q
ثقافة وإعلام - أدب

رؤوس

بدا الأمر كما لو إنه اشاعة، تبنتها وسائل الإعلام بحذر .. فالظاهرة مخيفة وغير مسبوقة، والتسليم بصدقها أمر صعب، لاسيما إن الأخبار التي تذيعها الفضائيات تحديدا، غير مشفوعة بصور، والإعتذار عن عرضها لحساسية الأمر، كما يؤكد المذيعون، جعل الكثيرين لايصدقون بوجودها، وانا منهم...

بدا الأمر كما لو إنه اشاعة، تبنتها وسائل الإعلام بحذر .. فالظاهرة مخيفة وغير مسبوقة، والتسليم بصدقها أمر صعب، لاسيما إن الأخبار التي تذيعها الفضائيات تحديدا، غير مشفوعة بصور، والإعتذار عن عرضها لحساسية الأمر، كما يؤكد المذيعون، جعل الكثيرين لايصدقون بوجودها، وانا منهم .

لقد قررت العودة لبلادي منهيا غربة امتدت لنحو عقدين، لأتبين حقيقة هذه الإشاعة التي صارت حديث الناس هناك، ويدفعني شوق كبير للقاء الأحبة والأصدقاء ..

حين اقتربت من موظفي المطار تملكني شعور بان ما سمعته حقيقة .. لقد كان أحدهم برأسين، الأصلي وآخر أصغر منه انتصب قربه .. رأس بكامل تفاصيله، ومنها طبعا الفم الذي يبتسم احيانا ويعود متجهما، بينما الرأس الأصلي غير معني به ومشغول بمتابعة أوراق المسافرين ... وصلت مدينتي ليلا، ولم أشاهد الكثيرين، لكني حين دخلت البيت وجدت أحد أخوتي وقد نبت له رأس بدا أكبر من رأس موظف المطار.

وحين امعنت النظر وجدت رأسا ثالثا ظهر كبرعم صغير بموازاة الرأسين لكن وجهه الى الخلف! انتابني بعض الخوف ولم أكلّم أخي أو أي أحد، وقلت ربما ما رأيته تهيؤات بسبب انغماسي حد الهوس في التفكير بهذا الأمر في الآونة الأخيرة.

نمت ليلتي اتقلب في فراشي وقد تملكني الأرق لبعض الوقت .. لكن الصباح الذي بدأته بين جموع الناس وأنا أراهم متجهين لأعمالهم أكّد مخاوفي .. العشرات ممن شاهدتهم لهم أكثر من رأس، وإن الرؤوس ليست صغيرة بل اغلبها متكافئة بالحجم مع الرأس الأصلي وحين يسلّم بعضهم على البعض الآخر، أرى أحد الوجوه يبتسم مرحبا، فيما الآخر يبدو غير مكترث والثالث غاضبا وهكذا.

عصرا التقيت صديقا لي تخرج معي في كلية العلوم .. أول سؤالي له كان عن تلك الرؤوس وحكايتها .. حاول أن يتملص من الإجابة، لكني الححت عليه وقلت له إن هذه الظاهرة صار يتحدث عنها العالم .. بعد أن حنى رأسه قال؛ لدينا شكّ في إن بعض شركات الأدوية الأجنبية التي دخلت البلاد مؤخرا وضعت مع بضاعتها مواد كيمياوية تسببت بالظاهرة التي هي قيد الدراسة من قبل لجان متخصصة.

لكننا لم نصل الى قرار نهائي أو نوجه إتهاما لأي جهة .. لقد درسنا بعض النماذج التي تم جلبها للمختبرات، وتبين ان الرأس الجديد حين ينبت يكون مختلفا تماما عن الرأس الأصلي ومتنافر معه، وإن هناك من بات لديهم اربعة رؤوس وأكثر وبأحجام متباينة، والمشكلة الأكثر احراجا هي إن هذه الرؤوس حين يواجه صاحبها مشكلة معينة أو يدخل للتبضع من محل ما تختلف ويضرب بعضها البعض وإن صاحبها يشعر بالألم لكنه لايستطيع السيطرة عليها.

في المساء حين خرجت للتجوال لم أجد الأمكنة القديمة التي كنت أرتادها، فتخيلت هروبها مفزوعة تحت وطأة هذه الظاهرة الغريبة .. لقد تغيرت ملامح مدينتي وشعرت بالغربة وأنا اسير في شوارعها التي يتحدث فيها الناس مع بعضهم برؤوس متعددة .. وحين لمحت رأسا لشخص اعرفه ينتصب بين رأسين آخرين، ناديت عليه واتجهت نحوه بلهفة، لكنه ظل في مكانه وبدا كمن يصارع الهواء وهو يهمّ بإتجاهي، وعندما اقتربت منه بصق بوجهي أحد الوجوه أما الآخر فقد كان الشرر يتطاير من عينيه وهو ينظر لي، بينما الوجه في الرأس القديم كان مبتسما وهو ينظر لي ثم أخذ يبكي، قبل ان يغادر الشخص المكان ويتركني في حيرة.

قالت لي أمي وهي تودعني بعد أن عقدت العزم على العودة لمنفاي؛ ابني البس قبّعة عريضة .. واجعل شعر رأسك يطول اكثر .. لم أرد عليها وإنما مددت يدي نحو رأسي .. فهالني ما لمست .. تماما خلف الأذن اليسرى نما لي برغم صغير، تلمست ملامحه بيد مرتجفة فصرخ بي قائلا؛ اعرف حدودك !! كان جسدي يختض من شدة الخوف، لكني تحاملت على أوجاعي وخرجت .. كان الشارع يحتشد بآلاف البشر وكل واحد منهم برأسين أو ثلاثة أو أربعة .. وكل رأس ينطق بهتاف يختلف عن الآخر .. كانت هناك تظاهرة شعبية كبيرة .. وبعد أن تصاعد الحماس صارت الرؤوس تكبر ويضرب بعضها البعض، بعد أن يسحب الرأس الأقوى بينها صاحبه ليضرب رأسا عند شخص آخر أو الرأس المجاور له، فيما كان الهتاف المتداخل يملأ الأجواء .. كان المشهد مرعبا حقا ..رؤوس تنزف دما، رؤوس تضحك ساخرة ، رؤوس ترتجف خائفة، رؤوس تبكي بحرقة، رؤوس غاضبة وتصرخ بقوة .. والساحة بدت كما لو إنها مرجل كبير يفور بالرؤوس المتراصة فيه، والهتاف المتناشز ينطلق منها نحو عنان السماء .. على مسافة غير بعيدة لمحت شاشة عملاقة معلقة على واجهة مقهى صيفي في ركن الساحة، تنقل وقائع التظاهرة على الهواء مباشرة ... تقدم مني مراسل القناة التي تنقل الحدث ليأخذ رأيي فوجدت نفسي اترنح ولم اقو على الرد، لقد شعرت أني منقسم، فيما كانت صورة رأسي الجديد وقد بات تحت زخم الهتافات الحماسية بحجم رأسي القديم، تملأ وحدها شاشة الفضائية، ويتكلم عن رأيه فيما حدث ويعطي تصوراته لحل المشكلة .. رحت اسير وسط الجموع، شبه تائه، ولا أدري الى أين أتجه أو يتجه بي رأسي الجديد!؟

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق