يعد الألم المزمن حالةً صحيةً خطيرة، ومثل أيّ مشكلة طويلة الأجل، يؤدي غالبًا إلى مضاعفات تتجاوز الأعراض البدنية، مثل التوتر العضلي، وقصور الحركة، وانعدام طاقة الجسم، وتغييرات في الشهية للطعام، كما يؤدي إلى العديد من الآثار النفسية، مثل الشعور بالاكتئاب والغضب والقلق، والخوف من الإصابة مرةً أخرى...

يُعد الألم المزمن حالةً صحيةً خطيرة، ومثل أيّ مشكلة طويلة الأجل، يؤدي غالبًا إلى مضاعفات تتجاوز الأعراض البدنية، مثل التوتر العضلي، وقصور الحركة، وانعدام طاقة الجسم، وتغييرات في الشهية للطعام، كما يؤدي إلى العديد من الآثار النفسية، مثل الشعور بالاكتئاب والغضب والقلق، والخوف من الإصابة مرةً أخرى؛ وقد يَعُوق الشعور بالخوف قدرةَ الشخص على استئناف عمله المعتاد، أو أداءه للنشاطات الترفيهية.

تشمل أنواع الألم المزمن آلام الصداع، وآلام أسفل الظهر، وآلام مرض السرطان، وآلام التهاب المفاصل، وآلام الأعصاب الناجمة عن تلف الأعصاب، والآلام الناجمة عن الاضطراب النفسي.

كما يزيد الألم المزمن من صعوبة قدرة الشخص على مواصلة العمل أو أداء المهمات المنزلية والأسرية، ما يؤدي إلى مشكلات في العلاقات الشخصية وعدم الاستقرار المالي، إضافةً إلى أنه كلما زادت شدة الألم، كانت المشكلات أكثر خطورة.

ويحذر تقرير صادر عن منظمة الصحة العالمية من أن الألم المزمن قد يرتبط بالانتحار، مشددًا على أن "هناك العديد من حالات الانتحار التي تحدث فجأة في لحظات الأزمة نتيجة انهيار القدرة على التعامل مع ضغوط الحياة، مثل المشكلات المالية، أو انهيار علاقةٍ ما، أو غيرها من الآلام والأمراض المزمنة".

كما يعد الألم المزمن إحدى المشاكل الصحية ضائقة عاطفية في طب الأطفال، ويعرّف بأنه أي ألم يلازم الشخص لفترة من 6 أشهر، سواء كان متوسطاً أو شديداً، وقد يستمر لسنوات.

ويعرّف الألم المزمن أيضا بأنه الألم الذي يمتد إلى ما بعد الفترة المتوقعة للشفاء، حوالي 25% من الأشخاص الذين يعانون من الألم المزمن يصابون بحالة تسمى متلازمة الألم المزمن، إذ يبلغ عنه واحد من كل خمسة أطفال أو مراهقين، وهو أكثر انتشاراً بين الإناث مقارنة بالذكور، يترافق مع اضطراب مزمن (مثل السرطان، أو التهاب المفاصل، أو السكري، أو الألم العضلي الليفي)، ومن الأشكال الأكثر شيوعا له آلام العضلات والعظام وآلام المعدة والصداع.

آلام بلا أسباب عضوية

بدأت محنة هايكه نوردا بحادث دراجة هوائية وخضعت للعديد من العمليات الجراحية في ركبتها وانتهى الأمر بتضرر أحد الأعصاب جراء إحدى هذه العمليات. وعانت نوردا من الآلام طيلة الثلاثين عاما الماضية. وكانت تعيش على مسكنات الألم القوية ذات الآثار الجانبية الهائلة. وحدثت نقطة تحول عندما كانت في إحدى عيادات الألم المزمن.

وقالت: "قال لي أحد الأطباء أنك سوف تعانين من الألم طوال حياتك. لذا يجب عليك تعلم السيطرة عليه ولا تسمحي له بالسيطرة عليك".

غالبا ما يضطر فينفريد مايسنر، مدير قسم علاج الألم في مستشفى ينا الجامعي، إلى كبح آمال مرضاه بأن الألم سيختفي بالعلاج الصحيح. ويوضح أن "هدف العلاج ليس وقف الألم -نظرا لأن هذا لن يحدث عندما يكون الألم مزمنا " مضيفا أن التأكيد يكون عوضا عن ذلك على تدريب المرضى على التكيف مع مرضهم وعرض عليهم أنشطة سوف تجعلهم أفضل ويستطيعون الانجاز مجددا.

أسباب الألم المزمن

يختلف الإحساس بالألم من طفل إلى آخر، ويعانون من مشكلة في نظام الأعصاب والغدد التي يستخدمها الجسم، وهناك عوامل تؤدي إلى الألم المزمن ومنها: كبار السن، العامل الوراثي، الإصابات السابقة، الخضوع لعملية جراحية، الاجهاد المتكرر، التدخين، النساء، السمنة.

في الغالب الأشخاص الذين يعانون من الألم المزمن وفي الغالب يرتبط الألم المزمن بحالات عديدة، منها: أسباب الصحية، أسباب جسدية، أسباب عاطفية.

اختلال المزاج

كما يؤثر الألم المزمن على الحالة المزاجية نسبة 2% من الأطفال وإعاقة الفرد عن أداء وظائفه اليومية، واحد من كل %40 طفلا تحت العاشرة، يعانون من الاكتئاب.

كما يرتبط بزيادة نسب الاكتئاب والقلق المزمن، بل إن بعض الدراسات تخبرنا عن تأثيرات أعمق له، حيث تربط بينه وبين تشوه هوية الفرد أو حتّى فقدانه لها، فمثلا: "شعوري الدائم والمتكرر بآلام الصداع يؤثر على أدائي للمهام التي أقوم بها للحفاظ على مكانتي في المجتمع، وينعكس على إحساسي بذاتي وثقتي بقدرتي على العمل وتحقيق خططي المستقبلية.

التعايش مع الألم المزمن

توصلت دراسة جديدة إلى أنّ الألم المزمن، مثل التهاب المفاصل، أو السرطان، أو آلام الظهر، الذي يستمر لأكثر من ثلاثة أشهر، يزيد من خطر التدهور المعرفي والخرف.

والحُصين، عبارة عن بنية دماغية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالتعلم والذاكرة، وزاد عمره حوالي عام لدى شخص يبلغ من العمر 60 عامًا، ويعاني من ألم مزمن في موضع ما مقارنة مع من لا يعانون من الألم.

وعندما شعر بالألم في مكانين بالجسم، تقلص حجم الحُصين أكثر من ذلك، أي ما يفوق عامين بقليل من الشيخوخة، بحسب تقديرات الدراسة التي نُشرت في مجلة "Proceedings of the National Academy of Science" أو"PNAS"، الاثنين.

وقال المؤلف تو ييهنغ وزملاؤه، وهو أستاذ علم النفس في الأكاديمية الصينية للعلوم في بكين، إنه "بعبارة أخرى، كان حجم الحُصين (حجم المادة الرمادية) لدى فرد يبلغ من العمر 60 عامًا مصابًا (بألم مزمن) في موقعين من الجسم مشابهًا لحجم الحصين لدى من يبلغون من العمر 62 عامًا، ولا يعانون من آلام.

ووجدت الدراسة أن الخطر يرتفع مع زيادة عدد مواقع الألم في الجسم. وكان حجم الحُصين أصغر بأربع مرات تقريبًا لدى الأشخاص الذين يعانون من الألم في خمسة مواقع أو أكثر من الجسم مقارنةً مع من يعانون من اثنين فقط، أي ما يعادل ثماني سنوات من الشيخوخة.

وقال الدكتور ريتشارد إيزاكسون الباحث في مرض الزهايمر، وطبيب الأعصاب الوقائي بمعهد أمراض الأعصاب في ولاية فلوريدا الأمريكية، وغير المشارك في الدراسة الجديدة، إنّ "سؤال الناس عن أي حالات ألم مزمنة، والدعوة إلى رعايتهم من قبل اختصاصي الألم، قد يكون عامل خطر قابل للتعديل مضاد للتدهور المعرفي الذي يمكننا معالجته بشكل استباقي".

مفتاح تخفيف الألم المزمن

"إذا كنت تعاني من مرض مزمن أو أُصبت بإعاقة تمنعك عمل ما اعتدت عمله، فقد تتحول كل مناطق التحكم التي تمتلكها إلى دخان، وإذا أُصبت بألم جسدي لا يستجيب للعلاج الطبي، فقد يتفاقم شعورك بالضيق بسبب الاضطراب العاطفي الناجم عن معرفة أن حالتك تبدو خارجةً عن سيطرة الأطباء".

الكلمات السابقة أوردها "جون كابات زين" -الأستاذ المتقاعد بكلية الطب في جامعة ماساتشوستس- في كتابه "حياة كارثية بالكامل" (Full Catastrophe Living)، ملخصًا تلك العلاقة الأبدية بين الإصابة بآلام جسدية والشعور باضطرابات نفسية تجعل الشخص يسير في طريق "أحلى ما فيه أمر من الصبار"، مشددًا على ضرورة "استخدام الشخص للحكمة الموجودة في جسده وعقله لمواجهة الضغوط العصبية والآلام والأمراض".

كلمات "زين" وحديثه عن "حكمة العقل والجسد" ربما مثلت في جزء منها حجم معاناة أصحاب "الألم المزمن"، الذي قد يتطفل على حياة إنسان دون أن يكلف نفسه عناء "طرق الأبواب"، وكأنه "ضيف ثقيل جاء ليجبر الشخص على التعايش معه، كجزء من رحلة معاناة مع آلام قد تبدأ باضطرابات بالجهاز الهضمي وتنتهي بحمى الضنك أو مرض مثل "رينود" الذي يصيب الأوعية الدموية الدقيقة".

ذهب "زين" في كتابه إلى تأكيد قدرة الإنسان على التعايش مع الألم من خلال التأمل، والقراءة، وتدريب الذات على الصمود، واستراق لحظات الفرح، والحركة، والتواصل مع الآخرين، وإجراء تغييرات على نظامه الغذائي، وأداء الأعمال المنزلية الروتينية، وتدوين امتنانه الشخصي للأشياء الإيجابية التي قابلها في حياته اليومية.

في السياق ذاته، تشير نتائج دراسة حديثة أجراها باحثون من جامعتي "كاليفورنيا" و"ستانفورد" الأمريكيتين، ونشرتها دورية "نيتشر نيوروساينس" (Nature Neurscience)، إلى أن مفتاح تخفيف الألم المزمن موجود في الدماغ، مشددةً على أن "استكشاف الدوائر الدماغية التي يحدث فيها تغيير عند حدوث الألم قد يُسهم في تطوير علاجات تستهدفها لإيقاف الشعور بالألم".

يقول "جيرالد زامبوني" -الأستاذ في قسم علم وظائف الأعضاء وعلم الأدوية وبيولوجيا الخلية وعلم التشريح بجامعة "ستانفورد"، والباحث الرئيسي في الدراسة- في تصريحات لـ"للعلم": "إن الألم المزمن يشكل عبئًا كبيرًا على الأفراد المصابين به، وله تكلفة اجتماعية واقتصادية مرتفعة. والعديد من المرضى لديهم خيارات علاجية غير كافية، وفي بعض الحالات ليس له علاج فعال"، مضيفًا أنه وضع فظيع للعديد من الأشخاص الذين يعانون من الألم المزمن؛ لأنه غالبًا ما يكون هناك القليل جدًّا من الوسائل التي تمكِّنهم من التحكُّم في آلامهم.

ويصيب الألم المزمن، الذي "يستمر أو يتكرر لأكثر من ثلاثة أشهر"، أكثر من 20% من الأفراد على سطح كوكب الأرض، ومما يزيد الأمر سوءًا أن العلاجات المتاحة لمداواته لا يخلو استخدامها من المشكلات.

عملية معقدة

تشير الدراسة إلى أن "شعور الشخص بالألم، في حالة إصابته مثلًا بكسور أو خلع في العظام، لا ينتج عن وجود ألم في العظام، بل يحدث نتيجة شبكة من المستقبِلات تعمل على طول الجسم، تكون بدايتها النقطة المصابة في الجسم، وتمر عبر الجهاز العصبي بطول العمود الفقري، ثم يحدث تفاعل داخل المخ كي يخبرنا بمقدار الألم الذي نشعر به، ويظل هذا النظام الجسدي في حالة تأهُّب قصوى بعد حدوث الإصابة، ثم يعاد ضبطه عادةً عندما تلتئم الجروح أو تجبر الكسور".

وفي بعض الأحيان، لا تستعيد منظومة الشعور بالألم انضباطها حتى بعد التعافي من الإصابة؛ وذلك بسبب حدوث تلف في بعض الأعصاب، مما يسبب شعورًا مستمرًّا بـ"الألم المزمن".

مناهج علاجية جديدة

يقول "زامبوني": هناك آثار جانبية للأدوية التي تُستخدم حاليًّا في حالات الألم المزمن، مثل الأدوية المشتقة من مواد شبه قلوية موجودة في الأفيون، ما يجعلنا في حاجة إلى مناهج علاجية جديدة تقوم على فهم آليات الألم، وهذا ما تطلَّعنا إلى تحقيقه.

استخدم الباحثون "علم البصريات الوراثي" Optogenetics، الذي يتضمن تعديل الخلايا العصبية وراثيًّا لجعْلها حساسةً للضوء، بغية دراسة الروابط العصبية في أدمغة الفئران، ويُعد هذا العلم إحدى تقنيات علم الأعصاب التي تتيح التحكم في خلايا الدماغ الحية، وتعديل العمليات العصبية باستخدام مزيج من التقنيات البصرية والوراثية من خلال مراقبة أنشطة الخلايا العصبية ورصدها، ومن ثم تعديلها بالشكل المناسب للحد من المرض.

باستخدام هذه الأداة، استخدم الباحثون الضوء لرسم خريطة تستهدف تحديد الخلايا العصبية التي يتواصل بعضها مع بعض لمعالجة إشارة الألم، ومن ثم توصيل المعلومات التي تصدرها تلك الخلايا إلى جميع أنحاء العمود الفقري، بحيث تعمل على علاج محفزات الألم.

من جهتها، تقول أماني عياد -أستاذ علاج الألم بطب قصر العيني- لـ"للعلم": "إن دراسة الألم المزمن هي عملية بالغة التعقيد، وما زالت تحمل كثيرًا من الأسرار. وهذا البحث استخدم علم البصريات الوراثي في رسم تفاصيل الدوائر الكهربائية على مستوى المخ، وليس فقط النخاع الشوكي؛ لمعرفة محطات استقبال نبضات الألم المزمن، مشددةً على أنها "دراسة بالغة الأهمية؛ لأنها تُكسبنا أفكارًا جديدة لتصنيع أدوية تعمل على تعطيل هذه النبضات، مما يعطي الأمل لبعض مرضى الألم المزمن بالغ التعقيد".

ويضيف "زامبوني": ركزنا في هذه الدراسة قبل السريرية على تحديد دارات الألم داخل الدماغ التي يحدث لها تغيُّر في حالات آلام الأعصاب المزمنة، وتوصلنا إلى أن تلف الأعصاب المحيطية (الأعصاب خارج المخ والحبل النخاعي) يعدل الطريقة التي تتواصل بها اللوزة المخية مع القشرة المخية قبل الجبهية. كنا ندرك أن بعض أجزاء الدماغ يؤدي دورًا محوريًّا في الشعور بالألم، لكننا الآن تمكنَّا من تحديد دائرة طويلة المدى في الدماغ تمكِّننا من معرفة الكيفية التي يحدث بها هذا التغيير في أثناء الألم المزمن.

يقول "زامبوني": "هذه النتائج لا تفسر فقط ما يحدث عند الأشخاص الذين عانوا من تلف الأعصاب المحيطية، لكنها قد تقدم أيضًا تفسيرًا لحالات أخرى، مثل إصابة أشخاص بالسكتة الدماغية دون أن يعانوا ألمًا شديدًا في جزء آخر من الجسم. كما تشرح نتائج الدراسة أيضًا السبب في أن بعض الأشخاص الذين فقدوا أحد أطرافهم قد يشعرون بألم في الطرف حتى لو لم يعد موجودًا.

ويوضح أنهم توصلوا إلى أن استهداف مسارات معينة في الدماغ يمكن أن يتداخل مع إشارة الألم ويوقف الإحساس به، وهذا الفهم الجديد لدائرة إشارات الألم قد يتيح للعلماء تطوير خطط علاجية ودوائية جديدة لتخفيف آلام الأعصاب المزمنة، من خلال تحفيز مناطق معينة من الدماغ بشكل غير مباشر أو تثبيطها، وبالتالي تخفيف حدة الألم. أعتقد أنه سيكون بديلًا رائعًا للأدوية التي ترتكز في تحضيرها على المواد المخدرة، وبصفة خاصة فيما يتعلق بالأطفال الذين يعانون الألم المزمن.

لكن "عياد" تشير إلى أن "الدراسة اعتمدت على تجارب تم إجراؤها على الفئران وليس الإنسان، ما يستوجب إجراء تجارب سريرية تساعد في تصنيع أدوية تخفف من حدة الألم المزمن بالنسبة للإنسان".

ويعلق "زامبوني" على كلامها قائلًا: قد تمنحنا نتائج الدراسة فرصةً لتسكين الألم المزمن عند البشر عن طريق استهداف دوائر دماغية معينة، من خلال تقنيات تحفيز الدماغ الجديدة لتخفيف الألم، مؤكدًا أنهم ما زالوا بالفعل بعيدين عن تلك النقطة، لكن تقنيات مثل التحفيز المغناطيسي عبر الجمجمة أو الموجات فوق الصوتية المركزة قد تكون أحد الخيارات المتاحة التي تساعدهم على إنجاز ذلك.

اضف تعليق


التعليقات

أوس ستار الغانمي
العراق
شكراً جزيلاً لكادر شبكة النبأ المعلوماتية على النشر بفضل استاذي وأخي كمال، أتمنى دوام التوفيق والنجاح الدائم.2024-02-08