كلما كان مجال للعفو، فهو أفضل في نظر الإسلام وأسمى في نظر الدين إن المنتقم ربما يجاوز قدر الاعتداء، فيكون عمله أبعد عن التقوى، أما العافي فإنه في نجوة من الإفراط، فهو أقرب إلى التقوى وأبعد عن نوازع النفس. وقد حرّض نبي الإنسانية وآله الأطهار، على العفو...

الإنسان قد ينقصه الغير في عرض أو مال أو ما أشبه، فيهتاج لما فعله ويريد الانتقام منه لكن للانتقام في نظر العقل والعاطفة معياران مختلفان، فالعقل لا يجيزه في كل مورد إذ كثيراً ما يكون دليلاً على صغر النفس ومهانة الذات، مثلاً: الرجل الحكيم لا يقابل السب بالسب، ولا القذف بالقذف، انه أمر سيئ سواء صدر بدءاً أو مقابلة، وهذا بخلاف العاطفة فإنها تميل نحو التنكيل بالبادئ، وإن كان في ذلك حطّـاً من قدر المنتقم نفسه.

والإسلام النظيف لا يحب الانتقام إلا في حدود معقولة انه لا يحب الانتقام حسب العاطفة، وإنما يحبه حسب العقل يقول النبي (صلى الله عليـه وآله وسلّم): (إن امرؤ عيرك بما فيك فلا تعيره بما فيه)(1) وفي حديث آخر قال (صلى الله عليه وآله وسلم): (المتسابّان شيطانان يتهاتران)(2).

نعم لا يريد الإسلام أن يكون الإنسان خنوعاً ذليلاً خصوصاً إذا كان سكوته موجباً لتجري المعتدي ولذا يقرر الله الحكيم رد الاعتداء بالمثل يقول: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم...)(3) (أنّ النفس بالنفس...)(4).

ومع ذلك... فكلما كان مجال للعفو، فهو أفضل في نظر الإسلام وأسمى في نظر الدين يقول الله تعالى: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين)(5) فليعفوا وليصفحوا (... وأن تعفوا أقرب للتقوى...)(6). إن المنتقم ربما يجاوز قدر الاعتداء، فيكون عمله أبعد عن التقوى، أما العافي فإنه في نجوة من الإفراط، فهو أقرب إلى التقوى وأبعد عن نوازع النفس.

وقد حرّض نبي الإنسانية وآله الأطهار، على العفو، مهما وجد الإنسان سبيلاً إليه، يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (ثلاث ـ والذي نفسي بيده إن كنت حالفاً لحلفت عليهن ـ ما نقّصت صدقة من مال فتصدقوا، ولا عفا رجل عن مظلمة يبتغي بها وجه الله إلا زاده الله بها عزاً يوم القيامة، ولا فتح رجل على نفسه باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر)(7).

إن أقبلت الدنيا فلا تنقص الصدقة مالاً، وان أدبرت فهو في نقص تصدّق أم لا.

والعفو محبوب لله فهو تعالى يزيد عز الرجل ليس في الآخرة فحسب بل في الدنيا أيضاً ـ وان كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يذكره هنا لعلّه لأمور ـ حتى إن الظالم ليجلّ العافي، ويعلم زنة نفسه ورجاحة عقله، ولذا قال (صلى الله عليه وآله وسلم): (العفو لا يزيد العبد إلا عزّاً فاعفوا يعزكم الله)(8) وقال (صلى الله عليه وآله وسلم):(قال موسى: يا رب أيّ عبادك أعزّ عليك؟ قال: الذي إذا قدر عفى).

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (ألا أخبركم بخير خلائق الدنيا والآخرة؟! العفو عمّن ظلمك وصلة من قطعك، والإحسان إلى من أساء إليك، وإعطاءك من حرمك)(9) أما ما يراه مثل هذا المتخلّق في الدنيا فهو شيء ملموس عزّ ورفعة حتى عند الأعداء والخصماء وعيش هنيء رغد... وأمّا ما يراه في الآخرة فيقول الإمام السجاد (عليه السلام): (إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد ثم ينادي مناد: أين أهل الفضل؟! قال: فيقوم عنق من الناس، فتلقاهم الملائكة فيقولون: وما فضلكم؟ فيقولون: كنا نصل من قطعنا ونعطي من حرمنا ونعفو عمن ظلمنا، قال: فيقال لهم: صدقتم ادخلوا الجنة)(10).

ولذا قال الإمام الصادق: (ثلاث من مكارم الدنيا والآخرة: تعفو عمّن ظلمك، وتصل من قطعك، وتحلم إذا جُهل عليك)(11).

ومهما فعل الإنسان من عفو أو انتقام فإنه كثيراً ما يندم: لماذا ما عفوت؟! أو: لماذا ما عاقبت؟! لكن ندم العفو أيسر، إنّه ندم ولم يجرح عواطف، ولم يؤذ أحداً، بخلاف ندم العقوبة، قال الإمام الباقر (عليه السلام):(الندامة على العفو أفضل وأيسر من الندامة على العقوبة)(12).

والعافي ينتصر أخيراً، وإن كان المنتقم يشفي غيظه، لكن ما فائدة تشفّي لا يعقبه نصر؟ قال أبو الحسن (عليه السلام): (ما التقت فئتان قط إلا نُصر أعظمهما عفواً)(13).

* مقتطف من كتاب الفضيلة الإسلامية للمرجع الراحل الامام السيد محمد الشيرازي

..................................
1 ـ جامع السعادات: 1/334.
2 ـ جامع السعادات: 1/334.
3 ـ سورة البقرة: آية 194.
4 ـ سورة المائدة: آية 45.
5 ـ سورة الأعراف: 199.
6 ـ سورة البقرة: 237.
7 ـ جامع السعادات: 1/336.
8 ـ أصول الكافي: 2/109 ـ جامع السعادات: 1/336.
9 ـ أصول الكافي: 2/107.
10 ـ جامع السعادات: 1/337.
11 ـ أصول الكافي: 2/109 ـ جامع السعادات: 1/337.
12 ـ أصول الكافي: 2/108 ـ جامع السعادات: 1/337.
13 ـ أصول الكافي: 2/108 ـ جامع السعادات: 1/337.

اضف تعليق