اليوم يترقب العالم خطة بايدن والديمقراطيين إزاء التعامل مع ملف إيران النووي، خاصة إن الاتجاه العام يشير ألي عودة سياسة الطاولات للظهور، لكن الخوف هو إن يتم تدوير سياسة أوباما، وتعود إيران إلى دورها السابق، وتشجعها على المزيد من التدخل في شؤون المنطقة، وتحقيق أحلامها التوسعية...

التاريخ منجم زاخر بالحكمة التي قد نجد فيها المفاتيح الذهبية لمشاكل حاضرنا كما يقول كيسنجر عراب السياسة الأمريكية. كذلك التاريخ في (باطنه نظر وتحقيق) كما يقول ابن خلدون. فما يحدث اليوم في أمريكا هو جزء من الماضي بمفاتيحه الذهبية لفتح الحاضر، وباطنه نظر لاكتشاف الحقيقة.

فما يحدث اليوم في أمريكا هو التاريخ المتراكم المتصل بحلقات مترابطة. لكن الدهون اَلْمُتَشِّحمَة بالمشكلات والثقافات المتناحرة والمتنوعة تصلبت على شكل بركان نار بدأ يطلق علامات تحذيرية لانفجار قوي، باهتزازات مجتمعية، وحمم بركانية سياسية مميتة، وغازات عنصرية، بسبب تشققات في قشرة المجتمع الأمريكي ونظامه السياسي. كما هو الخطر المتأصل بسبب سياسات الهوية الذي يدفع الأفراد إلى قبائلهم السياسية، حيث يصبح جزء من حمضهم النووي التطوري.

بايدن، دخل إلى البيت البيض بعد مخاض عسير في الانتخابات وفوضى الشوارع، وانقسامات حادة بين (قبيلة) الجمهوريين والديمقراطيين، وظهور ميليشيات مسلحة منقسمة بين الدفاع عن العرق البيض، وأخرى عن العرق الأسود. وحمى الصراعات السياسية والمجتمعية. وعاصمة تحولت إلى ما يشبه الثكنة العسكرية؛ وتشكيك بانتخابات مزورة، وهو ما لم يحدث في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية.

ليس هناك عائق للعقل البشري في التوقف والحلم والتفكير بالمستقبل. والزمن دورات تاريخية متوالية الحدوث. فلا إمبراطورية تدوم إلى الأبد، وكل مملكة تولد لتموت. فلا توجد في أمريكا ثقافة واحدة، وإنما أمريكا متعددة، لأنها لم تنشأ أصلا كمؤسسة واحدة، بل مجموعات منفصلة كليا، كونت عناقيد من مستعمرات منفصلة لها مثل عليا، وأهداف مختلفة.

الأحزاب الأمريكية من خلال التجارب تخرج أحيانا عن الثوابت بخدعة الأساليب المختلفة، فترامب قلب بعض الثوابت إلى ثوابت متغيرة، وخلق في السياسة انقسامات حادة، وتمرّد في الشوارع والولايات، واقترب إلى الموضوعية في التعامل مع بعض الملفات الخارجية، كما حدث مع الملف النووي الإيراني بعد شعوره بالخطر على العالم، وتمدد إيران في المنطقة. بينما كانت سياسة أوباما متساهلة جدا مع الملف، وحققت إيران الكثير من مطامعها السياسية والاقتصادية بسبب الاتفاقية النووية.

اليوم يترقب العالم خطة بايدن والديمقراطيين إزاء التعامل مع ملف إيران النووي، خاصة إن الاتجاه العام يشير ألي عودة سياسة سياسة الطاولات للظهور، لكن الخوف هو إن يتم تدوير سياسة أوباما، وتعود إيران إلى دورها السابق، وتشجعها على المزيد من التدخل في شؤون المنطقة، وتحقيق أحلامها التوسعية.

في كتابها الرصين المعنون (العودة إلى الطاولات –اتجاهات المسالة الإيرانية في عهد الرئيس بايدن) الصادر عن مركز الإمارات للسياسات في أبو ظبي 2021، تثير د. ابتسام الكتبي حقائق موضوعية عن السياسة الأمريكية التقليدية بشكل عام، وسياسة بايدن بشكل خاص بما يتعلق بالملف النووي الإيراني، فهي تعتقد بأن سياسته نحو الشرق الأوسط ستكون عودة إلى الوضع (التقليدي)، وان تعامله لن (تكون نقض سياسات ترمب في الشرق الأوسط، بل سيحاول إعادة تشكيلها ببطء، وتدرّج-ص7)، كما يرجح إن ينجح في (وقت مبكر من رئاسته بالتوصل إلى اتفاق مؤقت ترفع بعض العقوبات على ايران، ولكن بشرط موافقتها على الجلوس إلى الطاولة باتفاق جديد موسع –ص12). وربما تكون بعض دول الخليج مشاركة في عملية التشاور.

الكتاب يشمل على ستة محاور مهمة، ومختارة بعناية فائقة، ومنهجية علمية حافظت على وحدة الموضوع، وترابط الأفكار وتسلسلها، مع أسلوب بسيط وعميق. يفجر الأفكار السياسية، ويجعلها أكثر ثراء في المعنى والدلالات.

هناك تحليلات سياسية واقعية حول السياسة المتوقعة لبايدن، وفرص الانفتاح الجزئي على حل مشكلات الشرق الأوسط، ولاسيما الملف الإيراني. خاصة بعد تشكيل فريق بايدن لوازرة الخارجية والدفاع والأمن القومي، والمخابرات المركزية، وتعيين عدد من الشخصيات التي كان لها دور فعال في تشكيل الاتفاق النووي عام 2015.

ترى المؤلفة بأن سياسة بايدن في التعامل مع الشرق الأوسط ستكون بطيئة بسبب عوامل كثيرة منها الضغوطات الداخلية، وإنهاء الانقسامات الأمريكية الداخلية، والابتعاد عن (سياسة المقايضة) التي اتبعها سلفه ترامب، وترتيب العلاقات مع الاتحاد الأوربي، ودول الخليج، كذلك انتظار نتائج الانتخابات الإيرانية في يونيو 2021. وكلها ستكون عوامل أساسية للتعامل مع الملف الإيراني، بعد انتهت (فقرة الرقص ...والجميع سوف يتوجهون إلى الطاولات-ص19).

ولكي يكون الحكم على بايدن موضوعيا، فأن الكتبي تحاول دراسة سيرة بايدن السياسية بطريقة لا تخلو من التحليل الشخصي الرصين. فالرجل خبير في شؤون الشرق الأوسط، ويمكن له حل مشكلات المنطقة، ولاسيما حرب اليمن، بالتعاون مع السعودية وإيجاد طرق أكثر واقعية لأنهاء الأزمة، وهي خطوة مرحبة من الديمقراطيين والأوربيين.

كما سيعيد التوازن في العلاقة مع إسرائيل والسلطة الفلسطينية. مثلما سيتبنى الاستمرار في تطبيع الدول العربية مع إسرائيل. وسيستخدم النهج الدبلوماسي والاقتصادي في الكثير من القضايا، خاصة مع سوريا وإيران، وسيزيد من ضغوطه على روسيا وتركيا.

وما يتعلق بالتعامل مع دول الخليج، فأنه سيتعامل معها كدول متباينة. ولكنه سيتشاور معها بشأن التعامل مع إيران، دون أن يكون لها القرار الأخير. أي إن السياسة الأمريكية ترفض التدخل في قراراتها، ولاسيما من قبل إسرائيل. وهذا لا يعني عدم حمايتها. فالعلاقة معها هي استراتيجية لا تقبل النقاش والتأويل.

وربما سيطلب بايدن من دول الخليج تعديل سياستها اتجاه الأزمة مع إيران، وتهدئة المواقف لضمان نجاح المفاوضات. وبشكل عام، الخليج سيكون محورا فعالا في السياسة الخارجية، ولايمكن لأمريكا التخلي عنها بسبب وجود مصالحها القوية في هذه المنطقة. والخوف إن تملأ من قبل روسيا والصين. لكن المؤلفة ترى من جانب آخر بأن أمريكا لن تدفع بشأن التحول الديمقراطي في الشرق الأوسط، لأنها بالأصل تعاني من مشكلات اجتماعية وعرقية وانقسامات سياسية حادة. ص26.

وفي رأينا، بأن سياسة بايدن ستعيد نغمة الديمقراطيين بما يتعلق بموضوعي (حقوق الأنسان والديمقراطية)، وستستخدمها كعامل ضغط على المنطقة بين فترة وأخرى، وحسب مصالحها وخططها، وبتحريض من قادة حزبه. لأنني اعتقد إن بايدن في النهاية هو الجسد الذي يتحرك وعقله محفوظ في خزانة حزبه. فما عاد الرجل ديناميكيا أيام شباب السياسة ونضوجها. هو الآن في أضعف لياقته البدنية والفكرية. فالعمر (78) يأخذ منه الكثير، فهو أكبر من أي رئيس في التاريخ الأمريكي. أما لياقته العقلية فهي مأساة أخرى. فقطار أفكاره كان يخرج دوما عن السكة، وبصعوبة بالغة كان يتمكن من صياغة عبارة ذات معنى.

وتبقى أهمية الكتاب أنه يتضمن استشراف وسيناريوهات بخصوص الملف الإيراني (32ص)، لعل أبرزها هي السياسة الوسطية في التعامل مع الملف النووي، واستبعاد العودة الكاملة إلى مسار المفاوضات وأنهاء العقوبات، والاستمرار في التصعيد الراهن.

كذلك استمرار حملة (الضغوط القصوى) على إيران لحين قبول إيران بالجلوس إلى طاولة المفاوضات. ويفترض السيناريو الوسطي عودة أمريكية مشروطة إلى الاتفاق النووي، وتوسيعه بحيث يشمل قضايا خلافية أخرى كالصواريخ البلاستيكية. كما يمكن تليين موقف إيران من المفاوضات بسبب الضائقة المادية التي دفعت بالمجتمع الإيراني إلى حافة الانهيار. كما تتوقع الكاتبة إن (تعمل إيران على تحريك لوبيات تمتلكها في الولايات المتحدة واوربا من اجل التأثير على صانع القرار الأمريكي، والاوربي، وتحريك استراتيجية فرض الحلول البديلة على إدارة بايدن-ص86)

وبغض النظر عن رأينا بالمقاربات والتحليلات، ومدى قربها وبعدها عن الواقع السياسي، وطبيعة البيئة العالمية الصراعية، وتداخل المصالح واللوبيات المختلفة، فأن كتاب (العودة إلى الطاولات) للباحثة المتخصصة في الشؤن السياسية د. ابتسام الكتبي، يعتبر كتابا رصينا بمعلوماته وتحليلاته العلمية. هو كتاب سياسي معرفي يتوغل في عمق المشكلة، ويستنبط أفكارا جدلية من الواقع السياسي الملغوم بالصراعات والانقسامات، ويستشرف المستقبل بموضوعية، وبعقل باحث علمي يبحث عن الحقيقة. ويضع القارئ بمواجهة تراكمات من الأحداث والوقائع التي تشكل البيئة الصراعية الدولية.

باختصار، الكتبي الباحثة المثيرة للجدل في تحليلاتها السياسية وأفقها الواسع، وبحوثها السياسية المتميزة في السياسة والدراسات المستقبلية، قدمت لنا كتابا سياسيا مهما لقراءة المستقبل، لاسيما في موضوع إيران ومفاعلها النووي، وموقف بايدن وسياسته المحتملة اتجاه إيران. كتاب مثير بأسلوبه الرشيق، وتحليلاته الجريئة، فقد حرك فينا نوازع البحث عن الحقائق، وفتح لنا افق التفكير والتحليل والاستقراء. بل اعادنا إلى طاولات المعرفة حيث البحث عن عالم جديد يسوده السلام والتسامح والتعايش.

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق