q
ان الشخصية العراقية وان تأثرت، وهذا ليس بالاجمال قطعاً، بمناخ العنف في مسلسله الطويل هذا، فانها تبقى ضحية حقيقية لهذه الممارسة التي لاتعكس مطلقاً حقيقتها ومعدنها المجبول من طيبة وتسامح وحب، ظلت تعبر عنه في الغناء والفن والشعر الذي لايسمو الا عندما يكون عراقياً...

بثت قناة (الحرة عراق)، قبل بضعة اعوام، وضمن ندوات البرنامج اليومي الشهير (بالعراقي) حلقة، تناولت موضوعة العنف في المجتمع العراقي، ولعل هذه الموضوعة تكررت كثيراً في ندوات ومقالات ومحاضرات، لباحثين ومهتمين عراقيين، أجهدوا أنفسهم في الحديث عن هذه الموضوعة (الحساسة)، كونها تناولت الشخصية العراقية بصفتها ميالة لممارسة العنف، أو ان هذه الصفة تعكس جانباً من السايكولوجية العراقية بشكل عام، وهو طرح لا يتسبب في تجريح كبرياء العراقيين فقط، وانما ينطوي على تجنٍ كبير، يفتقد من يطرحه الى القراءة العلمية العميقة، ناهيك عن كونه ينطلق في الغالب من قراءة جهوية، تستهدف تسويق مواقف سياسية، تتغافل عن قراءة موضوعة العنف قراءة تاريخية، علمية واعية، حيث ركز المتحدثون في الندوة المذكورة وكذلك معظم من يكتبون ويحاضرون في هذا الأمر على ان هذه (الظاهرة) هي من نتاج مرحلة ما بعد العام (1958) وحالة عدم الاستقرار السياسي التي كانت نتيجة لسقوط الملكية وقيام النظام الجمهوري ومن ثم (عسكرة المجتمع العراقي)!

ان الذي يقرأ تاريخ العراق، وتحديداً بعد سقوط الخلافة العباسية، سيجد ان العراق تحول الى ساحة لصراعات اقليمية دموية تسترت تحت عناوين مختلفة، طائفية وغيرها استباحت أرض العراق وشعبه، وأقامت حفلات دم رهيبة، ولعل من يقرأ كتاب (أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث) لمؤلفه (لونكريك) سيقف على حقائق تؤكد ان العراقيين كانوا ضحايا باستمرار، بعد ان انهارت الدولة وتمزقت بين انياب الجيوش المتناحرة ، وان الانسان العراقي كان ضحية عنف مفروض عليه، لاعنف يمارسه أو يفرضه على الاخرين.

يتفق علماء الاجتماع على ان العنف غريزة موجودة عند كل انسان، وان اسباب استثارته متعددة، وحسب ثقافة كل شعب او جماعة بشرية، لكن الشيء الذي يثير غريزة العنف عند الجميع ، هو تعرض الأوطان الى الغزو والاحتلال، وخوف الناس من مصير مجهول ينتظرها، أو تعارض ارادات سياسية بحمولات ثقافية متناشزة، ولو داخل البلد او الشعب الواحد، مثال ذلك الحرب الاهلية الاسبانية وقبلها الثورة الفرنسية والثورة البلشفية .. والعراق لم يكن البلد الوحيد الذي شهد حالات اضطراب سياسي، تسببت في العنف والعنف المضاد، لكن الوضع الراهن الذي نعيشه اليوم هو نتاج للاحتلال الذي خلق حالة فوضى مخطط لها، وزج بالالاف من الارهابيين والتكفيريين وآخرهم اليوم (داعش) ، ليمارسوا القتل والتخريب والتهجير، تنفيذاً لمشروع لم يعد خافياً على أحد، ووفقا لهذه المعطيات الشاخصة، فان العنف الذي مورس ضد العراقيين كان مزدوجاً، أي انه عنف مادي تمثّل بالقتل والتهجير القسري، وعنف أخلاقي من خلال اتهام الشخصية العراقية بممارسة فعل هي بريئة منه، وضحيته بالتأكيد، والاّ كيف يفسر وجود عراقيين من مختلف الطوائف والأعراق في الدوائر والمؤسسات، حكومية كانت او اهلية، أصدقاء ويعملون معاً، وعندما يخرجون عائدين الى بيوتهم، لاسيما ايام الانفلات الامني في عامي 2006 و2007 يتقاسمون خوف الطريق بالتساوي خشية وقوعهم ضحية لأعمال ارهابية، مالم يكن هناك طرف آخر يعمل بالضد من الجميع؟!

ان الشخصية العراقية وان تأثرت، وهذا ليس بالاجمال قطعاً، بمناخ العنف في مسلسله الطويل هذا، فانها تبقى ضحية حقيقية لهذه الممارسة التي لاتعكس مطلقاً حقيقتها ومعدنها المجبول من طيبة وتسامح وحب، ظلت تعبر عنه في الغناء والفن والشعر الذي لايسمو الا عندما يكون عراقياً، ابتداءً من الشاعرة (انخيدوانا) ابنة الملك العراقي سرجون الأكدي، وصولاً الى الاف الشواعر والشعراء الذين يتوزعون أرض العراق وهم ينزفون وجعاً من خلال قصائدهم وفنونهم وآدابهم التي لم تتوقف حتى في أكثر أيام العنف ضراوة وقسوة، ومن لديه شك فليقرأ ارشيف البلاد!

اضف تعليق


التعليقات

محمد علي
العراق
صديقي العزيز، اتفق معك 100% على تشخيص الحالة، ولكن؛ اختلف معك جداً في تشخيص الاسباب، وكما تفضلت في المقال، فان الجذور النفسية للانسان العراقي هي الحب والود والانسانية، بمعنى أن العنف والدموية جاءته من الخارج، فمن هو الخارج؟ ولماذا تبعد الانقلابات العسكرية التي وقعت في العراق وتذهب الى أعماق التاريخ، لك أن تأخذ الشيعة في الاطار العقائدي، اكثر من تعرض للابادة والتشريد والتصفية الجسدية، فهل تحولوا الى أناس دمويون وقتلة مثل اليهود مثلاً؟؟ باعتقادي ان ثقافة الانتقام نمت وانتشرت في المجتمع العراقي بعد اول انقلاب عسكري شهده العراق الحديث بحجة المطالبة بحقوق "الطبقة الكادحة" والقضاء على الارستقراطية الظالمة.2018-07-12