q
غزة اليوم تعيش اقسى مرحلة في تاريخها المعاصر، والناس فيها باتوا في خزان من جحيم ويواجهون مصيرا مجهولا بعد ان اخذ الصراع وجهة جديدة، حيث ملامح مشروع مخيف يستبطن تهجيرهم مرة اخرى، اي ربما يشهد الذين شردوا من ديارهم بعد النكبة قبل اكثر من سبعين عاما نكبة اخرى .. ولكن الى أي ديار؟...

لبعض المدن والأماكن حكايات وقصص فريدة تميّزها عن غيرها، كتبتها الأحداث التي عاشتها وشكّلت ملامحها .. الناس فيها يعيشون قصصهم الخاصة، لكنهم يتأثرون بملامح مدنهم او ما تتركه الاحداث من اوشام على وجوهها ومع الزمن يتماهى اهلها معها حتى يصبحوا يشبهونها.

غزة، مدينة او منطقة، اختزلت الكثير من حكاية الشعب الفلسطيني ورحلته المأساوية الاخيرة التي بدأت منتصف القرن الماضي ومازالت .. خرجت مع كامل فلسطين من عباءة الحكم العثماني العام 1917 لتجد نفسها في ذمة الاحتلال البريطاني، لكن قصتها المثيرة كتبتها الأحداث لاحقا، وتحديدا منذ حرب العام 1948 حين تم تهجير اعداد كبيرة من فلسطينيي السواحل وغيرهم بعد ان باتوا عقب التقسيم جزءا من (اسرائيل) ودفعت بهم آلة الحرب الصهيونية (التطهيرية) الى مشارف غزة التي تحولت بمساحتها الصغيرة التي لاتتجاوز(360 ) كم مربع الى مايشبه الخزان البشري، يتملّك اغلب اهلها الحنين الى الديار الأولى التي طردوا منها، وبقي الحنين يتخمر في الصدور، اذ لم تستفرغه الحروب العربية بل اذكته الهزائم المتتالية.

ظل (قطاع غزة) لنحو عقدين تحت ادارة مصرية بدأت في العام 1949 على خلفية اتفاق (مصري اسرائيلي) وقتذاك، وستنتهي في العام 1967 بعد نكسة حزيران، ليجد ابناء غزة انفسهم هذه المرة تحت الاحتلال الاسرائيلي المباشر، وبات أمل اغلبهم في العودة الى الديار الاولى بعيد المنال، وكذلك بقية الفلسطينيين المهجّرين وقد تضاعفوا بعد نكسة حزيران ليكتمل الفصل الثاني من القصة .. الفصل الثالث ادركناه وعشنا تفاصيله على مراحل، منذ انسحاب الجيش الاسرائيلي من قطاع غزة العام 1982 بعد اتفاقية السلام المصرية الاسرائيلية وعدم رغبة مصر بالعودة لحكم القطاع، كي لاتبقى عالقة بشكل مباشر في شراك القضية الفلسطينية! وهكذا بقيت غزة تحت الحكم العسكري الاسرائيلي على الرغم من انسحاب الجيش من هناك .. انتهى الحكم العسكري الاسرائيلي بعد اتفاق اوسلو العام 1993 وتشكيل السلطة الفلسطينية العام 1994.

الاّ ان المشكلة الأكبر التي اثقلت على ابناء القطاع ومسخت ما تبقى من فسحة للحياة هناك، هو النزاع بين السلطة المعترف بها دوليا وعمادها منظمة التحرير الفلسطينية في (الضفة الغربية/ رام الله) والتي قادت عملية السلام وقبلت بحل الدولتين، وبين الاسلاميين ممثلين بحماس التي قويت شوكتها في غزة، لاسيما بعد انتفاضة العام 1987 وظلت ترفض اي حل للمشكلة من دون عودة اللاجئين وتحرير كامل التراب الفلسطيني! ليواجه سكان القطاع فصولا مرّة ومؤلمة من الصراع الفلسطيني الفلسطيني الذي وصل ذروته في العام 2006 حيث القطيعة الكبرى بين سلطتي (رام الله / غزة) بعد سيطرة حماس الكاملة على القطاع، ما اسهم في مضاعفة المشاكل الحياتية للسكان الذين وجدوا انفسهم بعد سلسلة الخراب الطويلة، تحت ضغط الحصار الاسرائيلي الخانق والعزل القسري عن اخوانهم في الضفة الغربية، بعد ان بات لفلسطين حكومتان متناشزتان في الثقافة الحياتية والرؤية السياسية للحل، وقد كرّس هذا الواقع المرير وضاعف مرارته المواجهات غير المتكافئة التي تحصل باستمرار بين حماس والفصائل الاسلامية الأخرى وبين اسرائيل وما يترتب عليها من دمار وخراب، مع غياب الارادة الدولية الحقيقية في فرض الحل الشامل والمنصف على طرفي الصراع.

غزة اليوم تعيش اقسى مرحلة في تاريخها المعاصر، والناس فيها باتوا في خزان من جحيم ويواجهون مصيرا مجهولا بعد ان اخذ الصراع وجهة جديدة، حيث ملامح مشروع مخيف يستبطن تهجيرهم مرة اخرى، اي ربما يشهد الذين شردوا من ديارهم بعد النكبة قبل اكثر من سبعين عاما نكبة اخرى .. ولكن الى أي ديار؟ .. لا أحد يعرف، لكن الجميع يعرفون ان هذا اذا ماحصل فسيكون بداية لقصة مخزية يخجل منها كل انسان حرّ ومتحضر في العالم.

.....................................................................................................
* الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق