q
كل هذا التاريخ يتركز ويتكثف في الحرب الحالية، مثلما يتم ضغط المادة الانشطارية للقنبلة الذرية فجأة إلى حجم أصغر وبالتالي كثافة أكبر. ان اندلاع الأعمال العدائية هو في جوهره انفجار ذاتي للتاريخ. لقد تضمنت النماذج الكلاسيكية الثلاثة لشرح حركة التاريخ السقوط المحافظ الذي يتحسر على فقدان عظمة الماضي...
بقلم: مايكل ماردر

فيتوريا جاستيز- ان من المفترض ان يفهم الفلاسفة الأحداث والظواهر من وجهة نظر منفصلة الى حد ما مع الأخذ بعين الاعتبار نماذج نظرية وسوابق مفيدة ولكن الوضع في أوكرانيا قد جعل الانفصال صعباً بالنسبة لي وهذا لا يعود فقط لإن أكثر من نصف عائلتي ينحدرون من أوكرانيا ولكن أيضا لأنني كنت دائما منشغلا -فلسفياً وشخصياً- بقضية التهديدات النووية والاشعاعية والتي تتركز على محطة تشرنوبل للطاقة واستخدام الأسلحة النووية.

لكن مهما يكن من أمر فإن الظروف تتطلب التفكير الواضح وكما جادلت في كتابي لسنة 2021 "حواس الاضطراب" في فصل بعنوان "الانهيار غير المكتمل للاتحاد السوفياتي" فنحن بحاجة لتطوير " فلسفة قوية للتاريخ" قادرة على أن تأخذ بعين الاعتبار "الفجوات التاريخية، والعمليات الكامنة المطولة، والفترات الزمنية الفاصلة بين الأسباب والتأثيرات".

إن الطبيعة الملحة لتلك المهمة قد أصبحت واضحة بشكل مؤلم فالذي نشهده حالياً هو نتيجة للفترة الزمنية الفاصلة بين النهاية الرسمية للاتحاد السوفياتي سنة 1991 وبين موروثاته التي لم تُحل بعد. إن تلك الموروثات مسؤولة ليس فقط عن الحرب في أوكرانيا، بل أيضا عن النزاع المحتدم بين أرمينيا وأذربيجان في ناغرنو -كاراباخ وعن المصير المأساوي لبيلاروسيا، كما يظهر باستمرار في خلفية المشهد الترسانة النووية السوفياتية والتي وافقت أوكرانيا على نقلها لروسيا بعد فترة وجيزة من إعلانها كدولة مستقلة.

لكن التداعيات التاريخية لحرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أوكرانيا هي أكثر تعقيدًا من الإرث الذي لا يزال غير محدد من الانهيار السوفياتي وبالنسبة للمراقبين الأوروبيين فإن الغزو الروسي هو بمثابة تذكير بسلوك المانيا النازية سنة 1939 وبالنسبة للأوكرانيين أنفسهم فإن هذا الغزو يستدعي ذكريات تتعلق بكوارث وطنية سابقة وذلك من مجاعة هولودومور 1932-1933 والحرب العالمية الثانية الى كابوس كارثة تشرنوبل سنة 1986 وبالنسبة للروس فإن تشديد الرقابة وغيرها من الإجراءات القمعية الداخلية قد أيقظت ذكريات الستالينية.

لكن هذا لا يتعلق بمقولة التاريخ يعيد نفسه فالتكرار يتطلب ان تكون هناك دورية وإيقاعات زمنية محددة، ناهيك عن اكتمال كل ما يتكرر. ومع ذلك، فإن العديد من القضايا الكامنة وراء حرب بوتين هي ذيول الأحداث السابقة غير المكتملة - من تفكك الاتحاد السوفيتي إلى الآثار الطويلة الأمد للتساقط الإشعاعي.

ان ما نشهده في أوكرانيا، إذن، هو تعثر الأحداث ببعضها البعض أي تقارب جداول زمنية مختلفة في ظاهرة مدمرة واحدة. تمتد جذور الغزو الروسي للانهيار السوفياتي وكارثة تشرنوبل والحربين العالميتين بالإضافة الى الإبادة الجماعية في أوكرانيا والقمع الستاليني في ثلاثينيات القرن الماضي. كل هذا التاريخ يتركز ويتكثف في الحرب الحالية، مثلما يتم ضغط المادة الانشطارية للقنبلة الذرية فجأة إلى حجم أصغر وبالتالي كثافة أكبر. ان اندلاع الأعمال العدائية هو في جوهره انفجار ذاتي للتاريخ.

لقد تضمنت النماذج الكلاسيكية الثلاثة لشرح حركة التاريخ السقوط المحافظ الذي يتحسر على فقدان عظمة الماضي، بالإضافة الى التقدم الليبرالي الذي يحتفل بالمسار التصاعدي لظروف المعيشة وحرية الإنسان، والنموذج الثالث هو التكرار الدوري (يقترن أحيانًا بالنموذج الأول أو الثاني على شكل دوامة) للتدمير والتجديد "بالماء أو النار"، كما في كتاب أفلاطون تيماوس.

لكن الانفجار الذاتي يقدّم خياراً رابعاً وهو خيار يستخدم أيضا الفيزياء لوصف تأرجح التاريخ تحت ثقل الموروثات التي لم يتم حلها وبمعنى ما فإن النموذج الرابع يضم عناصر من النماذج الثلاثة الأخرى مما يضع الرؤى المحافظة والليبرالية في مواجهة بالإضافة الى ظهور جوانب للتكرار بسبب قوة الجذب المركزي التي أطلقها الانفجار الذاتي ولهذا السبب نسمع أصداء متزامنة عن "استعادة" الماضي الإمبراطوري المجيد لروسيا وعن المسيرة "التي لا يمكن كبتها" نحو حرية السوق والديمقراطية في أوكرانيا والشعار الذي يتكرر بلا كلل أو ملل "التاريخ يعيد نفسه".

ان الانفجار الذاتي للتاريخ يتضح أيضا من خلال الأزمات البيئية التي نعيشها اليوم فالانقراض الجماعي السادس الذي يجري حاليا ليس مجرد تكرار للخمسة السابقة فهو أيضا يشير إلى الانهيار التاريخي للجنس البشري (مع عدد لا يحصى من الأنواع الأخرى) وفي عصر الأنثروبوسين كان هذا الانهيار من صنع الذات وبالتالي يحمل جميع علامات الانفجار الذاتي. تنبع كل من أزمة المناخ ونظام بوتين من اعتمادنا على الوقود الأحفوري مما يشير إلى انتماءهم إلى نفس النموذج التاريخي الأوسع.

ان السؤال الدائم في العمل السياسي هو "ما العمل؟" وهو سؤال لا يمكن أن يُثار بجدية دون فهم تقريبي على أقل تقدير للسياق التاريخي. هل تشكل الحرب في أوكرانيا نكسة مؤقتة لمسيرة الحرية المستمرة حول العالم؟ هل هي عقبة مؤقتة أمام استعادة الإمبراطورية الروسية؟ هل تبدلت الأدوار التي كانت سائدة في الحرب العالمية الثانية وأصبح المدافعون عن الوطن هم الآن المحتلون؟ أم أن هناك شيئًا آخر يجري حاليا على الأراضي الأوكرانية في عام 2022؟

من سمات الانفجار الداخلي للتاريخ أنه يجتذب كل شيء وكل شخص إلى دوامة. إذا كانت الحرب في أوكرانيا علامة واضحة على هذا الانفجار الداخلي، فمن السذاجة الاعتقاد بأن الأعمال العدائية التي تجري حاليا على الأراضي الأوكرانية سوف تقتصر على تلك المنطقة - حتى لو كان لا يزال من السابق لأوانه الحديث عن الحرب العالمية الثالثة.

إن وجود التهديد النووي في الصراع - بما في ذلك محطات الطاقة والأسلحة - هو أحد أعراض افتقار الصراع للقيود الزمنية والمكانية ومثلما اعتبرت أوروبا والولايات المتحدة في البداية مشكلة سارس- كوف-2 مشكلة صحية إقليمية في الصين، فإن الموقف "الدفاعي" لحلف الناتو يتجاهل الآن التهديد العابر للحدود الوطنية المتمثل في التداعيات النووية أو استخدام الأسلحة البيولوجية أو الكيماوية.

كلما أسرعنا في فهم المنطق (أو اللامنطق) المتعلق بالانفجار الذاتي، كلما تحسّنت قدرتنا على فهم ما الذي يتوجب علينا عمله فنحن الان في نهاية حقبة تعطينا شعوراً باننا وصلنا إلى "نهاية التاريخ"، وحاليا ًيجب ان نكون على يقين وكما قال بيرتولت بريخت "لأن الأشياء على ما هي عليه، فلن تبقى كما هي عليه".

* مايكل ماردر، أستاذ الفلسفة بجامعة إقليم الباسك، وهو مؤلف كتاب فلسفة للمسافرين
https://www.project-syndicate.org

اضف تعليق