ويمكن فهم العلاقة المترابطة بين غياب الحوار، وظهور الاستبداد؛ إذ إن عدم وجود الحوار يقود نحو الاستبداد، من خلال آلية وجود الآراء والأفكار الإنسانية المتنوعة؛ فثقافة الاستبداد تفترض وجود رأي واحد مطلق ينطبق مع أهدافها الأيديولوجية، أو يكرس مصالحها الفئوية الخاصة، وكذلك فان عدم التمسك...

الحركة الاستلابية التي تعيشها الأمة هي حركة ناتجة بشكل أساسي عن اندفاع سريع تختلقه مختلف التيارات، باتجاه المحور المركزي لنواة الأمة، وبالتالي تحطيم بنيتها الأساسية؛ إذ يظهر في البين أن هناك اتفاقاً لاشعورياً من أجل التحطيم والهدم لإثبات الذات والشعور المطلق بانتصار الأفكار ومحو الآخر، حتى لو كان ذلك يتم عبر الصدام.

 لذلك تسير الحركة بوتيرة متصاعدة لمزيد من التناحر والانشقاق، وبالتالي الانكفاء نحو الانعزال. وبقراءة إحصائية للأرقام التي تطرحها الأزمة بشكل دائم في مختلف المناطق، تظهر النتائج السلبية بشكل واضح على السطح؛ إذ إن الكثير من المشاكل الكبيرة التي نعاني منها هي نتاج عملية الصدام التي نعيشها يوميا.

ثقافة التسلط والاستبداد

تحتضن حالة الاستبداد السياسي الذي تعيشه الأمم والمجتمعات والجماعات استبدادا ثقافيا واجتماعيا اختمر في نفوس البشر، فتحول الى حالة تطبع أساسي في السلوك، وتعود على التمسك بالأحادية، ورفض الاستماع للرأي الآخر، وقطع الطريق أمام الحوار والتفاهم؛ ففي حالات ترسخ روح الاستبداد والتسلط يصبح الحوار منعدما، وإذا كان فعلى الأغلب يكون عقيما؛ ذلك أن الوضع ليس إلا سيطرة شمولية للرأي الواحد، متمثلاً بالسيطرة المطلقة للأحادية المنفردة.

ويرى موريس ديفرجيه في كتابه (في الدكتاتورية) أنها وليدة لأزمات يتعرض لها البنيان الاجتماعي، ونموذج يعكس الوضع الاجتماعي؛ لأن الجذور والأصول العميقة هي التي أنجبته.

لقد أوجدت ثقافة التسلط شخصيات تفتقر إلى التوازن النفسي؛ فهي قد تستعلي استعلاءً كبيراً على الآخرين، إلا إذا كانوا من ذوي النفوذ والقوة، وهنا نجد خضوعاً وممارسة لأساليب الدونية(1).

ويمثل الاستبداد النقيض العملي للحوار، فمع وجوده يمتنع الحوار، لأنه يمثل اعترافا بالآخر، وبالتالي إذعاناً للتعددية والتنوع، وهذا أمر ترفضه جوهر الدكتاتورية، وفي نفس الوقت فإن قطع الطريق أمام الحوار يقود تدريجيا لتسلط الرأي المنفرد، واقصاء الرأي الآخر، وبالتالي وضع المجتمع في إطارين؛ اما التصادم بين الأفكار والاتجاهات المتعارضة والوصول للصدام المادي، أو اضمحلال الكل في فكر واحد واتجاه تسلطي منفرد؛ مما يعني انقراض الإبداع، وموت التنوع، واقصاء الاجتهاد، والتوقف التام عن الحركة الحيوية المستمرة.

ويمكن فهم العلاقة المترابطة بين غياب الحوار، وظهور الاستبداد؛ إذ إن عدم وجود الحوار يقود نحو الاستبداد، من خلال آلية وجود الآراء والأفكار الإنسانية المتنوعة؛ فثقافة الاستبداد تفترض وجود رأي واحد مطلق ينطبق مع أهدافها الأيديولوجية، أو يكرس مصالحها الفئوية الخاصة، وكذلك فان عدم التمسك بالحوار ينبع بشكل اساسي من خوف البعض من انكشاف خطل آرائه أو تعرض مصالحه للضرر؛ وفي كلتا الحالتين يقود التقديس المطلق للرأي الى موت التواصل والحوار وحتمية الصدام.

وهنا يمكن أن نرى أن البشر اعتادوا -وما زالوا- عند اندلاع المشاكل، اتهام الآخر وتنزيه الذات وهذا يحمل مجموعة من الأخطاء القاتلة؛ منها دفع آلية الكراهية إلى مداها الأقصى، وإلغاء الآخر، وفرملة جدلية الحوار، وباعتماد آلية لوم الآخر نكون بشكل آخر قد أحيينا آلية تنزيه الذات وتقديسها بعصمتها عن الخطأ؛ فالعلاقة مرتبطة جوهريا وبشكل غير مباشر بين إدانة الآخر وتقديس الذات(2).

ولكن ما تحققه ثقافة الاستبداد هو تحطيم الوجود الفكري للإنسان، عبر قطع طرق التواصل؛ لذلك يصبح الفرد في هذه الاجواء مجرد هامش جامد على أطراف الجغرافيا، لا يفهم ولا يرى ما يحدث على حقيقته؛ فيفقد القدرة على التقييم السليم والتعرف الصحيح؛ ذلك أن أحادية الفكر والانغلاق المتسلط يمارسان عادة بصورة لاشعورية، دون محاولة التعرف العلمي الهادئ على ما يريد أن يقوله الآخر، وللأسف فإن ظاهرة الخطابات المنغلقة ظاهرة عالية التردد في تفاعل التيارات المختلفة في واقعنا الثقافي، وفي تفاعلات النخبة قبل العامة، وهي انعكاس بمعنى أدق وأوضح للملامح الرئيسية لثقافة التسلط- الاستبداد(3).

وتفرز ثقافة الاستبداد نمطا يطابق طبيعتها، وهو تحقيق مصالحها الفئوية الخاصة، ولو كان ذلك على حساب المصالح العامة، وهي بذلك تحدث انشقاقاً كبيراً في المجتمع يكرس حالة الفساد والصدام، وتحول ساحة المجتمع الى ساحة حرب بين مختلف الأفكار والاتجاهات، دون وجود لتعايش وتفاهم يضمن حالة التكافل والتعاون، وهي عقلية يسميها البعض بعقلية (الجُزُر المنعزلة) حيث لا تهتم كثيراً بخلق عمل جماعي ناجح، ولا تعبأ أساساً بالصالح العام، بل كل الاهتمامات موجهة في اتجاه صالحها الفردي(4).

* مقتطف من مقال نشر في مجلة النبأ-العدد 58-حزيران 2001/ربيع الأول 1422
تحت عنوان: آفاق الإصلاح والتجديد الحوار طريقاً

..........................................

 (1) د. حسن محمد وجيه، مقدمة في علم التفاوض الاجتماعي والسياسي، ص167، عالم المعرفة 190.
(2) د. خالص جلبي، سيكولوجية العنف، ص202، دار الفكر.
 (3) د. حسن محمد وجيه، مقدمة في علم التفاوض الاجتماعي والسياسي، ص180، عالم المعرفة 190.
 (4) د. حسن محمد وجيه، مقدمة في علم التفاوض الاجتماعي والسياسي، ص267، عالم المعرفة 190.

اضف تعليق