الابتعاد عن الناس ومعرفة همومهم ومعالجة مشاكلهم أبرز ما يؤدي الى اتساع الهوة بين الحاكم والمحكوم وبالتالي اتساع رقعة السخط والرفض للحكومة من قبل الشعب وبالتالي الذهاب نحو المواجهة وخيار الاسقاط لذا على الرجال المعنيين بقضية العراق أن يشخصوا العلاقات البارزة في مستقبله، مقترناً بالإخلاص التام، والتوكل على الله...

شهد التاريخ السياسي الحديث للعراق العديد من التقلبات العنيفة والاحداث المفصلية التي اثرت بشكل مباشر على الخارطة الاقتصادية والجيوسياسية والتنوع الثقافي للبلد، ليتحول بعدها الى بلد بلا هوية سياسية او اقتصادية، الى جانب تركة ثقيلة من الازمات الموروثة والمشاكل المتراكمة، في مقابل أداء سياسي متواضع لم يتمكن من وضع الحلول المناسبة لأغلب تلك الازمات والمشاكل، ان لم يكن سبب في تفاقمها، ليشعر الجميع ان الأفق نحو التغيير لبناء مستقبل أفضل للعراق يواجه عقبات من الصعب تجاوزها او التخلص منها من دون رؤية سياسية شاملة وواعية ومخلصة.

ان الرؤية التي تعتمد في عملها على الفهم والوعي والكفاءة والاخلاص لا بد ان يكتب لها النجاح في مسعاها، سواء اكان العمل قد انطلق من نقطة الصفر او لتصحيح المسارات والإصلاح والتغيير، وهذا ما حدده وأشار اليه بالمجمل او التفصيل، المرجع الراحل الامام السيد محمد الشيرازي في أكثر من مناسبة ومحاضرة وتسجيل وكتاب، لأنه يعتبر ان: "خلافة الإنسان، هي عبارة عن رعايته لما استؤمن عليه، مما خلق الله عز وجل، وأدائه الأمانة على أحسن وجه أراده الله تبارك وتعالى منه، ليتم الهدف الذي من أجله خلق الله الدنيا، وجعل الإنسان خليفته فيها، فتكون الدنيا وسيلة للوصول إلى الدار الآخرة، والدرجات العالية، لذا كان من واجب الإنسان أن يبني حياته الاجتماعية على أساس من العدل والتآلف، والأخوة والمحبة، لتتحقق للمجتمعات سعادتها".

اما السبب الآخر لاهتمامه بهذا المبحث المهم هو بلده العراق الذي حمله هماً وجرحاً طوال سنين حياته، فقد عمل غاية جهده من اجل ان يرى هذا البلد في مكانته التي يستحقها رغم ما لاقاه من أذى وتشريد وقتل من الحكومات المستبدة التي تعاقبت على حكم العراق، وكان غاية امانيه ان يراه بلدا شامخاً مستقراً امناً ينعم اهله بخيراته الوفيرة في ظل حكومة عادلة ونظام رشيد قائم على الشورى والتعددية بعيداً عن الاستبداد والدكتاتورية والحكم غير الصالح: "ولعل أوضح مثال للإنسان غير الصالح للاستخلاف طغاة العراق الذين ألبسوه ثوب الدمار والذل، قتلا وتشريدا لخيرة أبنائه، بغية سلخ هذا الشعب وهذه الأمة عن دينها، والقضاء على قيمها ومبادئها السامية، إلا أن إرادة الشعب دائماً أقوى من إرادة أولئك الطغاة، لأن الشعب يستمد قوته من الإيمان بالله، والتوكل عليه، وطلب العون منه، فرغم استمرار مأساة الشعب العراقي المظلوم، ورغم الوحشية والقسوة في قمع هذا الشعب نجد فيه من يقف كالطود في وجه هذا الكابوس الجاثم على صدره، جادا في منعه من تحقيق أهدافه الخبيثة في سلب ثروات الشعب الضخمة".

وقد طرح الامام الشيرازي (رحمه الله) العديد من الحلول والخيارات التي يمكن البناء عليها في تصحيح المسارات الخاطئة والتقدم نحو التغيير لبناء مستقبل سياسي أفضل للعراق: "ولكي تكون هذه الحركة المضادة لمخططات النظام صحيحة ومتقنة، لا بد من الإشارة إلى بعض النقاط الواجب مراعاتها في العمل والتحرك، لكي تعطي الجهود أكلها وجناها".

ولعل أهم هذه الأمور هي: المرتكزات السياسية بكافة مفرداتها وأشكالها.

1- الفهم السياسي:

يركز الامام الشيرازي بشكل أساسي على عملية الفهم والمعرفة والاطلاع العلمي والعملي في مجال السياسة على اعتبار ان السياسة علم مهم له مفرداته وادواته ومعطياته، إضافة الى تفاعله مع العلوم الأخرى (الاقتصاد، الاجتماع، الجغرافية، التاريخ...الخ) التي لا يمكن عزلها عنه، وبالتالي لا يمكن الاعتماد على جانب النزاهة في الأداء من دون عملية الفهم والاتقان والعكس صحيح: "إن من أهم تلك المفردات السياسية التي يجب على دعاة التغيير أن يتحلوا بها هو: الفهم السياسي، إذ بدون الفهم المذكور لا يتمكن الإنسان من الشروع في العمل، وإن بدأ فإنه لا يتمكن من الاستقامة والاستمرار ومهما كان يملك من الجلد والمقاومة، فإنه سيعجز عن مواصلة السير إلى الهدف المنشود".

ولهذا السبب حث الشيرازي على دراسة السياسة وممارستها عملياً: "فمن اللازم دراسة السياسة دراسة مستوعبة، وممارستها في الواقع العملي، وحيث لا يمكن تجريد السياسة عن علمي الاجتماع والاقتصاد، فيتوجب على دعاة التغيير من العاملين في الحقل السياسي دراستهما أيضاً، ثم إن الفهم السياسي بمفرده، مجردا عن التجربة الميدانية، يعتبر نقصاً في شخصية العامل، فلا بد من النزول إلى الساحة السياسية بكل ميادينها، والاطلاع على مستواها ونمطها، ومدى استعدادها لتقبل التغيير".

وقد أشار الى ثلاث نقاط اعتبرها من أولويات الفهم السياسي ومعرفة انها ليست من قيم الإسلام وينبغي عدم اعتمادها او ممارستها في أي عملية سياسية:

1ـ إن كل شيء يهدد وحدة المسلمين، ويفرقهم على أساس من القومية أو الطائفية أو العنصرية، فهو ليس من الإسلام في شيء، والمفروض أن تذوب كل هذه التقسيمات من خلال وحدة الإسلام العظيم، الذي يرى كل المسلمين سواسية، وأنهم أخوة تتكافا دماؤهم.

2ـ إن كل من يصل إلى الحكم بلا استفتاء حر من الشعب، وبلا شورى منهم، ولا انتخاب واختيار، فهذه الصورة ليست من الإسلام في شيء، سواء كان وصوله إلى الحكم بسبب العشيرة، أو القبيلة، أو بسبب الملكية الوراثية، أو بسبب الانقلاب العسكري، أو بغير ذلك.

3 ـ إن كل بلد يجهر فيه بالمعاصي والمحرمات، وهو على مرأى ومسمع من الحكومة أو بتشجيع منها، فذلك دليل على انحراف تلك الحكومات عن الإسلام وابتعادها عنه، ولربما محاربتها له، فعلى التيار الإسلامي الذي ينشد التغيير ألا تغيب عنه هذه الأساليب والألوان، التي تقوم بها تلك الحكومات.

2- دائما مع الناس:

اعتبر الامام الشيرازي الابتعاد عن الناس ومعرفة همومهم ومعالجة مشاكلهم أبرز ما يؤدي الى اتساع الهوة بين الحاكم والمحكوم وبالتالي اتساع رقعة السخط والرفض للحكومة او النظام من قبل الشعب وبالتالي الذهاب نحو المواجهة وخيار الاسقاط لذا: "على الرجال المعنيين بقضية العراق أن يشخصوا العلاقات البارزة في مستقبله، وهذا التحرك يجب أن يكون مقترناً بالإخلاص التام، والتوكل على الله (عزوجل) أولا، وصمود الإرادة ثانيا، والابتعاد عن الاستبداد الحزبي ثالثا، فمن المغالطات في بعض التنظيمات الحزبية هو ابتعادها عن الناس، وعدم تفاعلها معهم، إلا في المواقف الحرجة التي تفرض عليهم أن يتعاملوا مع الناس، والناس لا يتفاعلون إلا مع من يتفاعل معهم، لا في قضاء الحاجات فحسب، بل في الآراء والأعمال أيضا، وعلى من يريد إنقاذ المسلمين في العراق، وفي غير العراق أمران هما: الاستشارة، والتواضع".

3- التعددية الحزبية

يعتبر الامام الشيرازي موضوعة "التعددية الحزبية": "من المفردات السياسية المهمة التي يجب أن يحملها الإنسان المغير، هي الاطلاع والمعرفة بفوائد التعددية الحزبية، والأضرار الناجمة عن نظرية الحزب الواحد، الذي عادة ما يؤدي إلى ظهور الدكتاتورية، بينما التعددية تعطي فرصة للشعب وللأفراد، واللجوء إلى أي حزب أرادوا، وإعطاء صوتهم لأي حزب يرون أنه يخدم الشعب، ويحافظ على وحدته، ففي ظل التعددية يرتفع ستار الجبر والضغط على الشعب، وتتوفر الحريات ضمن إطار الشرع المقدس، وبموجبها يعلن الفرد ويصرح عن رأيه".

وبالعودة الى ذاكرة الامام الشيرازي يشير الى وجود العشرات من الأحزاب التي مارست دورها السياسي بحرية نسبية لا يمكن مقارنتها مع الأداء السياسي في ظل الحزب الواحد ونظامه الاستبدادي، وقد شجع الامام الشيرازي (رحمه الله) على عودة هذا التنوع واعتبره دليل على صحة واستقامة النظام السياسي حتى وان اختلفت هذه الأحزاب مع الرؤية الإسلامية التي يؤمن بها السيد الشيرازي، لأنه اعتبر هذه الأحزاب وطنية سعت الى تقديم الخدمات للبلد والناس: "كان في العراق (44) حزبا، كما أتذكر، وكانت جميعها تعمل بحرية، نسبيا، وكان أكبر هذه الأحزاب أربعة منها، وهي: حزب الاستقلال، وحزب الدستور، والحزب الديمقراطي، وحزب الأمة، فعلى الرغم من أن هذه الأحزاب لم تكن إسلامية، ولا نقر بها، لأن الحزب في نظرنا يجب أن يستمد مبادئه من القرآن الكريم والسنة الشريفة، ويتبع القيادة الرشيدة للمرجعية، إلا أنها كانت أحزابا وطنية، وتقوم أحيانا على خدمة الناس والبلاد، والدفاع عنهما، وحل مشاكل الأفراد، ولذلك كان الناس يعكسون احترامهم وتقديرهم لهذه الأحزاب، بينما في نظرية الحزب الواحد، غالباً ما تفرض سياسة الحزب ورؤاه الخاصة على الأمة، فيكون الأفراد مجبرين على سياسة هذا الحزب، ولا خيار لهم، لخلو الساحة من أي منافس آخر".

4- المعالم الواضحة

الوضوح والصراحة والمكاشفة من اهم المفردات التي ينبغي ان يطبقها الساعين نحو التغيير قبل وصولهم الى الحكم وبعدها: "من الضروري للعاملين والساعين نحو مستقبل العراق أن يوضحوا معالم طريقتهم وسياستهم ومفرداتها، وأن يحذروا الخوض في الوعود، بلا ميزان للناس، سواء قبل الوصول إلى الحكم، أو بعد الوصول إليه، فإن الإنسان قد يحاول بسبب الوعود الخلابة أن يجتذب الناس حوله، بينما ذلك يأتي بعكس النتيجة، فإنه كثيراً ما لا يتمكن الإنسان من الوفاء بوعده، فينفض الناس من حوله، على أنه ينبغي لنا جميعا ألا ندخر وسعا لتقويم كل اعوجاج، وللوقوف بوجه كل من يعمل ضد حرية الناس، وضد حقوق المسلمين، وغير المسلمين".

5- البرنامج المتكامل

يقول السيد الشيرازي: "إن وضوح المعالم لا يقتصر على المفردات الداخلية للعمل السياسي، بل تشمل القضايا الإقليمية والدولية، فمثلاً: إن مسألة الجوار، وحسن التعامل والترابط من أهم المسائل في عالم اليوم، فلا بد من الالتقاء مع الجيران وتنسيق الخطوات، ووضع نوع الروابط، التي يجب اختيارها مع هذه الدول المجاورة للعراق، وجعل هذه النقطة من الأسس الرئيسية التي تثبت في برنامج العمل المستقبلي، فلا بد من إيجاد صيغة للتفاهم مع الدول المجاورة".

ان الإشارة الى الأسلوب الأمثل في التعامل مع الملف الخارجي، الذي هو امتداد طبيعي للملف الداخلي، يمثل عمق سياسي واستراتيجي لفهم الواقع السياسي الحقيقي لإدارة البلد وحمايته من العوامل التي يمكن ان تلحق الضرر به او بأبنائه، وينبغي ان يدرك القائمون على إدارة العملية السياسية المعنى الكامن وراء هذه النصائح واهميتها إذا أرادوا النجاح في مسعاهم.

ويضيف الشيرازي الى: "إن الجماهير هي أساس الحكم، وليس شخص الحاكم أو الحركة، وكذلك بناء علاقات إنسانية مستقلة ومتينة مع الجيران، دون غموض أو تبعية، ورفع الحواجز والقيود التي وضعها المستعمرون في البلاد الإسلامية، من حدود ووثائق تقيد حرية الفرد والأمة"، وهي حقيقة غابت عن الكثير، خصوصاً في بلد مثل العراق تزاحمت عليه المصالح الشخصية وحكمته المصالح الخارجية من دون ان يكون أي دور لمصلحة البلد وأبناءه أي اسبقية او تفضيل، وبالتالي تحولت الحركة نحو التغيير لرسم مستقبل افضل للعراق مجرد شعار ابتعد قادته في تطبيقه عن الواقع.

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–Ⓒ2022
http://shrsc.com

اضف تعليق