q
سياسة - عنف وارهاب

المسلمون وقوتهم الناعمة

القوة الناعمة هي التي وسعت دائرة المنتمين إلى الإسلام تاريخيا.. فالملايين من المسلمين دخلوا الإسلام وتعرفوا عليه من خلال قيم الرحمة والرأفة والأخلاق الفاضلة وحسن الجوار وحرمة الدم والعرض والمال والبر بالآخرين.. فلا نطرد الناس من الإسلام اليوم بممارسة القتل وسفك الدم وتجاوز كل الحرمات...

أصدر جوزف س ناي مساعد وزير الدفاع الأمريكي الأسبق في عام 1994 م كتابا أسماه (القوة الناعمة وسيلة النجاح في السياسة الدولية).. تحدث فيه بتفصيل عن مفهوم القوة ودورها في السياسات الدولية والإقليمية.. وقسم مفهوم القوة إلى قسمين: القوة الصلبة أو الخشنة وهي مجموع المؤسسات العسكرية والأمنية المباشرة والقاهرة في آن..

والقوة الناعمة وهي شبكة العلاقات والإعلام والثقافة وكل عناصر التأثير على الآخرين بدون قوة خشنة مباشرة.. ويعتقد جوزف ناي أن ثمة متغيرات دولية واجتماعية وعلمية كثيرة، تدفع باتجاه أن تكون القوة الناعمة هي مصدر القوة الأساس لدى الأمم والشعوب المتقدمة.. ويشير في كتابه على (أن القوتين الصلبة والناعمة مترابطتان لأنهما معا من جوانب قدرة المرء على تحقيق أغراضه بالتأثير على سلوك الآخرين.. وما يميز بينهما هو الدرجة في طبيعة السلوك وفي كون الموارد ملموسة فالقوة الآمرة – أي القدرة على تغيير ما يفعله الآخرون – يمكن أن ترتكز على الإرغام أو على الإغراء.. أما قانون التعاون الطوعي – أي القدرة على تشكيل ما يريده الآخرون – فيمكن أن ترتكز على جاذبية ثقافة المرء وقيمه أو مقدرته على التلاعب بجدول أعمال الخيارات السياسية بطريقة تجعل الآخرين يعجزون عن التعبير عن بعض التفضيلات.. لأنها تبدو بعيدة عن الواقع أكثر من اللازم.. وتتدرج أنماط السلوك بين الأمر والتعاون الطوعي على مدى الطيف من الإرغام على الإغراء الاقتصادي، إلى وضع جدول أعمال، إلى الجاذبية المحضة.. وتميل موارد القوة الناعمة إلى الترابط مع طرف التعاون الطوعي من طيف السلوك، بينما تترابط موارد القوة الصلبة في العادة مع السلوك الآمر ولكن العلاقة غير كاملة)..

ولو تأملنا في التجربة الإسلامية التاريخية، لاكتشفنا بوضوح موقع ما يسمى اليوم بالقوة الناعمة في انتشار الدين الإسلامي ودخول الناس أفواجا في دين الله، بدون فرض وقهر، وإنما بفعل الجاذبية الأخلاقية والسلوكية.. وثمة نصوص قرآنية عديدة، تؤكد هذا المعنى، وتحث عليه، بوصفه الوسيلة الفعالة لنقل الآخرين من موقع الخصومة والعداء إلى موقع الصديق والمؤمن والمنتمي إلى ذات المنظومة العقدية والأخلاقية..

قال تعالى (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) (سورة الحشر – الآية 9).. وقال عز من قائل (ادفع بالتي أحسن السيئة فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) (سورة فصلت – الآية 34).. وقال تعالى (ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم) (سورة الحجرات – الآية 12)..

وغيرها الكثير من الآيات القرآنية الشريفة، التي تؤكد على العدل والصفح والحب، تنبذ كل أشكال القوة الخشنة التي تمارس بحق الآخرين مهما كانت درجة الاختلاف والتباين.. فأخلاق المسلمين مع بعضهم ومع خصومهم، هي من عناصر القوة الأساسية في التجربة الإسلامية التاريخية.. فالالتزام بمقتضيات الأخلاق الفاضلة في التعامل مع الآخرين، هو أحد عناصر القوة الأساسية، وليس عنصر ضعف، يمكن أن يعاب عليه الإنسان..

الإنسان يعاب عليه، حينما يتحول إلى وحش كاسر، يقتل ويفجر ويحرض عليهما.. لأن هذه الممارسات ليست لها صلة جوهرية بقيم الإسلام الخالدة، حتى لو تجلبب قائلها بالإسلام.. أن قوة المسلمين الهائلة، هو حينما يلتزمون بالقوة الناعمة للإسلام، وعناصر القوة الناعمة في الإسلام، هي تشريعات خالدة ومطلوبة من الإنسان المسلم في كل الأحوال والظروف.. والدفاع عن الإسلام في ثوابته ومقدساته، لا يمكن أن يتم بممارسة السلوك النقيض لقيم الإسلام، بل بالالتزام بالإسلام قولا وفعلا..

فقتل الخصوم والمختلفين، ليس من الإسلام في شيء، وتفجير دور العبادة ليس من الإسلام في شيء، وبث الكراهية والبغضاء بين الناس، ليس من أخلاق الإسلام في شيء.. فتعالوا جميعا نعيد حساباتنا على هذا الصعيد.. فحق الإنسان الأصيل أن يدافع عن مقدساته وثوابته، ولكن بالوسيلة المشروعة، التي لا تأباها شريعة الإسلام وأخلاقه..

أما أن يتحول الإنسان المسلم باسم الدفاع عن المقدسات والثوابت، إلى قاتل ويستسهل سفك الدم الحرام، فهذا مما يناقض عدل الإسلام ورحمته.. واليوم حيث تعاني العديد من البلدان العربية والإسلامية، من عمليات القتل والتفجير وبث الأحقاد والضغائن بين الناس، تتأكد الحاجة للعودة إلى أخلاق الإسلام ورحمته.. فلا دفاع عن الإسلام إلا بعدل الإسلام، ولا صيانة لمقدسات الإسلام إلا بالالتزام التام بهدي الإسلام وتشريعاته الخالدة..

فالقوة الناعمة هي التي وسعت دائرة المنتمين إلى الإسلام تاريخيا.. فالملايين من المسلمين دخلوا الإسلام وتعرفوا عليه من خلال قيم الرحمة والرأفة والأخلاق الفاضلة وحسن الجوار وحرمة الدم والعرض والمال والبر بالآخرين.. فلا نطرد الناس من الإسلام اليوم بممارسة القتل وسفك الدم وتجاوز كل الحرمات.. فما نشاهده على شاشات التلفاز وفي وسائل التواصل الاجتماعي من صور مرعبة ووحشية باسم الإسلام، هي من أعظم الصور التي تشوه الإسلام في اللحظة الراهنة، وتخيف العالم من المسلمين..

فحري بنا جميعا اليوم، أن نعود إلى رشدنا، ونقف بوجه كل صور سفك الدم والتعدي على الحقوق والممتلكات والأعراض.. لأن الإسلام جاء لصيانة هذه الحقوق والأعراض، ولمنع سفك الدم بغير وجه حق.. وما يجري اليوم في أكثر من بلد عربي وإسلامي، هي جرائم موصوفة، حتى لو مورست باسم الإسلام.. ولا يجوز لنا جميعا القبول بهذه الممارسات الخطيرة بدعوى أن المقتولين والمذبوحين يستحقون ذلك.. فلا قتل في الشريعة إلا بحكم قضائي عادل، وما نشاهده بعيدا كل البعد عن المحاكمات العادلة والقضاء العادل.. فحكم الله في الأرض لا يقوم إلا بالعدل وإشاعة الأمن ومراعاة الحدود مع الآخر قبل الذات..

وإن البطولة الحقيقية، ليس إطلاق مارد التوحش والغرائزية لدى الإنسان، وإنما كظم الغيظ والصبر على الأذى والعفو عمن ظلمك..

وندعو في هذا السياق جميع علماء الأمة ودعاتها ونخبها الدينية والثقافية والإعلامية، إلى رفع الغطاء عن كل الممارسات الوحشية التي ترتكب باسم الإسلام، ودعوة جميع أبناء الأمة من مختلف مواقعهم المذهبية والجغرافية إلى الالتزام بقيم الحوار والتسامح ونبذ العنف والوقوف بحزم ضد كل أشكال العنف والقتل التي بدأت تجتاح مناطق الصراع في العالمين العربي والإسلامي.. وثمة ضرورة ينبغي لنا جميعا أن نعمل من أجلها في الواقع العربي – الإسلامي المعاصر، ألا وهي إشاعة ثقافة التعايش ونبذ نزعات الإقصاء، وإدارة اختلافاتنا بعيدا عن لغة السيف والقتل والمغالبة العنفية..

فنحن جميعا في سفينة واحدة، ومعنيون جميعا بحمايتها وصيانتها من عبث العابثين وتخريب المخربين..

اضف تعليق