تبقى هنالك تحديات تتمثل بعدم استدامة سياقات التحرك الناجح الذي تقوده حكومة السوداني واستثمارها الامثل للتطورات الاقليمية والدولية لان الوضع الداخلي غير محكم الاستقرار اضافة الى تعرض العراق الى تحديات التدخل بشأنه الداخلي من جيرانه بشكل مستمر وهي غير قادرة على اتخاذ شيء لضمان سيادة العراق، فأثناء استيزار...

شهدت الساحة الاقليمية والدولية للعراق تطورات وتفاعلات سياسية مختلفة بشكل متزامن ولعل اهمها على المستوى الاقليمي، تمثل في الوساطة الصينية بين الجمهورية الاسلامية في ايران والمملكة العربية السعودية لإحلال التقارب والتفاهم بين الطرفين ومالها من تداعيات.

ويعول العراق ان يكون وسيطا لتقارب ايراني سعودي تكون له مفاتيح وتفاعلات ايجابية ليس داخل العراق فيما يتعلق باستقراره فحسب، بل ينسحب على الملفات الاخرى واهمها حرب اليمن، والازمة السياسية في لبنان وسوريا، وصولا الى امكانية حصول تقارب امريكي ايراني معلن، تحقيقا لعدم استخدام العراق كورقة مواجهة وتوازن بين النفوذين الايراني والامريكي، بما يعزز مسارات الاستقرار وتمكين العراق من استعادة فاعليته ودوره عبر اعادة ضبط العلاقات والمصالح مع كل الاطراف وفق مقاربات التعاون والتكامل بدلا عن مقاربات التنافس والصراع.

في ظل حكومة محمد شياع السوداني وبعد اكثر من ستة اشهر من عمر هذه الحكومة، تبدو المتغيرات والمعطيات والانطباعات عن اداءها وروابطها ايجابية صوب امكانية تحقيق دور جيوسياسي قادر على استثمار هذه الظروف بما يخدم المصالح الوطنية للعراق من جهة، ومن جهة اخرى الاستفادة من المتغيرات والتطورات الاقليمية والدولية والتموضع البراغماتي ازاءها بما يجعل البلد مستقرا واستثمار ذلك لاستكمال بناء الدولة ودعم مكانتها الخارجية.

التعامل مع المتغيرات الدولية والإقليمية الحالية

تؤشر حيثيات حراك الحكومة بشكل لم تكن موضع ترحيب من قوى الاطار التنسيقي بشكل كامل، اذ ركز السوداني على العلاقات مع الدول العربية، فكانت سفرته الأولى خارج العراق الى الأردن والكويت، ثم قام بزيارة المملكة العربية السعودية في نهاية العام المنصرم للمشاركة في القمة الصينية العربية الأخيرة، بالإضافة الى ذلك قام السوداني بزيارة الامارات العربية المتحدة ومصر، اكد السوداني في زياراته الى الدول العربية على القيام بأعمال مشتركة مع الجوار العربي للعراق، وعلى تطبيق اتفاقيات في مجال الطاقة والتجارة والتي تم التفاوض بشأنها من قبل الحكومة السابقة.

ورغم ان السوداني سافر الى ايران أيضا لكن لا يمكن الجزم بأن ايران ستتفهم وتتسامح مع السوداني اذ ذهب بعيدا عن مصالحها لأنها تعلم بأن بناء روابط اقتصادية واسعة مع الدول العربية سيقلل من اعتماد العراق على وارداتها من الغاز الإيراني وغيرها من المنتجات الاخرى، الامر الذي سيضعف بدوره من القوى والفصائل التي تمتلك روابط سياسية وعقائدية معها.

ومن جانب آخر، فقد أعطت بطولة كأس الخليج التي أقيمت في البصرة للسوداني فرصة أخرى للتأكيد على التضامن العراقي العربي، لكن استخدام مصطلح الخليج العربي خلال افتتاحية البطولة اثار الاعتراضات الإيرانية، والتي تشير اليه بالخليج الفارسي.

ايران راقبت وتراقب تحركات وتصرفات السوداني في لقاءاته المتكررة مع السفيرة الامريكية في بغداد، وتصريحاته الايجابية حول مستوى الشراكة مع واشنطن ومع تجنب الحديث عن انسحاب القوات الامريكية من العراق، هذه المقابلات والتصريحات اثارت الشكوك والانتقادات بين الجماعات المسلحة الشيعية الموالية لإيران، والتي استمرت بالدعوة الى المغادرة الشاملة والفورية لكل القوات الامريكية من العراق، لكن السيد السوداني أكد في لقاء له مع صحيفة وول ستريت جورنال: بأن العراق لا يزال بحاجة الى دعم لوجستي استشاري وفني ساند وغير قتالي من القوات الأجنبية بما في ذلك القوات الامريكية في القتال بالضد من داعش.

وعليه فإن هذه التصريحات جاءت على الخلاف من الموقف المعلن للأجنحة المتشددة ضمن الإطار التنسيقي والتي اثارت التساؤل فيما اذا كان السوداني يتصرف وفق سياق مضاد من رغبات تلك الأجنحة داخل الاطار التنسيقي او بتخويل وتنسيق مسبق معهم.

رغم هذه العوائق والممانعة الايرانية الناعمة وتحفظات قوى الاطار التنسيقي، اثبت السوداني انه سياسي ذكي يعرف كيفية استغلال الانقسامات والخصومات وتعارض المصالح الموجودة داخل قوى الإطار التنسيقي، والضغوطات الممارسة دوليا ضد ايران، ويبدو انه نجح مؤقتا بإقناع واشنطن وطهران والجناح المعتدل وجزء من الجناح المتشدد على اقل تقدير في الاطار التنسيقي بأن امن ومصالح هذه القوى يتحقق عن طريق الحفاظ على التوازن في علاقة العراق مع الولايات المتحدة وإيران، وعن طريق تقديم حكومته كقناة للحوار مع الولايات المتحدة، وبالسير على خطى المبادرات المقدمة من قبل سلفه في طرح العراق كوسيط بين القوى المتنافسة في المنطقة.

ربما سيتسنى للسوداني اقناع إيران ان بغداد هي أفضل قناة اتصال ووساطة للمفاوضات والمحادثات مع المملكة العربية السعودية، وربما أيضا حتى مع الولايات المتحدة بشكل غير مباشر، ومع مرور ايران بوضع خطير في الداخل والخارج، بالإضافة الى التدهور في الاقتصاد والعملة، ومن المحتمل جدا ان القادة في ايران سيقررون ان أهدافهم ستتحقق بشكل أفضل مع شخصية كالسوداني تتمتع بعلاقات جيدة مع واشنطن، يمكن ان تخفف الضغط عليها، والسوداني بدوره يؤمن بأن سياسة التوازن ستكون مكسب لجميع الاطراف.

حقيقة من المبكر جدا الحكم على مخرجات الحراك الاقليمي والدولي الذي تقوم به حكومة السوداني، لكنها أفضل ما يمكن توقعه بالنسبة لرئيس وزراء تم اختياره من قبل الإطار التنسيقي المتمركزة مصالحها ازاء طهران فحسب، وحتى اللحظة استطاع ان يحيد ايران مؤقتاً على الاقل وتقارب مع خصومها وقارب بينهما، من جانب اخر دفع السوداني الى تخفيف الضغط امريكيا على ايران وعلى حكومته واستطاع ان يدير ازمة ارتفاع سعر صرف الدولار التي افتعلتها الولايات المتحدة.

وتدعم واشنطن الان نهج التوازن البراغماتي الذي ينتهجه السوداني معتقدة ان الاخير يسعى الى المزيد من التعاون المشترك معها عبر اتفاقية الإطار الاستراتيجي المبرمة عام ٢٠٠٨ باعتبارها اطار واسع للولايات المتحدة لتوسيع جوانب الشراكة مع العراق وتنويعها الى ابعاد لا تقتصر على المجالات الأمنية فحسب.

المسارات المستقبلية للوضع العراقي

إن التوقعات المستقبلية لحدوث تطورات في المحيط الدولي والاقليمي لها دلالات اشرتها حصول بدايات لتعديل واضح في قواعد النظام الدولي من خلال وجود تراجع وانكفاء تدريجي للدور الامريكي في الاهتمام بقضايا الشرق الاوسط وتصاعد الدور الصيني والروسي الذي اعطى مساحة لحلفاء واشنطن التحرر نسبياً من الضغوط والقيود الامريكية في التحرك والتقارب مع ايران والعراق وسوريا، هذه المعطيات قدمت خدمة كبيرة لحكومة السوداني، واستطاع الاخير ان يوظف ويطوع هذه التطورات بشكل هادئ وناجح.

رغم تراجع الاهتمام الامريكي في مسائل وقضايا الشرق الاوسط، الا ان للعراق حالة خاصة، مؤخراً كان هناك انخراط امريكي كبير في العراق في مجالات البيئة والتعليم ودعم المشاريع الصغيرة والتنسيق مع حكومة السوداني عبر حراك السفيرة الأمريكية حول ذلك بشكل متزايد، اذ تصر واشنطن على مبدأ ان توسيع مثل هكذا علاقات مع بغداد سيعود بالفائدة على توازن القوى في المنطقة والتحرر النسبي الذي تستغله الرياض ودول الخليج وانقرة في تقاربها مع ايران والصين وروسيا.

ويؤشر ذلك ان الولايات المتحدة اخذت السوداني على محمل الجد بما يتعلق بجهوده في محاربة الفساد والاستفادة من التقارب مع الدول العربية السنية التي توضحت بعد مسابقة كأس الخليج التي أقيمت في مدينة البصرة، والتي شهدت حصولها على دعم شعبي غير مسبوق لدور العراق بين جيرانه العرب، وتدعم واشنطن هذا النوع من الدبلوماسية التي يتحرك بها السوداني حاليا، كما انها تأمل ان تؤدي حكومات اشقاء العراق دور موازي لإيران رغم التقارب معها بشكل مشروط من خلال تطبيق المشاريع الخاصة بالطاقة والصناعة والتجارة التي بدأها رئيس الوزراء العراقي السابق مصطفى الكاظمي، ليشمل هذا الموضوع النيابة عن واشنطن ليس في العراق فحسب بل في سوريا واليمن ولبنان.

مع ذلك تبقى هنالك تحديات تتمثل بعدم استدامة سياقات التحرك الناجح الذي تقوده حكومة السوداني واستثمارها الامثل للتطورات الاقليمية والدولية لان الوضع الداخلي غير محكم الاستقرار اضافة الى تعرض العراق الى تحديات التدخل بشأنه الداخلي من جيرانه بشكل مستمر وهي غير قادرة على اتخاذ شيء لضمان سيادة العراق، فأثناء استيزار السوداني استمرت عمليات انتهاك سيادة العراق من ايران وتركيا وتجدد قصفهما لأراضي الدولة في اقليم كردستان دون اي اجراء او رد سياسي او عسكري ولا خطة او مسار واضح لتفادي استمرار تجدد الانتهاكات والتصريحات المضادة لسيادة العراق، سوى اصدار التغريدات او البيانات المنددة، فضلا عن معضلة وجود قوات وقواعد امريكية فاعلة في العراق وتدخلات امريكية من السفارة الامريكية بشكل سافر في الشأن العراقي علانية وسرا.

السكوت عن هذه التحديات قد يشكل ازمة داخلية ومواجهتها تقوض جهود الدبلوماسية واستثماره للتطورات الجيوسياسية في المنطقة، مع ذلك نستطيع القول ان السوداني سيستمر بهذا النهج رغم هذه التحديات وسيغض الطرف عن هذه التدخلات، ولن يلجأ للتصعيد لا داخليا ولا خارجيا بل سيميل للاحتواء وصولا الى توسيع قاعدته الشعبية ودعم الفاعلين الاجتماعيين دينيا وقبليا والتي سيراهن عليها في استمرار أداءه الايجابي وقدرته على فرض استقلاليته على الجهات التي اوصلته الى رئاسة الوزراء واتباعه نهجا متوازناً بين الأطراف السياسية ذات المصالح المتقاطعة والارادات المختلفة.

هناك رهان لمحافظة السوداني على النهج الوسطي الذي تتبعه الحكومة العراقية حاليا في مجال السياسة الخارجية، وايضا شخصيته الهادئة فهو رجل حوار وليس صراع او صدام، إضافة الى تزايد الاسناد الشعبي لحكومته من خارج جمهور الاطار التنسيقي، وتطورات الساحة السياسية الانتخابية القادمة المتوقعة في مجالس المحافظات، ستعطي انطباعات باستمرار حكومة السوداني تقديم العراق كوسيط إقليمي وطرف ساعي الى تقريب وجهات النظر وحلحلة الخلافات بين إيران من جهة والولايات المتحدة والدول العربية من جهة أخرى، وابعاد العراق عن محاور التحالفات الإقليمية وضمان عدم انحيازه لأي طرف على حساب الطرف الاخـر.

وهذه هي السمة المهمة والأبرز للسياسة الخارجية العراقية في عهد السوداني حالياً والمتوقع استمرارها مستقبلاً في المدى المنظور، حتى مع حصول متغيرات طارئة في البيئة الاقليمية والدولية، باستثناء المعطيات الداخلية المتعلقة بالاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي التي سيكون لها دورا بارزا في تقويض جهوده واداءه في هذا المجال.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية / 2001 – 2023 Ⓒ
http://mcsr.net

اضف تعليق