آراء وافكار - مقالات الكتاب

الشخصية العربية والحنين نحو الدكتاتورية

الحنين اللاسوي نحو صدام نموذجا

وبالعودة الى تحليل الانغماس العاطفي أو النوستالجيا نحو دكتاتور صدام فإننا نجد أولياته وعوامل التأثير فيه تعود الى طبيعة المزاجية الكلامية في الشخصية العربية واستحواذ النفعية الآنية على هذه الشخصية التقليدية، فالخطاب المدبج بالعبارات الثورية والكلمات الناقمة على الصهيونية والسياسة الأميركية الذي كانت تروج له ماكنة الإعلام في...

الحنين شعور إنساني ينبعث عن تجربة شخصية او تجربة اجتماعية وأحيانا تاريخية، وكلما يفتقد الزمان الشخصي أو الاجتماعي مقومات التماسك او البقاء في تجربة الفرد أو الجماعة ينبعث ذلك الشعور من الشوق نحو الماضي من هذا الزمان الذي انقضت فيه تلك التجارب، ويبدو أن الحنين الى زمان ماض حالة تلازم الذات الإنسانية الفردية والجماعية.

ونجد في تاريخ وثقافات الجماعات لا سيما التقليدية ذلك الحنين المشبوب بالعاطفة الإنسانية نحو بدء تاريخ هذه الجماعات واللحظة التأسيسية الأولى في الهيكلية الاجتماعية للشعوب، ويظل هذا الماضي دوما منظورا إليه في ذاكرة وثقافة هذه الشعوب التقليدية بأنه ماض سعيد أو عصر ذهبي وتستقوي تلك الذاكرة او تستعيد نشاطها لدى الجماعات المصدومة بإزاء التحولات التاريخية لا سيما التحولات الكبرى والمصيرية التي تجتاح العالم من حولها، وهنا تكمن وظيفتها كآلية نفسية – اجتماعية في استيعاب الصدمة غير المتوقعة بالنسبة للذات الاجتماعية أو الجماعة غير المهيأة للدخول في صلب هذه التحولات والعجز الاجتماعي الذي يدشن لحظة لقائها بحركة التطورات التاريخية.

ورغم احتواء الحنين الجماعوي أو الاجتماعي على قيمة شعورية عليا نحو الهوية والأصول القومية إلا إنه يكشف عن ضعف اجتماعي أو خواء حضاري، وكذلك توكيد على زوال تاريخي لمجد غابر لم تستطع تلك الجماعة المعنية من الحفاظ عليه أو تطويره تاريخيا، وكلما وهن الحاضر وازدادت انتكاساته الاجتماعية والسياسية لجأت تلك الجماعة الى آلية التعويض عن الفشل بالحاضر الى الفخر بالماضي، واستمداد آليات الدفاع النفسية عن الذات الاجتماعية والهوية الخائرة القوى وغير القابلة للبقاء التاريخي والإبداع الحضاري.

وهنا يكتسب الحنين الى الماضي والشوق الى الأصول الماضوية بعدا لاسويا أو بعدا مرضيا – نفسيا على الصعيد الاجتماعي للجماعة التقليدية، وهنا تصاب الهوية الجماعوية بالخواء الوجودي وتدخل في متاهات المعنى الخاص بها والتعريف بها وتغدو مادة كلامية بلا موضوع فكري أو علمي، وهو ما انتهت إليه أفكار القومية العربية التي استندت في بناءها الفكري والأيديولوجي الى قواميس ومصطلحات ومفاهيم حزب البعث الذي أنتج مفاهيم وقيم وسلوكيات الدكتاتورية في نظام الحكم في العراق الذي اختزله وامتثله وبشكل حاد شخص الدكتاتور صدام ونظامه البوليسي الغاشم.

ورغم فداحة الخسائر التي مني بها هذا النظام في كل حروبه العبثية مع الأعداء الذين تم تصنيفهم كأعداء تقليدين في ايديولوجيا البعث، إلا إنه استطاع ان يكرس وعيا عربيا–شعبيا زائفا في صناعة النصر–الوهم يغذي به تصورات الذهنية العربية المنكفأة على ذاتها وغير القابلة للاعتراف بفداحة أخطاء الزعيم–الرمز، بل تكرس الحنين اللاسوي-المرضي الى الزعيم–الدكتاتور.

الحنين اللاسوي نحو الدكتاتور:

تشكل استعدادات الاستجابة للوهم في الوعي الزائف ابرز سمات الذهنية العربية، وذلك يعود الى طبيعتها المتكلسة في المزاجية الكلامية، التي تفصح عن معادلة الكلام وموازنته للفعل في أنثروبولوجيا الثقافة العربية التي تتحدد وفقها الشخصية العربية بمعايير الاستعداد والقدرة على الكلام وانجاز النجاح من خلاله وقابلية تلك الذهنية على الاستجابة الى عناصر الوهم في هذا الكلام العربي.

وأما ابرز سمات تلك المزاجية الكلامية–العربية هي اختزانها ثقافة الصحراء في أوهام العرق والخشية من دخول التاريخ والاقتيات على أوهام الذاكرة في تقديس السلف وتمجيد الأجداد وترميز الآباء هو مايدور دائما حوله الكلام العربي، وهي ثقافات في أصولها من بقايا الوثنيات القديمة في جزيرة العرب التي تنتمي الى عبادة الأسلاف، ويشكل هذا الحنين في الذات العربية نحو الماضي ورموزه وشخوصه كأحد ابرز بقايا أو موروثات الثقافة العربية–الجاهلية التي لازالت مترسبة بعمق في قاع النفس العربية وطرق تفكيرها وأداءها الاجتماعي والسياسي، وهو ما يصنع مشاعر الحنين الى الآباء الطغاة والحاكم الدكتاتور في تاريخنا السياسي وتراثنا الاجتماعي.

وهنا يستمد هذا الحنين اللاسوي مفهومه وتعريفه من مصطلح " نوستالجيا " في علم النفس الذي ينص على تعريفه بـ "الحنين الى زمن ماض ذهبي" وتكمن خطورته وفق علم النفس في المبالغة في استخدامه كآلية دفاعية–نفسية تعيق النمو وتمهد الى الإنسحابية (1) بإزاء مواجهة التحديات والخشية من دخول التاريخ وتكريس الاقتيات على أوهام الذاكرة الماضوية في تبجيل الطغاة والحاكم الدكتاتور، وهو ما تشتمل عليه عقيدة السلف في الفكر الديني المتطرف وتوأمه الفكر القومي الشوفيني، وهو يفصح عن العجز الاجتماعي والقصور السياسي في الشخصية العربية في إدراك تاريخها القديم والحديث على السواء، وقد تحول الى سلوك نفسي وفكري يمنع الذاكرة العربية عن ممارسة اساليب النقد الذاتي وآليات التفكير الحر غير المرتهن بأيديولوجيا العرقية أو تقديس الآباء على المستوى العربي العام، وغير المرتهن بأيديولوجيا البعث على المستوى الخاص، وهو ما يفسر غياب النقد العربي الرسمي والشعبي للممارسات اللاانسانية بل واللااخلاقية وعلى كافة المستويات السياسية والاجتماعية بل وحتى الشخصية لحقبة البعث وشخصية الدكتاتور صدام.

وباستقراء ثقافة الحنين اللاسوي للطغاة في تراثنا العربي لانجد المفاجأة كبرى في انبعاث ذلك الحنين العربي مجددا الى شخص الدكتاتور صدام وغض النظر عن كل موبقاته وآثامه، فقد ترضّى هذا التراث على القاتل والمقتول وشارب الخمر وهاتك حرمة البيت الحرام ومغتصب المال وقاتل النفس المحترمة والمعتدي على حدود الله تعالى وحقوق الناس من الطغاة والحكام لانهم من السلف في هذه الأمة أو ممن كانت لهم صحبة في زعم هذا التراث.

ويعكس ذلك الحنين اللاسوي أو النوستالجيا لعتاة الطغاة ودكتاتور العراق مستويات من المشاعر غير السوية والفاقدة أو العاجزة عن التواصل الإنساني مع المجتمعات الأخرى المعرضة للاضطهاد والتي قضت تاريخا من الألم والعذاب على أيدي طغام البعث وطغاة العصر في حقبة الدكتاتور.

لقد كانت مشاهد الموت المصورة من خلال وسائل الإعلام بعد سقوط نظام الدكتاتور ومشاهد الهياكل البشرية وهي تشكل أكواما من المقابر الجماعية وشهادات ضحايا نظام البعث وطبيعة المزاج الإجرامي لشخصية الدكتاتور، تثير تعاطفا إنسانيا ودوليا عاما وعلى كافة المستويات الرسمية والشعبية مع هؤلاء الضحايا وذويهم ومع الشعب العراقي لاسيما في الجنوب والشمال، غير أنها لم تكن ذا بال أو أهمية تستشعر أدنى إحساس إنساني أو نبل إنساني في الضمير العربي الرسمي والشعبي، بل كانت هتافات التمجيد لذكرى الطاغية وأيام الدكتاتور تعم الموقف العربي لاسيما الشعبي ويتجنبها الموقف الرسمي مراعاة للضغط الدولي وظروف العمل الدبلوماسي والسياسي.

وبالعودة الى تحليل الانغماس العاطفي أو النوستالجيا نحو دكتاتور صدام فإننا نجد أولياته وعوامل التأثير فيه تعود الى طبيعة المزاجية الكلامية في الشخصية العربية واستحواذ النفعية الآنية على هذه الشخصية التقليدية، فالخطاب المدبج بالعبارات الثورية والكلمات الناقمة على الصهيونية والسياسة الأميركية الذي كانت تروج له ماكنة الإعلام في العراق في ظل نظام الدكتاتور كان يستهوي الذائقة الأمية العربية وتستشعر من خلال هذا الخطاب بالنصر–الوهم الذي تتشكل ومن خلاله أيضا صورة الدكتاتور صدام زعيم النصر - الوهم والرمز – الخائر في المواجهة على مستوى الواقع بإزاء التحديات التي يواجهها العرب في تاريخهم المعاصر.

لقد لعب هذا التوجيه الإعلامي المتقن في أساليب أجهزة نظام الدكتاتور في صناعة رأي عام عربي يستسيغ السياسات الدكتاتورية وفضائح الأجهزة القمعية المكلفة بحماية دكتاتور العراق تحت يافطات وتبريرات الوهم المزمن في الذهنية العربية، وهو وهم المؤامرة على الأمة العربية ورموزها العليا والقيادية، وتكفل الموجهات الثقافية للمتلقي العربي وموروثات استجابته للمؤثرات الكلامية انغماسا عاطفيا في مضامين هذا الخطاب وتصديقا بلا دليل أو برهان على فحوى الخطاب الموجه باتجاه مكامن الضعف في الشخصية العربية لا سيما الشخصية الشعبية، والتي أتقن الإعلام البعثي التعامل معها وتوظيفها باتجاهات صناعة رأي عام عربي يدين بالتأييد لدكتاتوره ورمز أيديولوجيته التي تؤسس بطبيعتها وأفكارها لنماذج الدكتاتورية العربية وتكريس الاستبدادية الموروثة وبإعجاب في الثقافة السياسية العربية وهي المسؤولة الى حد كبير في صناعة الحنين – النوستالجيا الى الطغاة والحاكم الدكتاتور.

ولابد أن نؤشر أيضا تلك الروح النفعية في الشخصية العربية التي كرستها سياسات العطاء في التراث العربي والتي كانت واحدة من أخطر ممارسات الطغاة من الولاة والملوك في إدارة شؤون البلاد والعباد وشراء الذمم فيها من دين أو موقف أو حتى راي، وقد كانت المعونات المالية والعينية الباذخة التي يقدمها نظام الدكتاتور صدام كفيلة بشراء الذمم العربية الرسمية والشعبية ومن ثم ترويض الضمير العربي النخبوي والعام باتجاه الحنين – النوستالجيا الى الحقبة الدكتاتورية في العراق ورمزها الأكثر سوء في تاريخ الأنظمة الدكتاتورية لاسيما الدكتاتورية العربية.

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–Ⓒ2023
http://shrsc.com

................................
1- النوستالجيا".. لماذا يلجأ الإنسان للعيش في الماضي، د. سماح عليان، موقع مدومات - الجزيرة الألكتروني-

اضف تعليق