النهضة الإسلامية المرتقبة لا بدّ لها من عوامل ومقوّمات أساسية تكون بمثابة الأعمدة الراسخة لإقامة صرح النهضة التي تقوم بأبنائها من رقدتهم وتوقظهم من سباتهم. فبالوعي والعلم والعمل والتنظيم وبالاعتماد على الذات تنهض الأمم لتحقق ذاتها. ولا يمكن لذلك أن يفجّر طاقات الأمة الإسلامية الخلّاقة ما لم يكن...

مقدمة

لا شك أن مسألة النهضة الإسلامية هي حلم يراود مخيلة كل مسلم غيور على دينه ومعتقداته وعالمه الروحي المترامي الأبعاد، وهي أيضاً رغبة تدغدغ مشاعر وعواطف كل من له باع طويل في قراءة ومعرفة النظرية الإسلامية في خلق الحضارة الإنسانية التي تتجاوز حدود الدين والقومية إلى حدود الإنسانية العامة والخلافة الإلهية الشاملة.

ولا يستطيع أحد أن ينكر بالفعل أن تفاعل الأمم والشعوب والثقافات سنّة من سنن الحياة الطبيعية والإنسانية، ولا يمكن لهذا التفاعل أن يكون مثمراً إلا من خلال اللقاء والحوار بين (الأنا) و(الآخر) على كافة المستويات وفي كل المجالات، وبدون أيّ نزعة عنصرية أو توجهات فئوية تعصبيّة.

فالنهضة –بوجه عام– مطلب كل الشعوب والأمم التي تريد الارتقاء والنهوض ونفض غبار الكسل والانحطاط الذي تكدّس على وجه هذه الأمّة أو تلك مما أفقدها بريقه وأخذ ببصرها وأضعفه وأضعف أيضاً بصيرتها إلى حدّ كبير مما جعلها على مسافة شاسعة من الأمم القوية والمتحضّرة.

والأمة الإسلامية التي توحدت برسالة الإسلام وبتعاليم القرآن الكريم استطاعت في ما مضى من غابر الأيام وسالف الأعوام أن تنشر عبيرَ كتابها الكريم وتعاليمَ رسولها الأمين (ص) بين الشعوب والأمم شرقاً وغرباً، وقد توسعت أرضها الجغرافيّة وخارطتها الفكرية والروحية إلى درجة استطاعت أن تستوعب من خلالها معظم تجارب الأمم الأخرى التي أصبحت على الفور جزءاً من تاريخها الإسلامي وذلك من خلال انضوائها تحت راية الدولة الإسلامية المترامية الأطراف.

وكان من نتيجة هذا التفاعل الحضاري وقتذاك نشوء حضارة إسلامية اتخذت من اللغة العربية –لغة القرآن الكريم– لساناً لها، ومن الإسلام هوية روحية يحملها كل من أراد التوحيد الإلهي والنهوض الحضاري والسير للأمام، أيّاً كان لون ذلك الفرد أو عرقه أو لغته الأساسية قبل أن يتعلم النطق بلغة القرآن. فالحضارة لا تعترف بلون على حساب لون، ولا بلغة على حساب لغة أخرى، بل إنها الحضارة التي تحترم كل القِيم والمبادئ وتستوعب كل الأطياف والأديان، وهذا ما يفسر مساهمة العديد من العلماء والمفكرين المسيحيين وغيرهم في بناء صرح الحضارة الإسلامية.

وبعد أن كان ما كان من شأن تراجع العرب والمسلمين عن الركب الحضاري لأسباب بيّناها في أبحاث سابقة، كان لا بدّ لنا من الحديث الآن عن بعض عوامل النهضة التي يمكنها أن تعيد للمسلمين مكانهم الطبيعي في موكب الحضارة والتقدم في العصر الحديث.

أهمّ عوامل النهضة

سبق وأن أشرنا إلى أن النهضة ليست كلمة عابرة وليست هدفاً سهل التحقيق، فعملية البناء تحتاج جهداً كبيراً ووقتاً طويلاً وإمكانيات هائلة بشكل مضاعف عدّة مرّات عمّا تحتاجه عملية الهدم والتدمير. ولذلك فمن الطبيعي أن نفكر مليّاً بمسألة النهوض وبالعوامل المؤسسة لها وفق الخطوات الحضارية التي تعلّمناها من تجارب الأمم الماضية عبر تاريخ الإنسانية الطويل، وعبر أحسن القصص التي أخبرنا عنها القرآن الكريم، هذا بالإضافة إلى خبرات الأمم الأخرى المعاصرة التي تعيش معنا ونعيش معها على سطح هذه الأرض المعمورة.

أهمّ عوامل النهضة؟

والسؤال الهام الذي يطرح نفسه الآن هو: ما هي أهمّ عوامل النهضة؟

والجواب هو:

هناك عدة عوامل هامة، وكلها مترابطة ومتداخلة مع بعضها البعض بحيث لا يمكن فك أحدها عن العوامل والمقوّمات الأخرى. وأهمّ هذه العوامل والمقوّمات هو:

وعي الذات

مخطئ كل من يعتقد أن عوامل الحضارة تأتي بالكامل من الخارج، ومخطئ أيضاً كل من يؤمن أن التخلف والانحطاط سببه الأوحد هو العدو الخارجي. فالتخلف والحضارة، كلاهما ينبعان بالأساس من الداخل، من داخل الإنسان كفردٍ ومن داخل المجتمع كأفراد ومجموعات وهيئات. وحتى ندرك تماماً معنى هذا الكلام علينا أن نتوقف قليلاً عند مسألة الوعي والتوعية بهدف أن نعرف ما لهذه المسألة من قيمة عليا في نهوض الأفراد والجماعات والأمم من سباتها الطويل.

هناك في علم النفس التحليلي قاعدة ذهبية تقول إذا أدرك الشخص المريض نفسياً أنه حقّاً مريض، فقد قطع نصف الطريق في مسألة الشفاء من مرضه. وهذه القاعدة في علم النفس لها امتداداتها النفسية والفكرية في علم الاجتماع أيضاً.

فالمجتمع المريض بأمراض شتى هو مجتمع قد يقطع نصف الطريق في عملية الشفاء والخلاص من شقائه إذا أدرك ووعى أنه حقّاً مريض ولم يدفن رأسه في الرمال بعد إدراكه أسباب مرضه ومعاناته. هذا من جهة أولى، ومن جهة ثانية يكون أسرع في السير نحو الشفاء إذا قام أبناؤه من أهل الفكر والمعرفة والسلطة والمرجعيات الحكيمة بالتعاون معاً في نشر بذور الوعي بين أفراد المجتمع وهيئاته ومنظماته بشكلٍ يكون الفرد فيه قادراً على استيعاب تلك الأفكار وإدراك واقعه السيئ دون أن يقع في دائرة اليأس والقنوط أو الإحباط.

ولذلك لم أستغرب أبداً عندما وضع سماحة السيد محمد الحسيني الشيرازي مسألة الوعي والتوعية على رأس المسائل الأساسية للمساهمة في عملية استنهاض همم المسلمين وبعث روح الحضارة فيهم من جديد.

وحول ذلك، يقول سماحته في كتابه القيّم (السبيل إلى إنهاض المسلمين): ((من الواجب على كل مسلم أن ينشر الوعي الإسلامي العقائدي والاقتصادي والسياسي والشرائعي والاجتماعي والتربوي والعسكري والزراعي والصناعي والاستقلالي في كل البلاد الإسلامية بواسطة الإذاعات والصحف والمجلات والنوادي والكتب والمؤتمرات وغيرها)) (1).

نعم، إن مسألة الوعي تبدأ من الذات، وهي مسؤولية الفرد والمجتمع على حدٍّ سواء. إنها عملية تبادلية بين الطرفين، ولكن مما لا ريب فيه أن بناء أي حضارة يبدأ بتأسيس أفراد المجتمع الذين سيشكّلون القاعدة الأوسع في المجتمع.

ومن هنا يبرز السؤال التالي:

ومن الذي سيقوم بتوعية الأفراد؟؟ ومن ثم الهيئات والمنظمات و...؟

والجواب هو: إن حجر الأساس في نشر الوعي هم أرباب الفكر والثقافة والمرجعيات الروحية والاجتماعية الهادفة، وليس بالضرورة الحكومات كما يتصور البعض. فكم من حكومة جائرة جاهلة حكمت العرب والمسلمين باستبدادها وجبروتها وليس بعدلها!!! وكم من سلطة قامت في الشرق أو الغرب على جعل الدين ستاراً لمطامعها وتحقيق مآربها حتى غدت مقولة كارل ماركس (الدين أفيون الشعوب) صحيحة ضمن إطار اجتماعي واضح من خلال دراسته لواقع الكنيسة في أوربا في عصور الإقطاعية الدينية وعصور الانحطاط ومحاكم التفتيش.

إذن، فالفئة الواعية المستنيرة من رجال الفكر والمراجع الرشيدة هي صاحبة المسؤولية في نشر الوعي المواكب لتطورات الحياة والإشارة إلى مواطن الضعف واقتراح الحلول المناسبة لإزالتها من طريق التقدم والنهوض.

وما من أحد يشك في أن كلمة حكومة مشتقة من الحكم ولكن ليس بالضرورة أن يكون من يحكم هو الأوعى وهو الأجدر بقيادة المجتمعات.

فالتاريخ الإسلامي يشهد على صدق مقالنا، فكم من حكومة أموية وعباسية حكمت البلاد وأفسدت العباد، ولم يكن حكمها أكثر من حكم قائم على التحكم بمصائر العباد وبمقدّرات العباد، إذْ لا همّ لها سوى السلب والنهب تحت ستار الخلافة، في حين كانت عملية توعية المجتمع مغيّبة تماماً، وعن عمد، في مختلف طبقات الشعب وذلك خوف الثورة والانقلاب على ذلك الواقع الفاسد والمرير.

التوعية والكتاب

ومما لا شك فيه أنه من الطرق السريعة التي لها مفعول قوي بين أفراد المجتمع عموماً هي عملية نشر الوعي من خلال الكتب، وهذا ما عبّر عنه السيد الشيرازي بقوله: ((إننا لوطبعنا ألف مليون كتاب ووزعنا هذه الكتب في كل البلاد الإسلامية فستكون حصة كل فرد مسلم كتاباً واحداً، وهذا أقّل الواجب، فاللازم علينا أن نشمّر عن سواعدنا لطبع مثل هذا القدر من الكتب على أقل تقدير في سبيل التوعية.)) (2)

ومن هذا المنطلق، فإن الكتاب أحد أهمّ الوسائل والطرق في عملية الوعي والنهضة. ويذهب البعض إلى أن الأمم تُقاس حضارياً بمقدار وعيها لذاتها من خلال عدد الكتب التي تُكتب بيد أبنائها ومن خلال عدد القرّاء وما يقرؤون من كتب في تلك الأمّة.

فالكتاب سبيل أكيد إلى التغيير، والدليل على ذلك أن أعظم الثورات في تاريخ البشرية قامت وبدأت بالكتاب. فالثورة الفرنسية عام 1789م بدأت بالكتاب، فقد نُشرت في تلك الحقبة عشرات الكتب التوعوية التي فتحت عيون الملايين من الفرنسيين على واقعهم المزري تحت ظل الاستبداد، فكان ذلك بداية تحرك المشاعر ومن ثم المخاض لتحرك المجتمع نحو تحديد أهدافه والمطالبة بحقوقه القانونية والشرعية في شتى ميادين الحياة.

إن كتب المفكر (بودان) صاحب نظرية السيادة، وكتب الفيلسوف (روسو) صاحب نظرية الحرية، وكتب ومحاضرات (ميرابو) كان لها دور عظيم في ولادة الثورة الفرنسية التي كانت الخطوة الثورية الأولى لنهضة الأمة الفرنسية وتطورها ونهوضها من تحت ركام المَلَكية المستبدة لتصبح دولة ناهضة متطورة لها مكانتها المميزة في مصاف الدول العصرية الراقية. وما الدور الذي لعبه الكتاب في الثورة الفرنسية إلا الدور الذي لعبه نفسه في بقية الثورات العالمية الكبرى، سواء في الثورة الأميركية ضد الإنكليز، أو في الثورة البلشفية الروسية ضد حكم القياصرة، أو في الثورة الصينية الكبرى التي عُرفت لاحقاً بالثورة الثقافية.

ومن هنا يرى سماحة السيد الشيرازي من خلال كتابه (الكتاب من لوازم الحياة) أن الكتاب وسيلة فعالة جداً في نشر الوعي واستنهاض الهمم وإعلاء شأن الأمم. فالكتابة هي أول وسيلة وعي اكتشف أهميتها الإنسان وما زال محتفظاً حتى العصر الراهن بقيمة هذه الوسيلة على الرغم من مرور القرون والعصور، وإن قول الإمام الشيرازي: ((إن الثقافة – ومن جملتها الكتاب – من أهم ما يحفظ الأمم واستقلالَها وصمودَها أمام غزو الأعداء، ولذلك نرى الأمم الحية دائماً تهتم بالكتاب كل الاهتمام)) (3). إن هذا القول هو عين الحقيقة في ما يتعلق بمكانة الكتاب ودوره في بناء المجتمعات والأمم. فالإسلام يدعو الإنسان دائماً إلى الكتاب والكتابة والقراءة، وأول سورة نزلت في القرآن الكريم هي سورة (إقرأ) وفيها الدعوة الصريحة والواضحة إلى القراءة والكتابة، وكفى بذلك شاهداً ودليلا.

الروح العلمية

يؤكد المفكر المسيحي الدكتور جورج حنا في كتابه (الإنسان العربي قديمه وجديده) على أن إدخال الروح العلمية في العقلية العربية المعاصرة، بل وفي العقلية الإسلامية عموماً، هو أحد أهم أعمدة النهضة والانبعاث الحضاري الجديد. فالجهل –كما يقول الدكتور حنا– يولّد التعصب الديني، والجهل يولّد تغلّب الشعور الفردي على الشعور الجماعي، والجهل يولّد الافتقار إلى الروح العلمية (4).

فالروح العلمية، أو ما يمكن أن يُسمى بالفكر العلمي، هو الذي أبدع في تشييد الحضارة الإسلامية السالفة. فالدين، بلا شك، حضارة روحية، ولكن هذه الحضارة الروحية يجب أن تسير جنباً إلى جنب مع الحضارة المادية العلمية حتى تتكامل الحضارتان في خلق حضارة واحدة موحَّدة تسير بالمجتمع إلى أعلى وأرقى درجات التطور والازدهار.

فأوروبا في عصر الانحطاط جعلت من الدين سجيناً بيد الحكّام والملوك قبل أن يكون رهينةً بيد الكثير من رجال الدين والباباوات الذين حاولوا أن يجعلوا من الدين وحضارته الروحية مطيّة لهم ولأطماعهم التي لا تنتهي، ولكن الأمر لم يستمر على تلك الحال أبداً، فانفجرت ثورة العقل والعلم وحررت الإنسان من نير الإقطاع والرجعية، وحاولت تحرير الدين من جبروت الكثير من رجاله الذين كانوا يزعمون أن الطريق إلى الفردوس الأعلى لن يمرّ إلا من خلالهم وبمباركتهم وبواسطة صكوك غفرانهم.

وقد كتب السيد الشيرازي تحت عنوان (المسلمون آباء العلم الحديث) أن علماء المسلمين كان لهم الدور الأكبر في تشييد الحضارة الإسلامية من جهة، وفي بناء الحضارة الأوروبية من جهة ثانية. وبعد أن أورد سماحته شهادة العديد من مؤرّخي الغرب ورجال فكره واعترافهم الصريح بدور علماء المسلمين في بناء صروح الحضارات في الشرق والغرب، يقول سماحته مؤكداً: ((فالمسلمون تمكنوا من أن يكونوا أساتذة العالم، لا هذا فحسب، بل تمكنوا من أن يبنوا حضارة فتيّة تنقذ العالم من ويلاته وحروبه ومشاكله)) (5). وهذا يعني أنه إذا أراد المسلمون إلى بناء نهضتهم الجديدة، ما عليهم إلا أن يسيروا جنباً إلى جنب مع العلم والعلماء متخذين من القرآن الكريم نهجاً أدبياً وأخلاقياً ومعرفياً للنهضة الإسلامية المرجوّة والمرتقَبة.

وبطبيعة الحال، لا أعتقد أننا بحاجة إلى ذكر العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة التي تدعو إلى طلب العلم وتحصيله ولوكان في أقصى بقاع الأرض، وإلى بذل الغالي والنفيس في سبيل الحصول عليه ولو بخوض الّلجج وسفك المهج. فالعلم – كما يقول الرسول الأعظم (ص) – دينٌ يُدان به. ومن هنا تبرز أهمية مسألة العلم والتفكير العلمي في بعث النهضة وتوجيهها ووضعها في مسارها الصحيح.

وإضافة إلى ذلك، فقد جعل الإسلام تعلُّم بعض العلوم واجباً عينياً والبعضَ الآخر واجباً كفائياً.

والسؤال هنا هو: لماذا كل هذا؟

وعلى هذا السؤال يجيبنا سماحة السيد الشيرازي بقوله: ((إن من أسباب ذلك رفع المستوى الفكري للمسلمين وجعلهم علماء في كافة المجالات حتى لا يكونوا عرضة للتمزق والتحطم إثر ضربات الأعداء وحتى يستطيعوا المقاومة أمام الأعداء، بل وجرّهم إلى صفوفهم أيضاً إذْ يكونون بأقلامهم مناراً للضالين وسراجاً للمسترشدين وضياءً للجاهلين، ذلك أن المسلم الجاهل لا يستطيع إقناع الآخرين بأفكاره عكس المسلم العالم العامل)) (6). وعلى ضوء ذلك يمكننا أن نفهم قوله سبحانه وتعالى: ((يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)) (7)، وقوله أيضاً: ((قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون)) (8)، بل وعلى ضوء ذلك يمكننا أن نزداد عمقاً معرفياً من خلال قول الرسول الأكرم (ص): ((إذا كان يوم القيامة وزن مداد العلماء بدماء الشهداء فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء)) (9)، وقوله (ص) أيضاً: ((طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة)) (10).

العلم والأخلاق

إن هناك علاقة وثيقة بين الالتزام بالقانون الإلهي ونشوء الحضارة وانبعاث النهضة في القرآن الكريم. فالقرآن الكريم يستعرض باستمرار مجموعة من الأسباب التي تؤدي إلى قيام النهضة واستيقاظ الأمم من رقادها، وبنفس الوقت يستعرض أيضاً العوامل التي تقود إلى زوال الحضارات واندثارها، ويؤكد في العديد من آياته الكريمة على أن أي مجتمع أو أقوام يستجيبون لدعوة الرسل والأنبياء (ع) ولطاعة الله والالتزام بالقانون الإلهي الأخلاقي المقترن بطلب العلم، كافة فروع العلم، والمتكامل مع طلب الحكمة ونبذ العنف والثبات على الصراط المستقيم واحترام إنسانية الإنسان، فإنهم في هذه الحالة ينجحون في بناء النهضة وصناعة الحضارة ويستمتعون بالعيش الرغيد اللائق، وتتنزّل عليهم بركات من السماء وتُخرج لهم الأرضُ الكثيرَ من بركاتها.

وهذا يعني أن العلم وحده لا يكفي في تشييد الحضارة ولا في بناء أي نهضة، فلا خير في علم ما لم يكن ذلك العلم مقترناً بالقِيم والأخلاق وبالمبادئ الإلهية التي تدعو إلى صقل النفوس وتنقية العقول، وذلك من أجل أن تسمو المجتمعات بأبنائها الذين يستلهمون الأخلاق الإلهية والمبادئ الرسالية من وراء العلوم التي يطلبونها بحقٍّ واستحقاقٍ لبناء نهضتهم الروحية والمادية والتي لا عزّ لهم بدونها بين الأمم والمجتمعات.

نعم، هناك الكثير من الدول في الغرب والشرق قائمة على التمدّن وعلى استخدام التكنولوجيا الحديثة المعقدة ولكن هل نستطيع القول إن تلك الدول حضارية؟!

بالتأكيد لا. فهناك فرق كبير بين المدنية والحضارة.

فالمدنية هي التقدم العلمي والتكنولوجي العام مع تهميش الجانب الأخلاقي الذي يمكن أن يحدثه هذا التقدم. بينما الحضارة هي المدنية المتقدمة علمياً مضافاً إليها عملية المواكبة الأخلاقية التي تسير جنباً إلى جنب مع كل تقدم علمي، ففي الحضارة يكون الإنسان بما يملك من إيمان وقيم ومبادئ هومحور القيمة، بينما في المدنية تكون القيمة المادية التي يملكها الإنسان هي المحور والأساس في ذلك المجتمع.

التنظيم طريق النهضة

أي حركة أو نهضة، أو حتى ثورة، لا تتحرك في إطار تنظيمي مدروس، سيكون مصيرها الفشل أو الفوضى أو العنف. لقد علّمتنا الحركات النهضوية والثورات عبر التاريخ أن الجماهير لا يمكن أن تنضبط جيداً أو أن تُوجّه الوجهة الصحيحة المطلوبة في نهضتها ما لم تكن منتظَمة في صفوف هيئةٍ ما أو حزب أو تنظيم يقوم على توعيتها والأخذ بيدها للوصول إلى ما تصبو إليه. فالتنظيم هو الإطار العام الحافظ لجماعةٍ ما –صغيرة كانت أم كبيرة– في المجتمع.

يرى المفكر أنيس نصولي (1902 – 1957) في كتابه (أسباب النهضة العربية في القرن التاسع عشر) أن أحد أهم أسباب تلك النهضة هو التنظيم القائم على تشكيل الجمعيات والهيئات والأندية المتنوعة والأحزاب (11). ولا يخرج عن هذا الرأي رأي الشيخ المصري محمد عبده والمصلح الإيراني المعروف جمال الدين الأفغاني الآسترابادي والمصلح السوري عبد الرحمن الكواكبي والمفكّر الجزائري المعروف مالك بن نبي (12).

ولكن الشيء اللافت للنظر الذي ينفرد به السيد الشيرازي عن سواه من كل أولئك المصلحين في مسألة التنظيم هو تأكيده على ضرورة تنظيم (غير المسلمين) أيضاً. وبالطبع، هذا شيء جديد تماماً في عالم النهضة والإصلاح، وقد برّر سماحته ضرورة تنظيم غير المسلمين في البلاد الأجنبية التي يقطنها مسلمون، بقوله إن هناك ضرورة لتنظيم أهالي تلك البلدان الذين ليسوا بمسلمين، ولكنهم يستعدّون للمساهمة في إقامة حكم الإسلام، حيث يجدون أنفسهم تحت الضغط والكبت والإرهاب، وحيث يجدون في الإسلام المعاني السامية والحريات الواسعة وقلّة الضرائب وغير ذلك (13).

وقد علّل السيد الشيرازي ذلك بقوله إن التاريخ قد أرانا كيف كان الكفار يستقبلون المسلمين ويحتضنوهم لأنهم كانوا يجدون الإسلام هو المخلّص الوحيد الذي ينقذهم من حكوماتهم الجائرة.

ورأى سماحته أيضاً ضرورة توحيد الحركات والتنظيمات من منطلق ((واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا)) (14)، ومن قوله: ((ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم)) (15)، هذا مع الأخذ بعين الاعتبار أن التنظيم الأكبر الذي عليه أن يستوعب كل التنظيمات الأخرى يجب أن يبتعد عن (الصنميّة)، فالتنظيم يجب أن يكون قبل كل شيء واقعياً، لا صنميّاً بحيث يخلق هوّة واسعة بين المبادئ والتطبيق. والتنظيم أيضاً ليس هوبحدّ ذاته الهدف، وليس هو المعيار في المعادلة الإلهية وفي العلاقات الاجتماعية، بل هو مجرد وسيلة ناجحة لإقامة الحق ونشر العدل وتوسيع رقعة الرسالة السماوية وإنقاذ المسلمين، وغير المسلمين، من الجهل والفقر والظلم، ومن ثم الارتقاء بالروح إلى عالم النور المنفتح على الحياة السويّة بكافة أبعادها ومستوياتها الراقية.

الاكتفاء الذاتي

سبق وأن ذكرنا أن العامل الأول في نهضة المسلمين هو الوعي والتوعية. والذي يتأمّل جيداً أهمية هذا العامل يجد أنه ينطوي على مفاهيم أخرى ترتبط به ارتباطاً وثيقاً للوصول إلى الغاية المنشودة. فكما أن ذرّات الأوكسجين ترتبط بذرّات الهيدروجين لإنتاج الماء، فكذلك يكون الحال بالنسبة لارتباط الوعي بمسألة التنظيم وبمسألة السلم والحرية، بل وبمسألة هامة جداً، ألا وهي مسألة الاكتفاء الذاتي، وذلك للوصول إلى نهضة إسلامية حقيقية تتماشى مع تغيّرات الحياة مع الحفاظ –بنفس الوقت– على الثوابت الشرعية.

فالوعي مرتبط بالسلم ونبذ العنف، والوعي مرتبط أيضاً بالحرية، وذلك لأن الحرية من دون وعي تتحوّل إلى فوضى بحيث يضيع المرء بين معرفة حقوقه وإدراك واجباته. ولا يختلف هذا الأمر كثيراً عن مسألة ارتباط الوعي العام بمسألة الاكتفاء الذاتي.

فالنهضة الإسلامية القائمة على فكرة الاكتفاء الذاتي هي مصداق لقول أمير المؤمنين (ع): ((احتج لمن شئت تكن أسيره، واستغن عمّن شئت تكن نظيره، وأحسن إلى من شئت تكن أميره)) (16). فما دام المسلمون محتاجين في لباسهم وفي غذائهم وفي دوائهم وفي سلاحهم إلى دول خارجية، فهم أسرى لتلك الدول التي لن تسمح لهم بالقيام بنهضتهم باعتبار أن الدول الإسلامية هي مجرد سوق استهلاكية لمنتجات تلك الدول المتقدمة صناعياً واقتصادياً.

أمثلة عن الاكتفاء الذاتي:

اليابان

من المعروف لكل مهتم بالتاريخ الحديث أن اليابان خاضت الحرب العالمية الثانية وخرجت منها عام 1945 خاسرة أمام الولايات المتحدة الأمريكية التي أمطرتها بقنبلتين ذرّيتين قضت الأولى على مدينة هيروشيما، بينما كانت الثانية من نصيب مدينة ناغازاكي. ونتيجة ذلك تحوّلت اليابان إلى كتلة من الدمار وإلى بؤرة للفقر والجوع، ولكن إمبراطور اليابان وقتها رأى أن السبيل الوحيد لانتشال بلده من تحت الركام وإعادة الروح إليه مجدَّداً لن يكون إلا بالاعتماد على الذات، ولذلك فقد طلب الإمبراطور من المسؤولين أن يأتوه بأبرز الوجوه العلمية في اليابان وأخبرهم أنه سيرسلهم إلى العديد من دول العالم المتقدمة للتحصيل العلمي بكافة فروعه وتخصّصاته ومن ثم ضرورة العودة سريعاً إلى وطنهم الأمّ لإعادة بنائه بالعلم وبالاكتفاء الذاتي، أي دون الاعتماد على أحد آخر، وقال لهم عبارته الشهيرة: ((اذهبوا الآن، فأنتم ملح اليابان)). وبالفعل، بعد سنوات قليلة عاد أولئك العلماء المخلصون إلى وطنهم وشرعوا في بنائه من جديد، واستطاعوا في فترة قصيرة الاعتماد على ذاتهم وإنقاذ بلادهم وشعبهم من تحت الرماد الذري القاتل والسير به إلى مصاف الدول الراقية في كافة المجالات.

مثال من التاريخ الإسلامي

أمّا المثال الثاني، فقد اخترناه من تاريخنا، من التاريخ الإسلامي، وتحديداً من سيرة سيدنا محمد رسول الله (ص). فقد ورد أن الرسول الكريم (ص) لما هاجر إلى المدينة المنورة رأى أن اليهود قد نشبت مخالبهم في أهل المدينة لأن اليهود كانوا محيطين بالمدينة. ورأى رسول الله (ص) أن هؤلاء هم المثقفون الذين سيطروا على أهل المدينة بثقافتهم وبأعمالهم وتجارتهم، وأنهم هم التجار الذين بيدهم رؤوس الأموال ومفاتيح الأسواق التجارية، وذلك يعني أن البضائع لم يكن يصدّرها ويستوردها غيرهم. ورأى (ص) أيضاً أنهم هم تجار السلاح، فالسلاح الذي لم يكن أكثر من سيف ورمح ودرع وسهم، إلا أن كل ذلك كان له أهميته في تلك الأيام. فعزم الرسول (ص) على تخليص أهل المدينة من سيطرة اليهود عليهم بطريقة ذكية جداً، فلمّا أسر جماعة من أهل بدر في موقعة بدر المشهورة جعل الفدية أن يعلّم كلُّ إنسان يعرف القراءة والكتابة من الكفار عشرة من المسلمين. فالتعليم فدية ذلك الإنسان الأسير المعلِّم لغيره من المسلمين. والمسلمون الذين تعلّموا من الكفار صاروا هم من يعلّمون اخوانهم المسلمين القراءة والكتابة، فلم يعد العلم محصوراً بين اليهود. وهكذا خلّصهم الرسول الكريم (ص) من المشكلة الأولى، أمّا المشكلة الثانية، فقد أمرهم (ص) لاحقاً بأن يجعلوا لأنفسهم بُسُطاً في الشوارع والأزقة، وراح المسلمون يفعلون ذلك ويشترون بعض الحاجيات ويجعلونها على البسط، وبهذا استغنوا عن قسم كبير عن التجارة المباشرة مع اليهود.

وأخيراً، طلب الرسول (ص) من المسلمين أن يذهبوا ويتعلموا صنع السلاح، فذهب بعضهم إلى اليمن من أجل هذا الأمر، وبالفعل فقد تعلموا صناعة السيوف والرماح وما شابه ذلك، فاستغنوا بذلك عن شراء السلاح من اليهود (17). وهكذا استطاع الرسول الحكيم (ص) أن يقوم بنوع من الاستقلالية ومن الاكتفاء الذاتي في مجتمعه الصغير، وبعد ذلك حقق المعجزات.

محطّة أخيرة

وهكذا نرى أن النهضة الإسلامية المرتقبة لا بدّ لها من عوامل ومقوّمات أساسية تكون بمثابة الأعمدة الراسخة لإقامة صرح النهضة التي تقوم بأبنائها من رقدتهم وتوقظهم من سباتهم. فبالوعي والعلم والعمل والتنظيم وبالاعتماد على الذات تنهض الأمم لتحقق ذاتها. ولا يمكن لذلك أن يفجّر طاقات الأمة الإسلامية الخلّاقة ما لم يكن كلُّ ذلك مرتبطاً ارتباطاً جوهرياً فعّالاً بمبادئ الكتاب الإلهي الخالد وبنهج رسوله (ص) وبسيرته العطرة المباركة وبسيرة أهل بيته الأبرار الأطهار (ع).

فما قيمة نهضة دون كتاب الله!!! وما قيمة حضارة دون تعاليم رسول الله (ص) ودون نهج أهل بيته (ع)!!! هذا هو السؤال.

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–Ⓒ2023
http://shrsc.com

............................................
المراجع المستخدمة في البحث حسب ورودها
1 – آية الله محمد الحسيني الشيرازي السبيل إلى إنهاض المسلمين مؤسسة الفكر الإسلامي – بيروت. ط7 – 1994 ص16
2 – المصدر السابق ص 16
3 – السيد محمد الحسيني الشيرازي الكتاب من لوازم الحياة مؤسسة الوعي الإسلامي – بيروت ط1. 1999 ص 11
4 – د. جورج حنا الإنسان العربي قديمه وجديده دار العلم للملايين بيروت 1964 ص 73
5 – السيد محمد الحسيني الشيرازي الصياغة الجديدة مؤسسة الفكر الإسلامي بيروت ط3. 1992 ص 221
6 – السيد محمد الحسيني الشيرازي السبيل إلى إنهاض المسلمين ص26
7 – سورة المجادلة 11
8 – سورة الزمر 9
9 – بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٢ - الصفحة ١٦
10 – العلامة المجلسي بحار الأنوار ج1 ص 177 ح 54
11 – أنيس زكريا نصولي أسباب النهضة العربية في القرن التاسع عشر وزارة الثقافة – دمشق 2006 ص 24
12 – يمكن للقارئ الرجوع إلى آراء أولئك المصلحين من خلال الوقوف على مؤلفاتهم التي ما تزال تطبع حتى اليوم، فهي تركّز عموماً على مسألة التنظيم وأهميته في عملية النهضة بالأمّة الإسلامية عموماً.
13 – السيد الشيرازي السبيل إلى إنهاض المسلمين ص48
14 – سورة آل عمران 103
15 – سورة الأنفال 46
16 – راجع كتاب غرر الحكم ودرر الكلم، فقد ورد هذا الحديث لأمير المؤمنين (ع) في ص 76 وفي غيرها. وللإمام علي (ع) أحاديث أخرى بهذا المعنى في كتاب نهج البلاغة لا تخفى معانيها الثمينة على القارئ اللبيب.
17 – السيد الشيرازي في سبيل إنهاض المسلمين ص 179

اضف تعليق