بكثير من الارتياح، استقبلت الاوساط السياسية والشعبية الانباء التي تتحدث عن إطلاق البنك المركزي العراقي، ما وصف بانه أكبر عملية اقراض مالي لتمويل القطاعات الصناعية والزراعية والإسكانية بمبلغ خمسة تريليونات دينار عراقي تقرض من خلال المصارف التخصصية لدعم القطاعات الصناعية والزراعية، في مسعى من الحكومة لاحتواء الازمة الاقتصادية المتفاقمة في البلاد ولـ "تنشيط الاقتصاد وتوفير فرص حقيقية من خلال تعظيم موارد البلد مع تحفيز القطاع الخاص وخفض معدلات البطالة".

وقد نستطيع ان نحيل ذلك الارتياح والترحيب الى الرسالة المعنوية الهامة التي تقدمها مثل هذه العمليات من خلال التأكيد على جدية الدولة العراقية في تفهم ومعالجة الصعوبات التي يعانيها الاقتصاد العراقي جراء تداعيات الحرب على المستوى الاقتصادي والاجتماعي. والشروع -ولو بعد طول انتظار- بالتعاطي السليم مع الآثار الاقتصادية المترتبة للصدمة المزدوجة الناجمة من انخفاض-او تخفيض- اسعار النفط وزيادة الانفاق الدفاعي بسبب العمليات العسكرية ضد العصابات الارهابية التي تنتهك امن وامان العراقيين وتستنزف مقدراتهم و آمالهم بالتنمية والرخاء.

ولكننا لا نستطيع ان نتجاهل الاسئلة الكثيرة التي قد تراود الجميع حول مدى امكانية الانفاق الرشيد لهذا القروض وغيرها من الموارد التي من الممكن ان يحصل عليها العراق من عائداته او من خلال التعاون مع المجتمع الدولي، او مدى الفائدة من مثل هذه القروض في ظل غياب الحكمة والتخطيط الستراتيجي السليم لإدارة اقتصاد البلد بما يحقق المنفعة القصوى المرجوة.

فعلى الرغم من ان التقشف لم يعد خيارا مرحليا لدى الحكومة بل يفترض ان يكون شعارا واسلوب وآليات عمل لمؤسسات الدولة الانتاجية والخدمية، ومع ان هذا الوضع العضال هو الدافع الرئيس وراء الدعوات المستمرة الى استنباط الوسائل المفضية الى زيادة معدلات الإنتاج وترشيد الإنفاق العام للحدود التي يقتصر فيه الأمر على تمويل الضرورات فقط، ولكن الكثير من هذا الكلام قد لا يجد له المواطن صدىً في العديد من المؤسسات، وخصوصا في منتهياتها، والتي لا تزال تتصرف بأريحية في الانفاق على موارد بعيدة عن خدمة المواطن ولكنها قريبة الى قلب المسؤول، خاصة معضلة الايفادات المستمرة بشكل مثير للأسئلة -والريبة- في مؤتمرات سياحية او برامج تدريبية عديمة الفائدة والجدوى وكأن المسألة لا تعنيهم على الإطلاق.‏

ان المطلوب من مؤسسات الدولة -ونجرؤ ان نقول قياداتها بشكل خاص- ادراك المسؤولية الملقاة على عاتقهم في تحويل الترشيد وضبط الانفاق الى نهج عام مدعوم بما يلزم من قرارات وسياسات ناظمة لهذا الترشيد، لما لذلك من اهمية في تخليق وعي عام بالمشاركة والتكافل بين المواطن والمسؤول لضرورة مثل هذا الادراك في تسليك العديد من القرارات الصعبة التي قد تفرضها الحمية الاقتصادية الاجبارية التي نعاني منها كمجتمع وكدولة، وتدفع المواطن الى التفاعل البناء مع ما يتلمسه من تقنين واضح في الشحيح المتاح من الخدمات -وحتى الوعود- والتي يتحملها الشعب صابرا محتسبا قانعا بانها الضريبة التي يقدمها دعما للجهد الوطني العام في هذه الظروف.

فمن نافل القول ان المهارة اللافتة للعديد من العناوين الرسمية في ابتكار نواحي متناسلة من نواحي الانفاق- ناهيك عن الاستغلال السياسي لهذا الهدر من قبل نفس العناوين - لها بالغ الاثر في فشل الحكومة في تحشيد الشعب حول خططها التقشفية وهو ما يتجلى في التراجع عن العديد من الخطوات الاصلاحية، حتى الترقيعية منها، التي تحاول الحكومة من خلالها تعظيم موارد الدولة واستدراج السبل الكفيلة للوفاء بالالتزامات المالية وتمويل الضروريات والحد المطلوب لإدامة الجهد الامني وتوفير الخدمات والمواد والسلع الضرورية لحاجات المواطن.

كما ان تسابق العديد من الرموز السياسية المتصدية للعمل الحكومي بالمطالبة بمحاصصة القروض بادعاء اطلاق مشاريع لم تنفع معها ميزانياتنا المليارية الغابرة، والتي تبدأ -روتينيا- بسفر المسؤول وحاشيته "للاطلاع الميداني" على المشاريع المماثلة المتناثرة في بلدان العالم، قد يشي بافتقار المسؤول للنظرة السليمة لمعطيات الواقع بإمكاناته ومشكلاته وقيوده وتعقيداته، وتفهم حواكمه وابعاده، ومتطلبات الحياة فيه، وحجم تحدياته ونوعيتها.

اننا نتطلع من المؤسسة الرسمية ان تشارك الشعب معاناته من خلال الانضباط والترشيد والمزيد من الشفافية والوضوح في التعامل مع الوضع الاقتصادي والمالي لبلادنا حتى نمنع المزايدات الخاطئة والتحليلات المغلوطة التي قد تترك آثارها السلبية على السوق المحلية وحركة الاستثمارات والاموال فيها وهي بيئة كلنا نعلم انها -كمثيلاتها في العراق- سهلة التهشم والاضطراب.

ان الاستمرار في هذه الممارسات الاقرب الى السفه الاقتصادي قد تكون من اكثر المعوقات التي تقف في وجه تحقيق الهدف الاعلى في اخراج العراق من عنق الزجاجة التي تزيدها هذه التفلتات احكاما على رقبة الوطن المستباح، ولن تنتج الا الى تعطيل عجلة التنمية -ان لم يكن شدها الى الوراء- حتى يتاح لتجار الحروب والأزمات جني المزيد من الأرباح ومضاعفة رصيدهم على حساب الوطن والمواطن.‏ وعندها ستكون مسألة وقت لا غير ليتحول مشروع القروض الموعود من كونه نهاية المطاف الى راس قاطرة يجر معه العديد من القروض التي لن تنتهي الا بارتهان العراق ومقدراته في مشاريع دوامية من الفشل والفساد.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق