المعدلات التي يقرض بها المدخرون في مختلف أنحاء العالم حكومة الولايات المتحدة كانت تدل على استعدادهم للدفع للحكومة للحفاظ على ثرواتهم آمنة. ولم يكن الاقتراض الحكومي بلا تكلفة وحسب؛ بل لم تنشأ الحاجة إلى تحويل الموارد لخدمة الدين. كان الاقتراض لتمويل التحفيز الإضافي ليحقق الفوائد المرجوة كاملة...
بقلم: برادفورد ديلونغ

بيركلي ــ قبل عشر سنوات وعشرة أشهر، أعلن الرئيس الأميركي باراك أوباما في خطاب حالة الاتحاد لعام 2010 أن الوقت حان للتقشف. شرح قائلا: "إن الأسر في مختلف أنحاء البلاد تشد الأحزمة وتتخذ قرارات صعبة. وينبغي للحكومة الفيدرالية أن تفعل ذات الأمر". وفي إشارة إلى استعداده لتجميد الإنفاق الحكومي لثلاث سنوات، قال أوباما: "مثلنا كمثل أي أسرة تعاني من ضائقة مالية، سنعمل ضمن ميزانية محددة للاستثمار في ما نحتاج إليه والتضحية بكل ما لا حاجة لنا به". كان الاحتياج المتصور إلى التقشف كبيرا إلى الحد الذي جعل أوباما يتعهد "بفرض هذا الانضباط باستخدام حق النقض"، فقط في حالة ما إذا كان الديمقراطيون في الكونجرس لديهم تصور آخر.

بعد هذه التصريحات مباشرة، والتي بدت وكأنها تتعارض تماما مع المنطق الاقتصادي السليم، حاول بعض المسؤولين في إدارة أوباما إقناعي بأن الرئيس كان يقدم استعراضا سياسيا مسرحيا على غرار مسرح الكابوكي الياباني وحسب. كان المغزى الضمني أن الإدارة ستواصل بالطبع استخدام السياسة المالية للحد من البطالة من خلال التخفيضات الضريبية والإنفاق على بنود أعفيت من التجميد: "الأمن القومي، وبرنامج الرعاية الطبية للمسنين (Medicare) وبرنامج الرعاية الطبية للفقراء (Medicaid)، والضمان الاجتماعي".

لكن المسرح السياسي من الممكن أن يخلف تأثيرا قويا على الحوار بشأن السياسات، فيحدد أي الحجج قد تحظى أو لا تحظى بموافقة واسعة النطاق في المجال العام. بعد الأزمة المالية في عام 2008، زعمت أنا وآخرون أن تكلفة استمرار الحكومة في الاقتراض والإنفاق، في بيئة لا تزال تتسم بمعدلات بطالة مرتفعة وأسعار فائدة منخفضة للغاية، ستكون تافهة مقارنة بالفوائد المترتبة على ذلك. ومع هذا، أضفى خطاب أوباما على التقشف البريق الثنائي الحزبية اللازم لتمكينه.

ناهيك عن أن معدل تشغيل العمالة بين الأميركيين في مقتبل العمر في الولايات المتحدة كان كئيبا حتى ذلك الوقت عند مستوى 75.1%، بعد أن انخفض من 80% في أوائل عام 2007 (ومن ما يقرب من 82% في عام 2005). وبسبب تبني تدابير التقشف، كان معدل تشغيل العمالة 75.6% فقط عندما ألقى أوباما خطاب تنصيبه الثاني في يناير/كانون الثاني 2013. بعد نحو ثلاث سنوات، ظل المعدل عند مستوى 77.4% ــ وهو ما يمثل أقل من نصف الخسارة منذ عام 2007، وثلث الخسارة فقط منذ عام 2000. ومع ذلك، أعلنت رئيسة مجلس الاحتياطي الفيدرالي آنذاك جانيت يلين في ديسمبر/كانون الأول 2015 أن الاقتصاد سينطلق قريبا "بحرارة شديدة" ما لم تُـرفَـع أسعار الفائدة.

على هذا، بدأ بنك الاحتياطي الفيدرالي يرفع سعر الفائدة القياسي لأول مرة منذ عشر سنوات. لم يَـعُـد معدل تشغيل العمالة في مقتبل العمر إلى المستوى الذي كان عليه في عام 2007 حتى أغسطس/آب 2019، وحتى في ذلك الحين، ظل الدخل الوطني الأميركي أقل من اتجاه النمو في الفترة من 2000 إلى 2007 بنحو 8.3%، مما يعني أنه منذ خطاب أوباما في يناير/كانون الثاني 2010، لم يُـسـتَـرَد أي قدر من الدخل الحقيقي أو الناتج المفقودين.

في عام 2012، حَـذَّرَ لورنس سمرز، مدير المجلس الاقتصادي الوطني في عهد أوباما حتى يناير/كانون الثاني 2011، وأنا معه، من أن تشغيل العمالة في مقتبل العمر، والإنتاجية، والدخول الحقيقية، لن تتعافى أبدا إلى اتجاهات ما قبل 2007 بدون تجديد الحوافز المالية القوية. وكنا على حق بشأن الإنتاجية والدخول الحقيقية، بينما لم يتعاف معدل التوظيف بين المواطنين في مقتبل العمر في النهاية إلا بعد 12 عاما (أطول بثلاث مرات مما حدث في دورات العمل السابقة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية).

اعتبرت الأمر أنا وسمرز مسألة حسابية أولية. فقد لاحظنا أن المعدلات التي يقرض بها المدخرون في مختلف أنحاء العالم حكومة الولايات المتحدة كانت تدل على استعدادهم للدفع للحكومة للحفاظ على ثرواتهم آمنة. ولم يكن الاقتراض الحكومي بلا تكلفة وحسب؛ بل لم تنشأ الحاجة إلى تحويل الموارد لخدمة الدين.

في ظل هذه الظروف، كان الاقتراض لتمويل التحفيز الإضافي ليحقق الفوائد المرجوة كاملة. وعلى الرغم من احتمال قدوم وقت حيث يفقد المدخرون رغبتهم في حيازة ديون الحكومة الأميركية، وتصبح سياسات تقليص الديون ملائمة، فمن المؤكد أن عام 2012 لم يكن ذلك الوقت.

غني عن القول إن حججنا لم تخلف أي تأثير يُـذكَر. لكني أتذكر الآن هذا التاريخ القديم لأنه يبدو على نحو متزايد أننا على وشك تكراره.

بسبب جائحة كوفيد-19، عاد معدل تشغيل العمالة بين الأميركيين في مقتبل العمر في الولايات المتحدة إلى الانخفاض إلى 76%، وهذا أعلى قليلا مما كان عليه في عام 2010. ينبغي لنا أن نتذكر أن 20% من الأميركيين في مقتبل العمر كانوا في الأوقات الطبيعية (قبل الفترة 2007-2008) لا يعملون ولا يبحثون عن عمل، أما الآن فقد أضيف نحو 5% أخرى من السكان إلى هذه المجموعة. وهذا يعني ملايين الأشخاص القادرين على أداء أي عدد من المهام المفيدة المدفوعة الأجر المتروكة حاليا دون أن يقوم بها أحد.

في ظل سياسة وطنية متعقلة، كانت الحكومة الفيدرالية لتنفق أي قدر لازم من المال لتوليد الطلب الضروري لجعل عودة أصحاب الأعمال إلى استئجار العمالة من السكان في سن العمل ممارسة مجدية. وكانت المخاوف بشأن ما يمكننا تحمله لتنحى جانبا إلى أن يأتي اليوم الذي يتوقف فيه المدخرون في العالم عن النظر إلى ديون الحكومة الأميركية على أنها أصول خاصة ذات قيمة فريدة. وقد لا يأتي هذا اليوم أبدا.

كما لاحظ جون ماينارد كينز أثناء الحرب العالمية الثانية: "كل ما يمكننا القيام به، يمكننا أن نتحمله". اليوم أصبحت هذه النقطة أشد وضوحا. وليس علينا أن نبحث حتى في كيفية تمويل الاستجابة للأزمة الحالية؛ فقد اكتمل هذا القسم من المعادلة تلقائيا.

* جيه. برادفورد ديلونغ، أستاذ علوم الاقتصاد بجامعة كاليفورنيا في بيركلي، وباحث مشارك لدى المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية
https://www.project-syndicate.org

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق