قستْ قلوبُنا {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} فانتُزِعت منها الرحمة فانتشر الظّلم في المجتمع، وإذا بِنَا سِباعُ ضاريةٌ تغتنمُ بعضها أُكُلَ البعضِ الآخر!.

فالناسُ يظلم بعضهم البعض الاخر، في علاقاتهم، في بيعهِم وشرائِهم، في معاملاتهِم، في أماناتهِم واستشاراتهم، في رفضهم وقبولهم، في تقييمهم وسكوتهم، في شهودهم وغيابهم، وفي كلّ شيء.

والراعي والرعية يظلمُ بعضهم البعض الاخر، الاوّل بخيانة العهد وخلف الوعد والانقلاب على تعهّداتهِ، والثاني في اختياره وفي تقييمهِ.

وفي الأُسرةِ، الوالدان والأولاد، الزّوج والزّوجة، يظلِمُ بعضهمُ البعض الآخر، في التّربية والطّاعة، في العطفِ والاحترام، في الحديث والإصغاء، بعكسِ ما قال رب العزة {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} وقولهُ تعالى {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}.

وفي المدرسة والمعهد والجامعة، المعلّمون والمدرّسون والطّلبة يظلمُ بعضهمُ البعض الاخر، في الدّرس والاختبار والنتيجة والعلاقة وحقّ الدّرس والعلم.

وفي الشّأن العام، السّياسيّون والإعلاميّون يظلم بعضهم البعض الاخر، في الأداء والرّقابة.

وعندما خلَت قلوبُنا من الرّحمة بتنا نظلمُ حتّى انفسنا وعقولنا ومشاعرنا، فنسينا القراءة وطلب العلم ونسينا الحب حتى امتلات ارواحنا بغضاً وكُرها لكلّ شيء، عندما تحوّلت الدّنيا الى لونٍ واحد فقط هو اللّون الأسود، فلم نعد نرى من ألوان الطّيف الشمسي، قوس قزح، الجميلة والرائعة والزاهية غيره!.

ننشر الاكاذيب والأخبار الملفّقة والتّحليلات المفبركة ونبثّ الدّعايات ونتداول اخبار التّسقيط والتّهم الرّخيصة فلا يسلم من لسانِنا احد.

لقد عمّ الظّلمُ المجتمع، ثم نتساءل باستغراب؛ لماذا كلّ هذه المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والأمنية والأخلاقية التي نعيشها؟ والتي تُصبُّ علينا صبّاً.

لماذا لا يرحمنا الله تعالى فينقذنا ممّا نَحْنُ فيه؟ فنسينا جوابَ رسول الله (ص) لرجلٍ قال له (أُحِبُّ ان يَرحَمَنا الله) {إِرحَمْ نَفْسَكَ وارَحَم خَلْقَ الله يَرْحَمُكَ الله} وقولُ أَمير المؤمنين (ع) {مَنْ لا يَرْحَمِ النَّاسَ مَنَعَهُ اللهَ رَحْمَتَهُ} وقولهُ {بِبَذْلِ الرَّحْمَةِ تُسْتَنْزَل الرَّحَمَة} وقولهُ (ع) {رَحْمَةُ الضُّعَفاءِ تَسْتَنْزِلِ الرَّحْمَة} وقولهُ {بالعَفْوِ تَسْتَنْزِلِ الرَّحْمَةِ}.

ونظلُّ نتساءلُ بغضبٍ؛ لماذا يُقتل ابناؤنا يومياً؟ لماذا نتعرّض للجرائم المنظّمة يومياً؟ ولماذا يقتلُ بَعضَنَا البعض الآخر؟ ولماذا خيّمُ القتلُ والذَّبحُ والتدميرُ والاقتتالُ العبثيّ عالمنا العربي والإسلامي؟ ولماذا؟ ولماذا؟ وألفُ لماذا؟!.

لقد قضَت سنّة الله تعالى وحكمتهُ ان يكونَ العدل هو المدار في كلّ شيء فـ {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} وانّ دليل العدل الرّحمة {كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} ورحمتهُ تُستنزَل برحمةِ عبادهِ بعضهُم البعض الاخر، فاذا تراحمَ النَّاسُ رحمهم رب العزّة والعكس هو الصّحيح، فاذا تظالموا وتباغضوا وتباعدوا رفعَ اللهُ تعالى من رحمتهِ عنهم بمقدارِها، فكيف بِنَا اذا غيّبنا الرّحمة فيما بيننا بالكامل؟ هل يُمكن ان ننتظر رحمة الله تعالى تنزلَ علينا؟!.

وانّ من أسباب قساوة القلب الغفلة عن التضرّع والدعاء والعُجب بالنّفس وبما تُنجِز وكأَن ذلك نهاية العالم، والتكبّر وما يُنتج عنه من إِطالة الأمل والأمد، كما في قوله تعالى في الآيات التالية؛

فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ* فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ.

أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ.

ولذلك حذّر أَمير المؤمنين (ع) من هتين الخصلتين السّيئتين بقوله؛ أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ اثْنَانِ: اتِّبَاعُ الْهَوَى، وَطُولُ الاْمَلِ; فَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ، وَأَمَّا طُولُ الاْمَلِ فَيُنْسِي الاْخِرَةَ.

فلماذا لا نقرّر ان يكون العام الجديد عام الرّحمة؟ يرحم بَعضُنَا البعض الاخر، ونتراحم فيما بيننا وعلى كلّ المستويات، خاصّة على مستوى العلاقة بين السّلطة والشعب، فليكن شعار كلّ مسؤول في الدّولة، مهما كان موقعه كبيراً او صغيراً، وصيّة أَمير المؤمنين عليه السلام في عهده الى مالك الأشتر لمّا ولّاه مصر؛ وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، وَالْـمَحَبَّةَ لَهُمْ، وَاللُّطْفَ بِهِمْ، وَلاَ تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وَإمّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ.

ما احوجنا الى الثّلاثي الاستراتيجي [الرّحمة والمحبّة واللّطف] الذي سيغيّر حالنا بشكلٍ جذري اذا خلقنا له الارضيّة على كل المستويات، في العائِلة وفي الشّارع وفي المدرسة وفي محلّ العمل وفي السّياسة وفي كلّ مكان.

ومن أجل ان يكون عامَنا الجديد عامَ رحمةٍ نبني عليها علاقاتنا الانسانيّة، ما أجمل ان نتّخذ من قولِ أمير المؤمنين (ع) هادياً لنا في ذلك.

يقول عليه السلام؛ {ابْذِلْ لِأَخيكَ دَمَكَ وَمالَكَ، وَلِعَدُوِّكَ عَدْلَكَ وَإِنْصافَكَ، وَلِلْعامَّةِ بِشْرَكَ وَإِحْسانَكَ}.

لقد بدأنا عامنا الجديد مع ذكرى المولد النّبوي الشّريف، ولقد وصفَ رَسُولُ الله (ص) نَفْسَهُ بقوله {أَنْا الرَّحْمَةُ المُهْداة} فيما وصفَ ربّ العزّة بعثتهُ (ص) بقولهِ تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} بماذا؟ {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}.

تعالوا نتراحم فيرحمُنا الله تعالى، فما نحن فيه لا يمكن الخلاص مِنْهُ اذا لم تشملنا عنايةً خاصَّةً من ربِّ العزّة {إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا} ولا يَكُونُ ذلك الا اذا استنزلنا رحمتهُ {مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ولا يُمْكِنُ ذلك الا اذا تراحمنا، فلقد قال رسول الله (ص) {إِرْحَمْ مَنْ في الأَرْضِ يَرْحَمُكَ مَنْ في السَّمَاءِ} وقولهُ (ص) {تَحَنَّنوا على أيتامِ النّاسِ يُتَحَنّنُ على أَيْتامِكُم} والا كيفَ يُمْكِنُ ان تُستَنزل رحمة السّماء اذا كنّا نظلمُ بَعضَنَا البعض؟!.

انّ نهاية الظّلم بالتّقوى، وصدقَ امير المؤمنين (ع) الذي يقول {فَمَنْ أَخَذَ بِالتَّقْوَى عَزَبَتْ عَنْهُ الشَّدَائِدُ بَعْدَ دُنُوِّهَا، وَاحْلَوْلَتْ لَهُ الاْمُورُ بَعْدَ مَرَارَتِهَا، وَانْفَرَجَتْ عَنْهُ الاْمْوَاجُ بَعْدَ تَرَاكُمِهَا، وَأَسْهَلَتْ لَهُ الصِّعَابُ بَعْدَ إِنْصَابِهَا، وَهَطَلَتْ عَلَيْهِ الْكَرَامَةُ بَعْدَ قُحُوطِهَا، وَتَحَدَّبَتْ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ بَعْدَ نُفُورِهَا، وَتَفَجَّرَتْ عَلَيْهِ النِّعَمُ بَعْدَ نُضُوبِهَا، وَوَبَلَتْ عَلَيْهِ الْبَرَكَةُ بَعْدَ إِرْذَاذِهَا}.

اللّهم اجعلنا ممّن {نَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا}.

وَكُلُّ عامٍ وَأَنتُم بِخَيْرٍ أَحِبَّتي.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق