو] وأسلحتها في الدول التي انضمت [إلى الناتو] بعد مايو (أيار) 1997، لدرجة أنها [المطالب] تبدو إلى حد كبير أسساً للحرب أكثر من كونها مبادرات صادقة للمفاوضات.

وعلى الرغم من ذلك، قدم الرئيس الأميركي جو بايدن و"حلف شمال الأطلسي" ردوداً مكتوبة مفصلة في يناير (كانون الثاني) 2022، في محاولة لبدء حوار مع الزعيم الروسي. إذا رفض بوتين تلك العروض، فمن المرجح أن تندلع الحرب. وحتى الآن، لم ترفض موسكو المفاوضات رفضاً قاطعاً. في الواقع، لن يكون غزو أوكرانيا أمراً سهلاً، ويدرك بوتين أن قتل آلاف الأشخاص في دولة يصفها بأنها "جزء من روسيا" سيكون من الصعب شرحه لمواطنيه، خصوصاً إذا تكبد الجيش الروسي خسائر كبيرة أيضاً. وفي سياق متصل، ذكر وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن رد الولايات المتحدة على الاقتراح الأولي يتضمن "نواة من العقلانية"، ولا يزال بوتين يتحدث ويلتقي بالقادة الغربيين، بمن فيهم بايدن والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتز ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون.

إذا وافق بوتين على التفاوض، لا ينبغي لبايدن وفريقه تقديم تنازلات دفاعية صغيرة فحسب بهدف تجميد الأزمة. عوضاً عن ذلك، بالتنسيق مع الحلفاء والشركاء، يجب على الرئيس الأميركي أن يعتمد الهجوم الدبلوماسي ويقدم في المقابل صفقة شاملة وكبيرة تهدف إلى تعزيز الأمن الأوروبي. ومن الممكن أن تعطى اسم "معاهدة هلسنكي 2.0"، إذ يمكنها أن تعمل على تجديد "معاهدة هلسنكي" الموقعة خلال "الحرب الباردة" وتحديثها، علماً أنها أدت إلى استقرار القارة حتى مع ازدياد المنافسة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي في أجزاء أخرى من العالم. كذلك، يمكن لتلك المعاهدة أن تنعش وتعدل الاتفاقات المهملة المتعلقة بالحد من الأسلحة، وتوفر إطاراً أكبر للأمن الأوروبي، بينما تساعد في الوقت نفسه على حل القضايا المتعلقة بأوكرانيا.

في مقلب مغاير، سيسهم عقد قمة كبرى تهدف إلى إعادة التفاوض بشأن الأمن الأوروبي في منح روسيا منصة دولية لا يستحقها بوتين. لكن تلك الرمزية يجب ألا توقف بايدن وقادة "الناتو" والديمقراطيات الأوروبية الأخرى. وبالاسترجاع، اعترفت "اتفاقات هلسنكي" بالاتحاد السوفياتي كقوة عظمى، وقد ساعد ذاك الإقرار على إقناع الزعيم السوفياتي ليونيد بريجنيف بتقديم تنازلات. وفي الحقيقة، يحب بوتين لفت الانتباه أيضاً، لذا ينبغي أن يكون الغرب مستعداً لتقديم أبهة رخيصة ليس بهدف منع غزو روسي جديد لأوكرانيا فحسب، بل أيضاً لإصلاح البنية الأمنية الأوروبية المكسورة. كذلك يجب أن تتحلى الولايات المتحدة وأوروبا بالشجاعة لتجاوز الإصلاحات الدفاعية المرقعة، وتنتقل بدلاً من ذلك، إلى مبادرات جريئة وقوية بهدف جعل القارة أكثر أماناً.

رويداً رويداً

ظاهرياً، لم تكن سبعينيات القرن العشرين أوقاتاً ميمونة في التسوية السوفياتية الأميركية. إذ اعتقد عدد من المراقبين أن قوة الكرملين كانت تزداد فيما كانت قوة واشنطن آخذة في الانهيار. إضافة إلى ذلك، أخذ الشيوعيون يستولون على السلطة في أجزاء من جنوب شرقي آسيا وجنوب أفريقيا، وكذلك تصاعد التوتر بين الكتل الرئيسة في العالم.

لكن، في منتصف ذلك العقد، وضع الدبلوماسيون الكنديون والسوفيات والأميركيون والأوروبيون خلافاتهم الواسعة والأساسية جانباً، من أجل مناقشة قضية ذات اهتمام مشترك، هي الأمن الأوروبي. وبعد سنوات عدة من المفاوضات، أنتجوا ووقعوا في 1975 "شرعة هلسنكي النهائية"، التي قننت قضايا غامضة متبقية من الحرب العالمية الثانية. في قلب تلك الاتفاقات وضعت تسوية محورية، تمثلت في اعتراف الدول الغربية، بحكم الأمر الواقع، بالحدود التي نتجت من الغزوات السوفياتية بعد الحرب العالمية الثانية، وفي المقابل، وافق الاتحاد السوفياتي على "احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية، بما في ذلك حرية الفكر أو الضمير أو الديانة أو المعتقدات للجميع من دون تمييز على أساس العرق أو الجنس أو اللغة أو الدين"، وانضم [الاتحاد السوفياتي] إلى "مؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا" (CSCE) المكلف بتنفيذ تلك الالتزامات. بطريقة موازية، اتفق الاتحاد السوفياتي والغرب ضمنياً على الاختلاف بشأن التعريفات الدقيقة حول مساءلة موثوقية الحكومة، وحقوق الإنسان، والحقوق الاقتصادية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وأظهرا أن الغموض ضروري في بعض الأحيان من أجل دبلوماسية فاعلة.

في العقدين الأولين بعد توقيع "اتفاقات هلسنكي"، شهدت أوروبا زيادة هائلة في الاتفاقات والمعاهدات الأمنية الجديدة، خصوصاً بعد وصول المصلح السوفياتي ميخائيل غورباتشوف إلى السلطة. في 1987، انضم غورباتشوف إلى الرئيس الأميركي رونالد ريغان في التوقيع على "معاهدة الصواريخ النووية المتوسطة المدى" (INF)، والقضاء على فئة كاملة من الأسلحة المزعزعة للاستقرار بدرجة كبيرة. في 1990، ظهرت "معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا" (CFE)، فقللت بشكل كبير من حجم القوات التقليدية المنتشرة في القارة. وفي منحى مقابل، أسهمت "وثيقة فيينا" 1990، التي وقعتها كندا، والاتحاد السوفياتي، والولايات المتحدة، ومعظم دول أوروبا وآسيا الوسطى، في توسيع الشفافية حول الأسلحة والتدريبات العسكرية.

بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، واصلت روسيا والغرب عقد الصفقات التي ساعدت في الحفاظ على أمن أوروبا. إذ سمحت "معاهدة الأجواء المفتوحة" 1992، التي أعقبت "وثيقة فيينا"، للأطراف الموقعة النهوض بمهمات استطلاعية عبر أراضي بعضها بعضاً، من أجل جمع معلومات عن الأنشطة العسكرية. في المقابل، أعلن "ميثاق باريس" الطموح 1990 أن جميع الموقعين الأوروبيين سوف "يبنون ويرسخون ويعززون الديمقراطية باعتبارها نظام الحكم الوحيد في دولنا"، وصرح [ميثاق باريس] قبل الأوان أن "عصر المواجهة والانقسام في أوروبا قد انتهى". وكذلك عملت "مذكرة بودابست" 1994 بشأن الضمانات الأمنية لأوكرانيا، على إرسال أسلحة كييف النووية إلى روسيا مقابل وعود بأن تحترم موسكو والمملكة المتحدة والولايات المتحدة سلامة أراضي أوكرانيا. بطريقة موازية، أسهم "القانون التأسيسي لحلف الناتو وروسيا" 1997 في وضع آليات التنسيق بين الطرفين، ما مثل خطوة مهمة في التعاون.

في مسار مختلف، خلال العقد التالي، تدهورت العلاقات بين الجانبين. وصل بوتين إلى السلطة في 2000، وازدادت خيبة أمله تدريجياً تجاه الغرب مع زيادة توسع "الناتو" في 2004، وبدء واشنطن الحرب في العراق، وبعد ما يسمى "الثورات الملونة" في جورجيا 2003 وأوكرانيا 2004. في غضون ذلك، لم يعد الغرب راضياً عن موسكو بعد أن شنت روسيا الحرب الشيشانية الثانية، وصارت أكثر استبدادية، وغزت جورجيا واعترفت بأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية كدولتين مستقلتين في 2008، وضمت [شبه جزيرة] القرم في 2014، ثم دعمت الانفصاليين في شرق أوكرانيا، ما أدى إلى استمرار الحرب ومقتل الآلاف.

بالتالي، بدأت الاتفاقات الأمنية الأوروبية المعقودة خلال العقدين الماضيين في الانهيار. إذ توقفت روسيا عن تنفيذ "معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا" في 2007. ثم انتهك بوتين تقريباً كل اتفاق أمني أوروبي ودولي وقعه أسلافه في الكرملين. وتوقفت الولايات المتحدة عن الوفاء بالتزاماتها في ما يتعلق بـ"معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا" مع حلول سنة 2011، وانسحبت أيضاً من معاهدتي "الصواريخ النووية المتوسطة المدى" و"الأجواء المفتوحة" في عهد الرئيس السابق دونالد ترمب. في المقابل، لم تعد "وثائق فيينا" تفعل شيئاً يذكر اليوم من أجل تعزيز الشفافية، وباتت "منظمة الأمن والتعاون في أوروبا" (OSCE)، التي "خلفت مؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا"، عاجزة إلى حد كبير لأن موسكو تعترض على جهودها الرامية إلى مراقبة الانتخابات وحماية حقوق الإنسان.

التوصل إلى اتفاق

بعد عقود من الانقسام، سيكون من الصعب، وربما من المستحيل، على روسيا والغرب إبرام أي صفقات أمنية بشأن أوروبا. إذ لا يملكان سوى قليل من الثقة في بعضهما بعضاً، وتوجد أسباب متعددة تدعوهما إلى الشك. لكن، بالنظر إلى المخاطر، يتعين عليهما المحاولة. إذا أشار بوتين إلى التزامه بالتفاوض فيجب على بايدن وشركائه الأوروبيين أن يخرجوا كل ما في جعبتهم. ففي النهاية، تحتاج بنية الأمن في أوروبا إلى إصلاح حقيقي وتجديد إبداعي.

وعلى نحو مماثل، ينبغي أن يبدأوا بخطوات نحو تجديد الشفافية، الأمر الذي سيسمح لكل بلد بمراقبة نشاطات الطرف الآخر والتنبؤ بشكل أفضل بإجراءات بعضهم بعضاً. في الوقت الحالي، تمتلك روسيا والولايات المتحدة وأوروبا معلومات أقل عن نشر الجنود والأسلحة المنافسة بالمقارنة مع أي وقت مضى منذ نهاية "الحرب الباردة". إذاً، يمكن لصفقة كبيرة جديدة بشأن الأمن الأوروبي أن تلزم جميع الموقعين بمراقبة نشر القوات، ونشر الأسلحة، والتدريبات العسكرية بشكل أكثر تواتراً. في الواقع، تعلمت الولايات المتحدة وروسيا كيف تنفذان بنجاح نظام تفتيش قوي، من معاهدة "نيو ستارت" (New START Treaty) التي تحد من عدد الرؤوس الحربية النووية والقاذفات التي يمكن لكل دولة استخدامها.

واستطراداً، تعتبر معاهدة "نيو ستارت" من الصفقات الأميركية الروسية القليلة التي لا تزال سارية، ويمكن لاتفاق أوسع أن يشارك التزامات تلك المعاهدة في ما يتعلق بعمليات التفتيش خلال مهلة قصيرة والفحص الدقيق لأنظمة الأسلحة. بالتالي، يمكن أن تسمح معاهدة "هلسنكي 2.0" للمفتشين الروس بزيارة مواقع الدفاعات الصاروخية الأميركية في بولندا ورومانيا، وكذلك يمكن لمراقبي حلف "الناتو" أن يحظوا بشكل مماثل بقدرة الوصول إلى صواريخ "إسكندر" الروسية في "كالينينغراد" [مقاطعة روسية تطل على بحر البلطيق وتحاذي بولندا، وغير متصلة جغرافياً مع روسيا].

وبطريقة موازية، تستطيع موسكو وواشنطن تعزيز الشفافية من خلال إعادة الانضمام إلى اتفاقات كانت فعالة سابقاً، مع تعديلها وتحديثها، على غرار "معاهدة الأجواء المفتوحة" و"معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا". وبهدف تجنب حسابات خاطئة خطيرة، يجب على الدولتين أيضاً العمل على إحياء "وثائق فيينا". واستطراداً، يعني ذلك أنه يتعين على روسيا وكل دول "الناتو" تقديم إخطارات محددة حول التدريب، وفرض قيود جديدة على نطاق التدريبات ومواقعها، خصوصاً أن الاستعدادات للتمارين يمكن أن تبدو شبيهة جداً بالتخطيط لهجوم حقيقي.

وعلى نحو مشابه، ينبغي للدبلوماسيين أيضاً نفض الغبار عن الأفكار القديمة التي لم تؤتِ ثمارها، وتحديثها وتنفيذها. في سياق متصل، فشلت روسيا والولايات المتحدة في تنفيذ مذكرة اتفاق في 2000 بشأن تبادل البيانات حول إطلاق الصواريخ، معروفة باسم "المركز المشترك لتبادل البيانات" (JDEC)، وذلك بسبب الجوانب الفنية وتصاعد الأعمال العدائية في العلاقات الأميركية الروسية. في المقابل، فإن مبادرة من هذا النوع بين موسكو و"حلف شمال الأطلسي" أو بين جميع أعضاء "منظمة الأمن والتعاون في أوروبا" [روسيا عضوة فيها]، من شأنها أن تعزز أمن أوروبا بالكامل (بما في ذلك روسيا)، وقد تحظى بفرص أفضل للنجاح.

وبالطبع، ليست الشفافية سوى جانب واحد من جوانب ضبط التسلح. وبعد موافقة روسيا والغرب على فتح أنظمتهما للتفتيش، سيحتاج الدبلوماسيون إلى التركيز على مسألة الضبط بحد ذاته. يجب أن يبدأوا بمعالجة القوى الأكثر زعزعة للاستقرار، أي القوات والأسلحة المتمركزة على الحدود الروسية أو بالقرب منها. وبصورة متبادلة، على نحو يمكن التحقق منه، ينبغي لجميع الأطراف سحب تلك القوى، بدءاً من الجيش الروسي الضخم الذي حشد حول أوكرانيا اليوم. إضافة إلى ذلك، يتعين عليهم سحب صواريخهم. قد يبدو ذلك كأنه طلب يصعب أن يطلب من موسكو، لكن بوتين اقترح ألا ينشر الموقعون صواريخ أرضية متوسطة وقصيرة المدى في مناطق تمكنها من الوصول إلى [أراضي] الموقعين الآخرين. وقد أكد التعليق الروسي على إبقاء جميع تلك الأسلحة خارج أوكرانيا. في الواقع، يعتبر المطلب الروسي معقولاً طالما أن موسكو ستضع قيوداً مماثلة على الصواريخ القصيرة المدى التي يمكن أن تضرب كييف أو ريغا أو تالين أو فيلنيوس أو وارسو.

على نحو مماثل، تستطيع إدارة بايدن أيضاً اقتراح بعض القيود على الدفاعات الصاروخية في أوروبا. وقد توافق واشنطن على الامتناع عن نشر أنظمة دفاعية في القارة يكون لها قدرات مضادة للصواريخ الباليستية الروسية العابرة للقارات، في مقابل قيود على الدفاعات الصاروخية الروسية ضمن المسرح الأوروبي. قد يبدو الأمر كأنه تنازل أميركي كبير، لكنه ليس كذلك. في الواقع، لا تمتلك الصواريخ الاعتراضية الأميركية التي يجري نشرها حالياً (SM3s) أي قدرة ضد الأسلحة الاستراتيجية الروسية. والجدير بالذكر أن أذكى مكان للصواريخ الاعتراضية القادرة على الدفاع عن الوطن الأميركي ضد أسلحة روسيا أو كوريا الشمالية (الصواريخ الاعتراضية الأرضية أو GBI) هو "آلاسكا" [الولاية 49 من الولايات المتحدة]، حيث يتمركز معظمها بالفعل.

وبهدف حماية الولايات المتحدة وأوروبا بشكل أفضل من الهجمات السريعة والمدمرة، يجب على المفاوضين أيضاً محاولة تقليل العدد الإجمالي للصواريخ، خصوصاً النووية منها. من ناحية مثالية، ستعود روسيا والولايات المتحدة إلى "معاهدة الصواريخ النووية المتوسطة المدى" (INF) وتنفذانها بمصداقية. وبغية تحقيق ذلك، سيتعين على روسيا الموافقة على تضمين صاروخها "أم 7299" (9M729) في تلك المعاهدة. وإذا ثبت أنه من المستحيل فرض حظر كامل على الصواريخ الباليستية وصواريخ "كروز" الأرضية المتوسطة المدى في أوروبا، يمكن للمفاوضين في الأقل حظر تسليح هذه الأنواع من الصواريخ برؤوس حربية نووية. وعلى الرغم من صعوبة التحقق من ذلك، يجب على المفاوضين أيضاً محاولة تقييد أو حظر نشر الأسلحة النووية التكتيكية في أوروبا (بما في ذلك الأراضي الروسية غرب جبال الأورال).

واستكمالاً، يجب على الدبلوماسيين أيضاً محاولة تقليل كمية الأسلحة التقليدية في القارة، وتجاوز المعاهدات الأصلية أو المعدلة عن "القوات المسلحة التقليدية في أوروبا". وإذا تبين أنه من المستحيل فرض قيود جديدة على الأسلحة التقليدية، يمكن للمفاوضين النظر في حدود إقليمية أكثر تواضعاً، على غرار منطقة البلطيق أو البحر الأسود. إضافة إلى ذلك، يجب أن يحاولوا وضع قيود في أوروبا على القنابل العنقودية والأسلحة السيبرانية التي يمكن أن تستهدف المدنيين والبنية التحتية الحيوية.

أخيراً، ينبغي للدبلوماسيين الغربيين الإصرار مرة أخرى على ضرورة حصول بوتين على إذن قبل إرسال قوات إلى دول أخرى، الأمر الذي قد يبقي روسيا متماشية مع الاتفاقات التي وقعها قادتها السابقون. في منحى مقابل، سوف يجادل بوتين بشأن الهوية الشرعية للدولة المضيفة في شبه جزيرة القرم وأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية. ولكن، قد يجري إقناعه بالتنازل عن المطالبة بأن يكون لروسيا حق الموافقة في بعض المناطق المنشقة، على غرار "ترانسنيستريا" في مولدوفا ودونيتسك ولوغانسك في أوكرانيا، إذا كان بإمكان الدول المتحالفة ضمن "الناتو"، في المقابل، إسقاط المطلب المنصوص عليه في "معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا" الذي يفرض قيوداً على تحركات القوات الروسية بين مناطق مختلفة، أو "أجنحة" مختلفة، في روسيا. (بالطبع، لن يعني هذا البند الجديد إعطاء الضوء الأخضر للحشد العسكري على حدود الدول الأخرى). وتجدر الإشارة إلى أن مثل تلك الصفقة غير مرجحة، لكن يجب على الدبلوماسيين الغربيين تأكيد مبدأ موافقة الدولة المضيفة.

الاتفاق على عدم الاتفاق

طوال الأزمة الحالية، جادلت موسكو بأن أمن كل دولة مرتبط بأمن الدول الأخرى. وفي ذلك الإطار، استشهد لافروف مراراً وتكراراً في مقابلاته واجتماعاته مع نظرائه الغربيين، بـ"ميثاق إسطنبول" و"إعلان أستانا" الموقعين في "منظمة الأمن والتعاون في أوروبا"، اللذين أعلنا أن "أمن كل دولة مشاركة مرتبط بشكل لا ينفصل بأمن جميع الدول الأخرى" و"كل دولة مشاركة تتمتع بحق في الأمن متساوٍ مع حق غيرها من الدول". وفي سياق متصل، اقترح بوتين كجزء من مسودة المعاهدات الخاصة به، عدم قيام أي دولة موقعة "بتعزيز أمنها بشكل فردي، داخل المنظمات الدولية أو التحالفات أو الائتلافات العسكرية، على حساب أمن الأطراف الأخرى".

في الواقع، يعتبر الكرملين محقاً في أن لكل دولة حقاً متساوياً في الأمن. بيد أن سلوك روسيا يناقض خطاب لافروف وبوتين. إذ اتخذت موسكو عدداً من الإجراءات "على حساب أمن الأطراف الأخرى"، بما في ذلك الهجمات السيبرانية ضد إستونيا في 2007، والتدخلات العسكرية في جورجيا وأوكرانيا، وضم شبه جزيرة القرم، ودعم حرب انفصالية في دونباس. واستطراداً، يذكر بوتين المخاوف الأمنية الروسية كسبب في منع أوكرانيا من الانضمام إلى "الناتو"، غير أن جنود "الناتو" ونشطاءه لم يقتلوا أي شخص على الإطلاق في روسيا. على النقيض من ذلك، نفذت القوات الروسية وضباط المخابرات عمليات اغتيال في برلين ولندن وسالزبوري. كذلك حاولوا قتل أحد أشهر قادة المعارضة الأوروبية، الروسي أليكسي نافالني، في مدينة "تومسك" الروسية.

وفي سياق متصل، فإن التركيز على المواضيع غير المجدية، على غرار مطالب بوتين بتعليق توسع "الناتو" رسمياً، أو إصرار الغرب على انسحاب روسيا من شبه جزيرة القرم، سيجعل التوصل إلى اتفاق أمني جديد أمراً مستحيلاً. في المقابل، يمكن للمفاوضين إحراز تقدم من خلال التركيز على قضايا أخرى، ثم دمج المشكلات المستعصية ضمن صفقة أكبر. في الواقع، قد يؤدي توسيع حلقة المفاوضات إلى خلق فرص أمام صفقات غير متوفرة حاضراً. ومثلاً، إذا سحبت روسيا دعمها لما يسمى بالانفصاليين في دونباس، قد تلتزم الولايات المتحدة عدم تثبيت صواريخ هجومية في أوكرانيا، وعدم نشر دفاعات صاروخية في أوروبا تكون قادرة على اعتراض الأسلحة الروسية. ويشار إلى أن هذا النوع من الصفقات غير متاح من خلال "صيغة نورماندي" المخصصة للتفاوض على تسوية سلمية بين موسكو وكييف، والمقتصرة على فرنسا وألمانيا وروسيا وأوكرانيا والمملكة المتحدة.

وبطريقة موازية، يجب أن تتضمن "معاهدة هلسنكي 2.0" أحكاماً جديدة أيضاً متعلقة بالأمن الفردي وحقوق الإنسان وعدم التدخل. ومن الواضح أن الموقعين بحاجة إلى التعهد بعدم اغتيال مواطنين أوروبيين آخرين داخل أو خارج حدودهم. وعلى نحو مماثل، يجب أن تحظر تلك المعاهدة الاختطاف، فلا تستطيع بيلاروس إسقاط طائرات لاعتقال شخصيات معارضة. كذلك، يجب على جميع الموقعين [على تلك المعاهدة المقترحة] التزام تحسين معاملتهم اللاجئين. علاوة على ذلك، يمكن لصفقة جديدة أن تمنع الدول من التدخل في انتخابات بعضها بعضاً. ويعني ذلك أن موسكو ستتوقف عن التمويل أو الدعم غير المباشر للأحزاب السياسية والمرشحين في البلدان الأخرى. ويمكن أن يلتزم بايدن الشيء نفسه، بما أن الولايات المتحدة لا تفعل ذلك الآن.

في المقابل، لا ينبغي أن تتمتع الدول الفردية بحق الإعلان بصورة فردية أن دولاً أخرى تهدد أمنها أو تتدخل في شؤونها الداخلية. في ذلك الإطار، لا يمكن لروسيا أن تدعي أن حكومة موالية لأوروبا في أوكرانيا تشكل بحد ذاتها تهديداً لموسكو، أو أن تصريحات الولايات المتحدة التي تدافع عن حقوق الإنسان في روسيا تشكل تكتيكات ضد الكرملين تهدف إلى تغيير النظام. ومن أجل البحث في شرعية الشكاوى، يجب على مهندسي "معاهدة هلسنكي 2.0" محاولة إنشاء هيئة تحكيم مستقلة يمكنها الفصل في الدعاوى الأمنية، على غرار الآلية التي تعتمدها "منظمة التجارة العالمية" في فض النزاعات التجارية. في البيئة الحالية المنقسمة، لن تكون محكمة من هذا النوع فاعلة. في المقابل، ستخلق مؤسسة يمكنها مراكمة سوابق قضائية، وبناء آلية فاعلة، وربما الحصول على التقدير في المستقبل.

واستكمالاً، من خلال "هلسنكي 2.0"، لن يتمكن الدبلوماسيون من حل كل قضية تفسد العلاقات بين روسيا والغرب، تماماً على غرار تعمدهم عدم محاولة حل جميع المشكلات الأميركية السوفياتية أو المشكلات الأوروبية في "اتفاقات هلسنكي" الأصلية. في الواقع، يجب أن يكون المفاوضون مستعدين للاتفاق على عدم الاتفاق. وبهدف التأكد من أن الخلافات التي لم يجرِ حلها لا تعرقل الاتفاق الأوسع، يمكن للدبلوماسيين تسجيلها في رسائل جانبية أحادية الجانب وغير ملزمة. وقد يبدو تدوين الخلافات أمراً غير منطقي، لكن تلك الرسائل يمكن أن تشكل خططاً مستقبلية للدول إذا تغيرت الشروط الرئيسة المنصوص عليها في الاتفاق. من الممكن أيضاً إبلاغ المبادئ إلى الناخبين المحليين الذين قد يحتاج الدبلوماسيون إليهم للفوز بالتصديق. في سياق متصل، ساعدت الرسائل الجانبية الولايات المتحدة وروسيا مثلاً، في الاتفاق على معاهدة "نيو ستارت" في 2010، إذ إنها أعطت واشنطن مساحة في توضيح اعتراضاتها على قيود الدفاع الصاروخي، ووفرت طريقة لروسيا كي توضح ردودها على توسع الدفاعات الصاروخية الأميركية. في "هلسنكي 2.0"، يمكن لـ"حلف الناتو" والشركاء الأوروبيين الآخرين أن يوضحوا في رسالة جانبية، أنهم يرفضون الاعتراف بضم شبه جزيرة القرم أو منطقتي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية الجورجيتين كدولتين مستقلتين. ويمكن لروسيا أن تبدي اعتراضها على توسع "الناتو".

إيجاد الوقت

من أجل البدء بتلك المفاوضات الطموحة، يمكن لجميع قادة "منظمة الأمن والتعاون في أوروبا"، بمن فيهم بايدن وبوتين، الاجتماع في هلسنكي هذه السنة. عندئذ، ستعمل الدول على إرسال مبعوثين خاصين إلى هناك يكونوا ملتزمين التوصل إلى اتفاق جديد. وبطريقة موازية، يمكن تكملة عملهم من خلال مفاوضات في مقر "منظمة الأمن والتعاون في أوروبا" في فيينا، ومجلس "حلف شمال الأطلسي وروسيا" في بروكسل، والقنوات الثنائية الأميركية الروسية. واستطراداً، يمكن أن يسعى الدبلوماسيون إلى إكمال منتجهم النهائي مع حلول 2025، في الذكرى الخمسين لـ"شرعة هلسنكي النهائية".

في الواقع، سوف تثير تلك المفاوضات الانتقاد، لذلك يجب أن تكون الحكومات المشاركة مستعدة لشرح سبب أهمية العملية. بالنسبة إلى بايدن وبعض القادة الأوروبيين، لن يكون الأمر سهلاً. إذ إن بدء مناقشات شاملة مع روسيا حول الأمن الأوروبي يكافئ سلوك بوتين غير القانوني والعدائي. تلك هي الحقيقة. سيرفض بعض النقاد مبادرة من هذا النوع باعتبارها ترضية. وسوف يرددون صدى ما أورده المراقبون في سبعينيات القرن العشرين ممن اتهموا الغرب بنسيان تدخلات الاتحاد السوفياتي العسكرية غير المشروعة في المجر 1956 وتشيكوسلوفاكيا 1968، والاعتراف ضمنياً بأعمال الضم التي نفذها الكرملين خلال الحرب العالمية الثانية، وإهمال القمع الشمولي في الكتلة السوفياتية. لقد كانت تلك الشكاوى صحيحة في ذلك الوقت، تماماً على غرار مخاوف اليوم.

وفي المقابل، ما يجب أن يشرحه صانعو السياسة في الولايات المتحدة يتمثل في أن البديل أسوأ [من تلك المبادرة التي قد تبدو كترضية]. ففي غياب اتفاق أمني جديد، سيستمر بوتين في تأجيج الانقسامات والتوترات والصراعات بين وداخل بلدان أوروبا وأميركا الشمالية، حتى لو لم يشن غزواً واسع النطاق في أوكرانيا. ولا يعني ذلك أن واشنطن بحاجة إلى التنازل عن المبادئ المعيارية والأمنية الأساسية أو تقديم تنازلات أحادية الجانب. في الواقع، لا يتعين عليها فعل ذلك على الإطلاق، بل يجب أن تستند كل فقرة من الاتفاق [المقترح] على أساس المعاملة بالمثل والمصالح المشتركة. ومن خلال عرض التفاوض على صفقة كبرى جديدة، سيكسب بايدن التفوق الأخلاقي ويجعل غزو بوتين أوكرانيا يبدو غير عقلاني وغير أخلاقي.

واستطراداً، يمكن أن تنجح المفاوضات أيضاً حتى لو فشلت في التوصل إلى اتفاق رئيس. وقد يؤجل بوتين غزو أوكرانيا بينما يجري الدبلوماسيون مشاوراتهم، حتى لو جرى ذلك لمجرد معرفة ما يمكنه تحقيقه من تلك الصفقة. قد لا يحل هذا التأخير بشكل شامل القضايا المحيطة بأوكرانيا أو أوروبا ككل. وفي المقابل، مع وجود آلاف الأرواح على المحك، سيمثل التأجيل خدمة هائلة. ففي نهاية المطاف، ثلاث سنوات من السلام أفضل بكثير من ثلاث سنوات من الحرب.

..................................
* مايكل ماكفويل، أستاذ في العلوم السياسية وزميل رفيع الشأن في "معهد هوفر" ومدير "معهد فريمان سبوغلي للدراسات الدولية" بجامعة ستانفورد. خدم في إدارة أوباما مدة خمس سنوات، محتلاً منصب سفير الولايات المتحدة إلى روسيا من 2012 إلى 2014. حمل كتابه الأخير عنوان "من الحرب الباردة إلى السلام الساخن، سفير أميركي في روسيا بوتين".
المقال مترجم عن فورين أفيرز، فبراير (شباط) 2022
https://www.independentarabia.com

اضف تعليق