q

م.د. سليم كاطع علي-مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية /جامعة بغداد

شهد العراق منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921 وحتى إحتلاله من قبل الولايات المتحدة الامريكية عام 2003 أحداث عنف وتحولات شديدة الخطورة إنعكست سلباً على النسيج الاجتماعي العراقي، مما ولد روح الانتقام والتعصب وغياب الثقة المتبادلة بين مختلف أطياف الشعب العراقي، الامر الذي ادى الى تعزيز الصراع والاختلاف بين أبناء البلد الواحد وهو ما عرض الامن والسلم والتعايش السلمي لمخاطر عدة.

ان المجتمع العراقي القائم على التعدد والتنوع يواجه اليوم العديد من مشاكل الاختلاف الديني والتنوع الثقافي والتباين القومي بسبب تباين الخلفيات المؤسسة لهذا التنوع، وهي مشاكل يمكن التعامل معها بوعي يحول التناقض القائم الى تكامل، والتصادم الى تعايش، والتعصب الى تسامح. فالتعايش المشترك هو هدف يتطلع اليه كل العقلاء في المجتمع المتعدد الديانات والثقافات والإثنيات، ولن يتحقق ذلك إلا من خلال إشاعة مفهوم الاعتدال والوسطية لتحقيق التسامح بين ابناء المجتمع، إذ ان من ضرورات لغة الاعتدال والوسطية ترسيخ ثقافة التسامح عبر معرفة عومل الصراع ومسبباته والتخلص منها ليكون الطريق سالكاً نحو علاقات قائمة على الثقة وقبول الآخر والحوار المتبادل.

ولغرض تجاوز آثار الماضي وتداعياته السلبية، فان الطريق الامثل لإعادة الثقة بين مختلف اطياف الشعب العراقي يتطلب بالضرورة إرساء مفاهيم الاعتدال الموضوعي والوسطية الفكرية والسياسية، والابتعاد عن طرح الاهداف والمتطلبات التعجيزية او غير الممكنة عملياً عبر التقارب والتسامح وبناء الثقة المتبادلة ونسيان آلام الماضي وصولاً الى تجذير مفهوم التعايش السلمي في إطار الوطن الواحد.

ان العراق وعلى الرغم من مرور وقت طويل نسبياً على تغيير النظام السابق لا يزال مفهوم التعايش السلمي بين مكوناته شبه غائب، فلا تزال تركة الماضي تدلي بظلالها على الشعب العراقي، ولم يجد هذا الشعب من يعمل على تحقيق التعايش السلمي واعادة بناء المجتمع العراقي المدمر نفسياً ومادياً جراء النزاعات العنيفة، بل على النقيض من ذلك تم التقوقع خلف حجج واهية وإلقاء اللوم على الاطراف الاخرى سواء كانت مشاركة ام غير مشاركة في العملية السياسية والسعي نحو تحقيق المصالح السياسية الضيقة على حساب مصلحة الوطن والمواطن. الامر الذي يستدعي من جميع الاطراف التفكير العميق من اجل تجاوز الاشياء غير المرغوبة وايجاد الحلول للمشاكل التي تعصف بالمجتمع من خلال انتهاج عمليات حيوية وتكييفية تستهدف بناء وترميم البنية الممزقة للعلاقات بين الافراد والحياة المجتمعية، من خلال اعتماد منهج الاعتدال والوسطية لخلق نوع من التفاهم والتوافق المجتمعي كمخرج من الازمات الحاصلة في المجتمع عبر انتهاج آليات وحلول ناجعة لإشاعة التعايش والسلم الاجتماعي.

ان عملية تحقيق التعايش السلمي في العراق تحتاج الى بذل جهود كبيرة من اجل الوصول الى اطار عام واساس متماسك لإعادة هيكلة وبناء المجتمع من جديد، فالحساسية المفرطة بين الجهات التي هي في حالة من التخاصم والاختلاف، والشعور بالحقد والكراهية وفقدان الثقة تجاه بعضهم البعض يستدعي العمل الجاد لإعادة اللحمة فيما بينهم، من خلال تحقيق التعايش السلمي ضمن الوطن الواحد عبر اعطاء الاولوية لإشاعة منهج الاعتدال والتسامح بين ابناء الوطن الواحد وصولاً الى تحقيق المصلحة الوطنية الشاملة على حساب المصالح السياسية والطائفية والعراقية الضيقة.

وفي ضوء ما تقدم، تنطلق هذه الدراسة من فرضية مفادها ان هناك اسس وآليات تؤدي الى تحقيق التعايش السلمي وصولاً الى الاندماج الاجتماعي في العراق وذلك عبر مجموعة من الاجراءات والوسائل لعل اهمها اعتماد منهج الاعتدال والوسطية سواء على صعيد الفكر او الممارسة، لما له من تأثير مهم على صيانة السلم الاهلي وتحقيق العيش المشترك في هذه المرحلة الحرجة.

فالمشكلة الخطيرة التي يعيشها المجتمع العراقي تتمثل في غياب الوعي بطبيعة المخاطر المحيطة بالعراق وتجنب الاعتراف بها، وهو ما يعكس حالة من التخبط الكبير التي تسود القيادات السياسية. فكل طرف من الاطراف يحمل في عقليته فكراً احادياً تجاه الطرف الآخر، بمعنى ان كل طرف يرى انه يمثل الخير والاخر يمثل الشر، وان خطابه السياسي غير قابل للنقد، وإزاء تلك الثنائية التطرفية ثنائية (الخير والشر) التي مزقت المجتمع العراقي يأتي دور الاعتدال والوسطية لعقلنة التناقض المفتعل بين القيادات السياسية من جهة، واطياف المجتمع العراقي من جهة اخرى بهدف ايجاد البديل العقلاني الذي يضمن استمرار الحياة والتعايش السلمي.

فالاعتدال والوسطية يُعد منهج أكثر انسانية وعقلانية وواقعية من خلال رفضه للعنف والتعصب مهما كانت دوافعه، وهو منهج يؤمن بان خلاص الانسان فرداً وجماعةً يكمن اولاً وقبل كل شيء في تنقية ذاته النفسية والمعتقدية من الافكار الهدامة الكامنة فيها، ولعل افضل صورة تعبر عن هذه الحقيقة هي قول الله تعالى: (لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم)، وهنا يأتي دور النخب الفاعلة الدينية والثقافية والسياسية في تعزيز الحياة المجتمعية والاخذ بها نحو اشاعة التسامح والتعايش السلمي.

وعليه، فإن الأخذ بالاعتدال منهجاً للحياة سواء في السلوك ام الفكر هو احد الدعائم الرئيسة لتحقيق الانسجام الكامل بين طوائف المجتمع مهما كانت لغتها ودينها ومذهبها في اطار الهوية الوطنية الواحدة، وهو ما يعني الحاجة الى تأسيس هوية عراقية موحدة للجميع تقوم على مبدأ وحدة الوطن ورفض التفريق بين العراقيين على اساس الدين او القومية او المذهب، ضماناً لوحدة وتلاحم وتعايش فسيفساء المجتمع العراقي.

* ملخص بحث مقدم الى مؤتمر الاعتدال في الدين والسياسة الذي يعقد بمدينة كربلاء المقدسة في 22-23/3/2017، والذي نظم من قبل مركز الدراسات الاستراتيجية-جامعة كربلاء، ومؤسسة النبأ للثقافة والاعلام، ومركز الفرات للتنمية للدراسات الاستراتيجية

اضف تعليق