إنسانيات - حقوق

قراءة أولية في قانون تعديل قانون العقوبات

المصوت عليه بتاريخ 27/3/2024

هذا التعديل هو بادرة خير نحو تفعيل دور مجلس النواب في تشريع النصوص القانونية التي توفر الكرامة للمواطن قبل ان تجلب له المنفعة المادية، وان فيه محاكاة لحاجة المجتمع بوجود مفصل من مفاصل السلطة يقف الى جانبه ويتلمس حاجاته، وطالما ان أعضاء مجلس النواب خرجوا...

اطلعت عبر مواقع التواصل الاجتماعية على نص قانون تعديل قانون العقوبات المصوت عليه بتاريخ 27/3/2024 وجاء في التعديل أحكام جديدة موضوعية واجرائية، وأخرى تتعلق بآلية التشريع، ولأهمية هذا التعديل وتأثير ذلك على نفاذ احكامه، لابد من الوقوف عند احكامه الجديدة، وحيث ان القانون لم ينشر ولم يصدر بنسخته المعترف بها، وهي النسخة التي تنشر في الوقائع العراقية، فإننا سنقصر هذا العرض على وفق النسخة المسربة الى وسائل الاعلام من بعض الأشخاص الثقاة، لقربهم من مصدر التشريع، وسيكون العرض على وفق الآتي:

أولاً: الاحكام الموضوعية: 

1- استحداث جريمة عقوق الوالدين:

ان القانون الجديد المصوت عليه، تضمن احكام موضوعية مهمة، من خلال استحداث نموذج قانون لتجريم فعل جديد لم يكن موجوداً في المنظومة التشريعية العراقية، وتمثل بإضافة نص جديد الى المادة (384) من قانون العقوبات التي جاء فيها الآتي (مع عدم الاخلال بأي عقوبة اشد يعاقب بالحبس والغرامة او بإحدى هاتين العقوبتين، كل من قام بعقوق والديه، بالإهانة او الصياح او التبرؤ او الترك او غير ذلك، وتنقضي الدعوى بتنازل المجني عليه عن شكواه قبل صدور حكم نهائي فيها، ويوقف تنفيذ الحكم فيها اذا حصل التنازل بعد صدور الحكم). 

وبذلك اصبح لدينا فعل جرمه القانون بعنوان جريمة (عقوق الوالدين) وأوضح فعل التجريم صور هذه الجريمة، لكن جعل نهاياتها مفتوحة بإضافة عبارة (وغير ذلك)، وهذا لا يصح من حيث جودة الصياغة التشريعية في القوانين الجزائية، لأنها تتيح لمطبق القانون التوسع بالتجريم ومد نطاقه الى أفعال لم يقصدها المشرع، ويكون بمثابة خلق نماذج قضائية وليست قانونية للتجريم، ويكون بنائها على وفق قيم وعقائد المطبق، وقد يقول البعض ان لها نصوص مشابهة في قانون العقوبات النافذ، نعم انها موجودة لكن جميع ما ورد في قانون العقوبات، كانت تلك العبارة مضافة الى صورة من الصور وليس بعنوان متفرد فضفاض، مثال ذلك (غير ذلك مما اعد للدفاع) في المادة (162) عقوبات او (غير ذلك مما وجد في حيازته) في المادة (315) عقوبات.

2- تقييم النص المصوت عليه:

أرى ان هذا النموذج القانوني للتجريم كان موفقاً تجاه تدني قيم المجتمع، ومنها الحفاظ على كرامة الوالدين، وانه كان رد فعل إيجابي من المشرع، واتى للمعالجة مع توفير عنصر الردع لمن لم تردعه تربيته واصله، او وصايا الدين الإسلامي الحنيف بتكريم الوالدين، في العديد من آياته القرآنية الصريحة.

كما ان هذا التعديل الموضوعي يعد تطبيق لمدرسة فلسفية في القانون، تعتبر القانون الصالح هو الذي يذكي الشعور بالكرامة لدى الانسان، وليس القانون الذي يحقق المنفعة المجردة وتحاشي الألم فقط، وهذا الاتجاه في فلسفة القانون تبناه الفقيه (جون ستيوارت ميل) نقلا عن الدكتور منعم عطية في كتابه الموسوم (القانون والقيم الاجتماعية دراسة في الفلسفة القانونية ـ منشورات الهيئة المصرية للتأليف والنشر ـ طبعة القاهرة عام 1971 ـ ص 12).

وكرامة الوالدين حظيت باهتمام خاص في الشريعة الاسلامية سواء في النص القرآني او الاحاديث النبوية الشريف وسنة النبي (ص) ووصايا الائمة الاطهار، وحتى علماء المسلمين كان ديدنهم تثبيت كرامة الوالدين، وبذلك فان غاية التشريع هي حماية الكرامة الإنسانية ممثلة بكرامة الوالدين، فضلا عن الدستور العراقي النافذ الذي اكد في المادة (29/ثانيا) بان للوالدين حق على اولادهم في الاحترام والرعاية، وبذلك يكون المشرع العراقي قد خطى خطوة مهمة في حماية القيم الأخلاقية للمجتمع العراقي التي أساسها الاحترام المتبادل بين الجميع.

3- تعديل المادة (226) من قانون العقوبات النافذ:

كما تضمن قانون التعديل المصوت عليه، تعديل نص المادة (226) من قانون العقوبات، وهذه المادة المثيرة للجدل والتي اعتبرها البعض من اهم مرتكزات الديكتاتورية في العراق، ووضعت في الباب الثالث من أبواب القانون الذي يتضمن الجرائم الواقعة على السلطة العامة وفي الفصل المتعلق بالاعتداء على الهيئات النظامية، ويرى بعض الكتاب ان هذه المادة تمت صياغتها تأثراً ببعض القوانين العقابية في البلدان العربية وعلى وفق ما ورد في الأسباب الموجبة لقانون العقوبات، ويرى البعض ان المادة (226) من قانون العقوبات لم يكن الهدف منها سوى الضغط على المواطن ووضع العراقيل بوجهه حتى لا يتمكن من التعبير عن وجهة نظره تجاه القضايا والأوضاع السائدة.

 وما ظهر للإعلام في الفترة الأخيرة من إسراف في تطبيقها بحيث جعل من النقد الموجه الى الشخصيات العامة بمثابة الجريمة، وتمت محاكمة أشخاص وإدانتهم بموجبها، بعضهم من عامة الناس والبعض الآخر من قادة الرأي العام، بل طالت حتى من هو ممثل الشعب (عضو مجلس النواب)، وكانت ردود أفعال الجماهير غاضبة ومستغربة من تفعيل هذا النص الجائر في ظل وجود نص دستوري يضمن للمواطن حقه في التعبير عن وجهة نظره تجاه الأوضاع السائد التي يعاني منها، ومن حقه ان يوجه النقد الى شخص المسؤول لأنه هو من يملك سلطة القرار، ولابد من ان يتحمل هذا المسؤول مسؤولية تردي الأوضاع التي يعاني منها المواطن المحتج، وعلى وفق المادة (38) من الدستور، وكثرت المناشدات لإلغاء او تعديل المادة (226) من قانون العقوبات، حتى لا تصبح وسيلة ديكتاتورية تتعكز عليها السلطة القابضة تجاه الأفراد. 

واتى وقت التعديل عندما لامس اثرها المؤلم سلطة التشريع فتنبه لها وعدلها، وان لم يكن بمستوى الطموح، الا انه يمثل خطوة مهمة نحو كسر القدسية التي اضفاها التطبيق قضاء الدستوري عندما اعتبرها من خيارات المشرع وانها لا تخالف مبادئ الدستور او تقيد حرية التعبير عن الرأي ولابد منها، وكان موقف القضاء الدستوري في اكثر من قرار صدر عن المحكمة الاتحادية العليا منها قرارها بالعدد 204/اتحادية،2018 في 4/2/2019 وتأكيد ذلك في قرار لاحق بالعدد 37/اتحادية/2019 في 21/5/2019، والامر المهم الوارد في التعديل بان جعلها (جنحة) عقوبتها لا تتعدى الحبس ثلاث سنوات بدلاً من العقوبة السابقة التي كانت (جناية) عقوبتها تصل الى السجن لمدة سبع سنوات.

كما ورد في التعديل قيد على سلطة المطبق التقديرية تجاه الحكم على المواطن عندما اعتبر النقد الموجه الى المؤسسات من اجل التقويم او ابداء المظلومية، امر مباح ولا يشكل جريمة، وهذا التطور المهم قد لا يلبي طموح المواطن، لأنه أبقى على منح تقدير ما هو نقد تقويمي من عدمه او ابداء للمظلومية من عدمه الى سلطة المطبق، وهذا هو ذات المحذور الذي كان عليه الحال قبل التعديل.

وكان الطموح ان يتصدى مجلس النواب الى هذه المادة عبر، تقييد شروط تطبيقها الى ادنى حد ممكن، وان يجعل من عقوبتها عقوبة مالية فقط، أي الغرامة، دون العقوبة السالبة للحرية، وهو ما عليه الحال في اغلب الدول الديمقراطية، كما كنا نتمنى على المشرع، في حال إبقاء العقوبة السالبة للحرية، وان كانت بحدٍ ادنى، بان يستحدث نص في صلب المادة أعلاه يمنع توقيف المتهم على وفق هذه المادة، الا اذا صدر بحقه عقوبة سالبة للحرية من المحكمة المختصة واكتساب الحكم للدرجة القطعية، لان فيه ضمان للحفاظ على كرامة الانسان التي اكدها الدستور في المادة (37/أولا/1) التي جاء فيها (حرية الانسان وكرامته مصونة)، ولا يبرر عدم الاخذ بذلك التخوف من هروب المتهم المدان، لان هذا ليس مبرر وانما بمثابة اعلان فشل سلطة انفاذ القانون عن متابعة المدانين، وتنفيذ أوامر القبض الصادر بحقهم.

ثانياً: الاحكام الاجرائية وتقييم النص وتحليله:

تضمن قانون التعديل نص عدل بموجبه نص المادة (11) من قانون العقوبات النافذ، حيث أضاف فقرتين الى نص المادة أعلاه بان جعل لعضو مجلس النواب حصانة من أي اجراء قضائي سواء كان في مرحلة التحقيق المحاكمة، كما منع محاكمته بالمطلق الا بأذن من مجلس النواب وبالأغلبية المطلقة، وأضاف فقرة تتعلق بعدم اتخاذ أي اجراء ضد القاضي، الا بموافقة رئيس مجلس القضاء.

ان النص المصوت عليه كان ردة فعل، لما حدث لعضو مجلس النواب عندما تعرض للحكم بالإدانة بعقوبة سالبة للحرية نافذة، وكان الحكم أعلاه بمثابة الصدمة التي ايقظت مجلس النواب من سباته تجاه، ما حصل له من سلب لحصانته عندما قررت المحكمة الاتحادية العليا بجواز توقيف عضو مجلس النواب ومحاكمته، في دعاوى الجنح دون اذن وموافقة مجلس النواب وعلى وفق ما ورد في قراراها العدد 90/اتحادية/2019 في 28/4/2021.

وهذا التصرف من المجلس النيابي، السريع والفاعل، يعطي التصور لنا بان بإمكانه ان يقرر ما يشاء لتحقيق الرفاهية للمواطن، وانه قادر على ان يتخذ من التشريع وسيلة لحماية الحقوق والحريات من تغول السلطة.

لكن المحرك لهذه الهمة تتجلى بصورة النقابية التي يتضافر لها الأعضاء، بينما لا يوظفها للصالح العام المتعلق بالمواطن العادي، حيث انه قرر حصانة عالية المستوى لعضو مجلس النواب، وهذا ما نؤيده وبشده، لأنه سوف يمنح الأعضاء المستقلين غير المحصنين بالقوى السياسية الفاعلة، فرصة للتعبير عن آرائهم بكل حرية، الا اننا وجدناه في وجه اخر تخلى عن توفير الحصانة للمواطن عبر حمايته من تغول السلطة، التي تتعكز على توظيف المادة (226) عقوبات، بجعل عقوبتها غرامة مالية او منع توقيفه خلال مرحلتي التحقيق والمحاكمة. 

لان وجود مثل هذه الوسائل التي تمنع التعبير عن الرأي، الا على وفق ما يراه القابض على السلطة بأي مفصل من مفاصلها، سوف لن تحمي الحريات ولن تحمي المجتمع من ميل أعضائه الى خرق النواميس القانونية النافذة.

ويرى بعض فقهاء القانون في رؤيتهم الفلسفية تجاه وظيفة القانون، بان وجود تباين بين الحكام (القابضين على السلطة) وهم القلة وبين المحكومين (عامة الناس) وهم الأكثرية، سوف يدعو الى التمرد على تلك النصوص القانونية، والهرب من الخضوع اليها، لان الحرية في نظرهم ستكون الإفلات من قبضة السلطة الديكتاتورية، ويشير أحد الكتاب ان الدراسات الاجتماعية للقانون اثبتت ان المرء يكون حرا في نطاق التنظيم الاجتماعي، اذا ما توفر له إمكانيات التفتح الكامل والتحرر المنظم من قيد السلطة. (الدكتور منعم عطية ـ مرجع سابق ـ ص 18)

وارى ان هذا التعديل كان في محله تجاه ميل المطبق نحو التقييد الموسع على حرية التعبير عن الرأي من خلال تفسير النصوص القائمة على وفق مقتضى مشيئة القوى الفاعلة والمؤثر في المشهد العراقي، بتوظيف قواعد التفسير نحو تأويلها باتجاهات تتماهى والخط العام السائد في فكر السلطة القابضة.

ثالثاً: ملاحظات حول تطبيق قانون التعديل:

1- ان القانون وردت فيه مادة اعتبرت نفاذه من تاريخ التصويت عليه في 27/3/2024، وهذا النص هو خلاف ما عليه الأصل بان يكون القانون نافذ اعتباراً من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية وعلى وفق احكام المادة (1/ثانيا) من قانون النشر في الجريدة الرسمية رقم 78 لسنة 1977 المعدل التي جاء فيها الآتي (يعتبر جميع ما ينشر في (الوقائع العراقية) النص الرسمي المعول عليه، ويعمل به من تاريخ نشره، الا اذا نص فيه على خلاف ذلك).

2- اعتماد تاريخ سريانه من تاريخ إقراره على وفق ما نص في هذا التعديل، فانه ينظم سريان القانون باعتباره سوف يسري بأثر رجعي اعتباراً من تاريخ إقراره وليس من تاريخ نشره، لكن بعد ان تستكمل مراحل تشريعه وأهمها عملية نشره في الجريدة الرسمية لان النشر فيها هو النص المعول عليه عند التنفيذ او التطبيق ولا عبرة لأي نصوص اخرى وعلى وفقما جاء في المادة (1/ثانياً) من قانون النشر في الجريدة الرسمية رقم 87 لسنة 1977.

3- اهم اثر سوف يترتب عليه، بان محاكم الجزاء سوف لن تعتمده الا اذا وصل اليها عبر نشره في الوقائع العراقية، وتبقى النصوص النافذة الحالية على حالها قبل التعديل، لان المحكمة عندما تستند الى الإدانة او التجريم تستند الى نص القانون المستوفي لمراحل إصداره ونشره، ووسمه برقم معين وبتاريخ صدور.

4- ان المادة (37) من قانون العقوبات النافذ لا تعتد بالجهل بالقانون بعد صدوره، لان المادة (6) من قانون النشر في الجريدة الرسمية قد اعتبر النشر بمثابة علم الكافة بمضمون القانون، وعلى وفق النص الاتي (لا يعتد بالجهل بمضمون ما ينشر في "الوقائع العراقية")، وحيث ان القانون لم ينشر فان قرينة علم المواطن بالفعل الذي تم تجريمه، تنتفي لان العلم ارتبط بالنشر، فاذا لم ينشر فان تلك القرينة تصبح بحكم العدم لانتفائها، وهذا الفرض سوف يخلق مشكلة عند التطبيق.

5- اما عن القواعد الإجرائية، فإنها من الممكن ان تجد لها حظاً في القبول، لأنها تمثل القاعدة القانونية بتطبيق القانون الاصلح للمتهم، سواء التي تتعلق بحصانة النائب او التي تتعلق بانقضاء دعوى (عقوق الوالدين)، لكن يبقى السؤال كيف يتعامل معها القضاء، وهل تعتمد النسخة المسربة للإعلام ام ان القضاء ينتظر صدور القانون في الجريدة الرسمية، وما هو المركز القانوني للمتهم الذي يخضع لنطاق سريان قانون التعديل؟ 

الخلاصة:

أرى ان هذا التعديل هو بادرة خير نحو تفعيل دور مجلس النواب في تشريع النصوص القانونية التي توفر الكرامة للمواطن قبل ان تجلب له المنفعة المادية، وان فيه محاكاة لحاجة المجتمع بوجود مفصل من مفاصل السلطة يقف الى جانبه ويتلمس حاجاته، وطالما ان أعضاء مجلس النواب خرجوا من رحم هذا الشعب، فان الفرض يقول بانهم ليس بغرباء عن الشعب، حتى وان كانوا يعملون في مجال السياسة، لان الفكر السياسي الحديث لم يعد يتقصى غاية الحكام الغرباء عن المحكومين وعلى وفق ما يراه المختصين، وانما يبحث عن غايات الانسان والمجتمع الإنساني، وان اهداف السياسة أصبحت تبحث في تحقيق المنافع والمتطلبات الاجتماعية لعموم المحكومين. نقلا عن (الدكتور منعم عطية ـ مرجع سابق ـ ص 19)

* قاضٍ متقاعد

اضف تعليق