q
المدن الأصيلة في مدينيّتها تختلف بالتأكيد، لأن التخلي عن اللمسات المدنيّة أو الإساءة لها من قبل أية جهة، يعد تجاوزا على قيم اهاليها، وان حصل هذا فبالإكراه وخارج ارادة ابنائها، وهو ما نراه اليوم من مظاهر مرفوضة في بعض مدن بغداد الشعبية الأصيلة التي تعاني من نقص الخدمات الاساسية وابرزها النظافة في شوارعها، كالفضل والكسرة وامثالهما...

قبل أيام ذهبت إلى مدينة الكاظمية وقبل أن اصلها مررت بمدينة الأعظمية.. معروف أن المدينتين أو الحيين البغداديين الكبيرين، هما من بين أقدم وأهم احياء العاصمة.. الذي لفت انتباهي في زيارتي الاخيرة هو نفسه الذي ظل يلفت انتباهي في زياراتي السابقة، الا وهو النظافة والفضاء المدني المتمثل باحترام الشارع وانعدام التجاوزات والتناسق بين المحلات ومواقف السيارات وغيرها.

وهذه الصورة ترسخت في اذهاننا منذ الصغر، لاسيما نحن القرويين الذين نأتي إلى المدن فيبهرنا هذا الأمر حتى صرنا لانرى المدن إلّا هكذا!. لا أريد أن انتقص من مدنيّة محلة أو حي في بغداد وغيرها، وليس من حقي هذا بالتأكيد، وايضا لا أقول إن المدنيّة تقتصر على هاتين المدينتين، لأن في هذا ظلما كبيرا لأحياء اخرى كثيرة في بغداد، التي تعد من بين كبريات المدن في العالم.

لكني أود أن أشير هنا إلى مسألة أراها دقيقة، وهي أن هناك احياء كثيرة في أغلب المدن العراقية، أصبحت مدنيّة بقرار من الحكومات في حينه، أي أنها بنيت لشريحة معينة قد يكون منحدر أغلب سكانها غير مديني، وباتت جزءا من جسد المدينة، لكنها ظلت تحتفظ بعادات وتقاليد غير مدينية أو ريفية وبدوية، وأن مظاهر المدنيّة فيها كالعلامات المرورية وخطوط العبور واللمسات الأخرى فرضت على هؤلاء الناس، الذين ليس أمامهم سوى الانسجام مع هذا الواقع والتأقلم معه، وهكذا صار سلوكهم وتصرفاتهم تبدو مدينيّة.

وهذا شيء جيد لأن الممارسة الطويلة تتحول إلى اعتياد، ومن ثم تصبح جزءا من ثقافة الأفراد والجماعات، ولعل هذا حصل فعلا عندما أخذ ابناء القرويين ممن سكنوا المدن يمارسون حياتهم المدنيّة كأبناء المدن الأصليين، بلباسهم وسلوكهم، ويشعرون بالسعادة والفخر ايضا! وكان من الممكن جدا أن تنعدم المسافة بين ابن المدينة الأصلي والوافد لو أن الحياة الطبيعية استمرت ولم تحصل الحروب التي تسببت بإيقاظ القيم الريفية والبدوية لاستثمارها كنوع من التعبئة في تلك الظروف، كون غالبية ابناء الشعب من سكنة الأرياف أو ريفيين يسكنون المدن.

هكذا اذن، وبعد أن تقادم الزمن على مكوث الثقافة التعبوية المتمثلة باستثمار المهاويل والشعبويات والغيبيات واستدعاء العادات والتقاليد البالية كالهوسات التي ترافقت مع واقع حياتي منهك على المستوى الاقتصادي والخدمات العامة بسبب تداعيات الحرب والحصار وفوضى السوق وشيوع ثقافة البسطات وغياب نظافة الأمكنة لسنين طويلة، وجدنا انفسنا في واقع حياتي مختلف تماما، لأن الضابط المديني الذاتي لم يكتمل تماما في دواخل أغلب سكان تلك الأحياء وترافق ذلك مع غياب الضابط الحكومي وارتخاء يد الدولة بشكل عام، بسبب الظروف المعيشية الصعبة واضطرار الناس، لجعل الأرصفة اسواقا واهمال اللمسات المدينيّة بل عدّها وقتذاك ترفا وبطرا.

المدن الأصيلة في مدينيّتها تختلف بالتأكيد، لأن التخلي عن اللمسات المدنيّة أو الإساءة لها من قبل أية جهة، يعد تجاوزا على قيم اهاليها، وان حصل هذا فبالإكراه وخارج ارادة ابنائها، وهو ما نراه اليوم من مظاهر مرفوضة في بعض مدن بغداد الشعبية الأصيلة التي تعاني من نقص الخدمات الاساسية وابرزها النظافة في شوارعها، كالفضل والكسرة وامثالهما. لانقصد من وراء هذه السطور غير الدعوة إلى اعادة الحياة المدنيّة للأحياء التي بلغت فيها المدنيّة سابقا مديات بعيدة وتراجعت في العقود الاخيرة بشكل يثير الألم حقا.

اضف تعليق