q
الامام الحسين، عليه السلام، وهو أعظم انسان ضحى بنفسه وأهله في سبيل الله، يعملنا فلسفة الحب، كما يعلمنا فلسفة الكراهية، لنحصل بسهولة على جواب سؤالين محوريين؛ عن كيفية الحب؟ ولماذا؟ فقد وردت أحاديث عن أهل البيت، عليهم السلام، جواباً لمن يصرّح بأنه من شيعتهم ومحبيهم...

"أحبّ الله من أحبّ حسينا".
رسول الله، صلى الله عليه وآله

دموع الحزن ممزوجة بالغبطة والفرح بالمولود الجديد وهو بين يدي جدّه المصطفى و رسول الرحمة، إنه الحسين بن علي بن أبي طالب، الذي أزهرت بمولده السماوات، وابتهجت له الملائكة، وفي طليعتهم؛ الملك الأمين؛ جبرائيل المتقدم بجمع من الملائكة الهابطين الى الأرض لتقديم أزكى وأطيب آيات التهاني والتبريكات لرسول الله بهذه المناسبة العطرة التي نعيش هذه الأيام من شهر شعبان المعظم ذكراها السعيدة.

ولد الإمام الحسين، عليه السلام، وكل معاني ومفاهيم الحُبّ تحيط به في السموات والأرض، رغم أن تفاصيل ما سيجري عليه من الفجائع وصلت الى أسماع جدّه المصطفى، بل وحتى الى أمه الزهراء، و ياله من موقف صعب لمشاعر انسان يُبشّر بمولود وبعد لحظات يأتيه من يخبره بأنه مقتول مذبوح في قادم الأيام!

الحب بدافع المعرفة والايمان

في ذكرى مولد سيد الشهداء؛ الامام الحسين، عليه السلام، يقف جدّه المصطفى محوراً لشخصيته الأخلاقية والاجتماعية والسياسية ايضاً، فقد أعطانا أروع صور الحب لطفل صغير، بدءاً من مرحلة التغذية، ومروراً بالتنشئة، ثم التربية خلال فترة وجوده، صلى الله عليه وآله وسلم الى جانب الحسنان قبل أن يودعهما وهما بين السابعة والثامنة من العمر.

تحدثت الروايات لنا أن رسول الله كان يغذي الحسين في أيامه الأولى بلسانه المبارك، فلم يبدأ تغذيته من لبن أمه الزهراء، كما فعل الشيء نفسه مع أبيه؛ علي بن أبي طالب منذ الأيام الأولى من ولادته في الكعبة المشرفة، والى فترات طويلة، عندما كان يمضغ الطعام بفمه ويلقمه لأمير المؤمنين، عليه السلام.

أمام أنظار جمهور المسلمين كان رسول الله يؤكد حبّه للحسين ولأخيه الحسن، عليهما السلام، في غير موقف، أثناء الصلاة، وهو يخطب على  المنبر، وهو في الطريق، وهو قريبٌ من بيت ابنته فاطمة، ويسمع بكاء الحسين، فيقول: "أما تعلمي إن بكائه يؤذيني"؟ ويصرح أكثر من مرة: "الحسن والحسين ريحنتاي من الدنيا"، و"من أحبني فليحب هذين"، و"حسين منّي وأنا من حسين"، فما السبب وراء هذا الإعلان المتكرر والتأكيد البالغ، لاسيما ما يتعلق بسبطه الثاني؛ الامام الحسين، فقد كان يكثر من لثمه وتقبيله، وكان ممن رأي هذه المواقف؛ زيد بن أرقم الذي دارت عليه الأيام والسنين ليجد نفسه الى جنب طاغية الكوفة؛ عبيد الله بن زياد في قصره، وأمامه رأس سبط رسول الله، وكان ينكثه بسوط له، فقال له: ارفع سوطك على هاتين الشفتين، فوالله الذي لا إله إلا هو، لقد رأيت شفتي رسول الله بما أحصيه عدداً تقبلهما.

فائدة هذا التقبيل والحنوّ والمبالغة في إظهار مشاعر الحب للحسين، رسالة لأفراد الأمة على مر السنين والاجيال الى يوم القيامة ليدركوا العلاقة العضوية غير القابلة للانفصام بين حب رسول الله، وحب سبطه الحسين، وبين الايمان بالله وبرسوله، وبالقضية التي من أجلها ضحى الامام الحسين يوم عاشوراء وضحى من أجلها بنفسه وبأهل بيته.

حب على طول الخط، لا تتلاعب به الرغبات النفسية العابرة، ولا تتحكم به العواطف الفارغة من الهدف والغاية السامية، فالذي يقول: إني أحب الحسين، يعني إنه يحب رسول الله، ويحب الله عن وعي و إدراك كاملين، ليستوفي هذا الحب شروطه، "فلا يوجد مسلم في العصر القديم او الحديث يحب نبيه كما يحب المؤمنون انبيائهم، ثم يصغر عنده حساب هذا الحنان الذي غمر بن قلبه الكريم سبطيه، وأحبّ الناس اليه، فبهذا الحنان النبوي قد اصبح الحسين في عداد تلك الشخوص الرمزية التي تتخذ منها الأمم والملل عنواناً للحب". (ابوالشهداء الحسين بن علي- عباس محمود العقاد).

الامام الحسين الفيصل بين الحب والكراهية

الحاكم الثاني للمسلمين بعد رسول الله (الخليفة)، رأي ذات يوم النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى منكبيه الحسن والحسين، عليهما السلام، فأراد ان يعبر عن مشاعره إزاء هذا المنظر فقال: "نعم الفرس تحتكما"! فردّ عليه النبي: "ونعم الفارسان هما".

هذا موقف شعوري يقابله موقف شعوري من نوع آخر مناقض له تماماً صدر من رجل آخر عاصر النبي الأكرم ايضاً، و رأى ما رأى المسلمون من عطف وحنان النبي على الحسنين، وهو الصحابي جابر بن عبد الله الانصاري، الذي ساقه حبّه العميق للإمام الحسين أن يسير اليه راجلاً من المدينة الى أرض كربلاء حيث مقتل الامام ومرقده الشريف ليزوره متحدياً كل التهديدات والصعوبات، علماً أن هذه الرحلة الطويلة عبر الصحراء القاحلة قطعها جابر "البصير"، مما يدعونا الى التأمّل، ولما دنا من القبر صاح ثلاثاً: ياحسين...! وما أن لامست يداه تراب القبر حتى خرّ مغشياً عليه.

الامام الحسين، عليه السلام، وهو أعظم انسان ضحى بنفسه وأهله في سبيل الله، يعملنا فلسفة الحب، كما يعلمنا فلسفة الكراهية، لنحصل بسهولة على جواب سؤالين محوريين؛ عن كيفية الحب؟ ولماذا؟ فقد وردت أحاديث عن أهل البيت، عليهم السلام، جواباً لمن يصرّح بأنه من شيعتهم ومحبيهم: "إذن؛ فليستعد للبلاء"، يعني المسألة ليست عاطفية فقط، بقدر ما يشترك معها العقل والإرادة والعمل على أرض الواقع وفق موازين وأحكام ثابتة تضمن لصاحبها فوائد هذا الحب، كما تجنبه مضار الكراهية، فالذين كانوا يحبون الامام الحسين، عليه السلام، منذ نعومة أظفاره وحتى مرحلة شبابه والى آخر أيام حياته، مثل جابر الانصاري، وحبيب بن مظاهر الاسدي، وأمثالهما، كان حبهم موزاي لحب الامام الحسين، كما كانوا يكرهون ما يكره الامام الحسين، عليه السلام، نظير موقفه، عليه السلام، بإعلان الكراهية ببدء القتال قبل أعدائه يوم عاشوراء، وهذا المنهج ممتد من ذلك الزمان وحتى اليوم، تخلله علماء وخطباء ومجاهدين ضحوا بأنفسهم في سبيل الله ليثبتوا أسمائهم في سجل الإمام الحسين، عليه السلام.  

اضف تعليق