q
نحن نعيش اليوم في عالم مختلف عما كنا عليه قبل بضع سنوات فقط. فالتوترات الجيوسياسية في صعود مستمر، كما أصبح التعاون في التصدي للتحديات المشتركة أكثر إلحاحا من أي وقت مضى. وكان ظهور الصين كقوة عالمية، على وجه الخصوص، سببا في إشعال شرارة مخاوف عميقة تكاد تكون وجودية...
بقلم: كارل بيلدت

ستوكهولم ــ لقد عادت أميركا. كانت هذه الرسالة الرئيسية التي سعى الرئيس الأميركي جو بايدن إلى نقلها خلال رحلته الأولى إلى الخارج منذ توليه منصبه في يناير/كانون الثاني. ولكن في حين عاد بايدن ذاته إلى الانضمام إلى خليط القادة العالميين ــ بعد أن شغل منصب نائب الرئيس في إدارتي الرئيس باراك أوباما ــ فإن السياسات التي انتهجتها الولايات المتحدة في الماضي قد لا تحظى بذات الفرصة للعودة.

نحن نعيش اليوم في عالم مختلف عما كنا عليه قبل بضع سنوات فقط. فالتوترات الجيوسياسية في صعود مستمر، كما أصبح التعاون في التصدي للتحديات المشتركة أكثر إلحاحا من أي وقت مضى. وكان ظهور الصين كقوة عالمية، على وجه الخصوص، سببا في إشعال شرارة مخاوف عميقة تكاد تكون وجودية في الولايات المتحدة، مما يدعو إلى إعادة تقييم السياسات في مختلف المجالات.

الواقع أن المقارنة بين "التوجيه الاستراتيجي المؤقت للأمن الوطني" الذي أطلقته إدارة بايدين في مارس/آذار، واستراتيجية الأمن الوطني لعام 2015، التي صدرت عندما كان بايدن نائبا للرئيس، تزودنا بلمحة من منطق إعادة التقييم. أولت استراتيجية 2015 قدرا كبيرا من الاهتمام للصين، مشيرة على سبيل المثال إلى أن الولايات المتحدة "ستراقب عن كثب" التحديث العسكري في الصين و"حضورها العسكري المتوسع في آسيا".

لكن أحدث توجيه يضع "تنافس أميركا المتنامي" مع الصين "الجازمة على نحو متزايد" في الصدارة ــ ويقترح استراتيجية لمتابعة هذا التنافس. "في مجموعها"، كما تقول الوثيقة "ستعمل هذه الأجندة على تعزيز مزايانا الدائمة، وتسمح لنا بالانتصار في المنافسة الاستراتيجية مع الصين أو أي أمة أخرى".

إن إدارة بادين محقة في العمل على تعزيز قدرة أميركا التنافسية على الصعيد الاقتصادي وتعزيز بنيتها الأساسية المادية ورأسمالها البشري. هذا يصب في مصلحة العالم بأسره. لكن إذا كانت الولايات المتحدة راغبة في التنافس بفعالية مع الصين، فمن الواجب عليها أن تنظر بعيدا إلى ما وراء حدودها ــ وإلى المستقبل.

في ظل الظروف الحالية، تتوالى فصول المنافسة بين الولايات المتحدة والصين في المقام الأول في المجال الاقتصادي، مع استمرار الناتج المحلي الإجمالي الصيني في النمو وتحرك قادتها بشكل حاسم لإقامة علاقات تجارية واستثمارية متزايدة العمق مع بلدان ومناطق في مختلف أنحاء العالم. تُـعَـد الصين بالفعل قوة تجارية عظمى، حيث لا يقل حجم التجارة التي تتداولها أكثر من 100 دولة مع الصين ضعف حجم تجارتها على الأقل مع الولايات المتحدة.

سوف يقطع مدى توسيع الصين لهيمنتها التجارية وترسيخها شوطا طويلا نحو تحديد حجم نفوذها السياسي. وإذا كان في توجيه إدارة بايدن الأخير أي مؤشر، فإن الصين ستواجه عوائق قليلة نسبيا في سعيها إلى تحقيق أهدافها.

في عام 2015، كانت الولايات المتحدة تنتهج سياسة تجارية تطلعية، وكانت تسعى إلى تشكيل النظام التجاري العالمي في المستقبل. فقد أدركت استراتيجية الأمن الوطني، على سبيل المثال، أن مبادرات مثل الشراكة عبر المحيط الهادئ وشراكة التجارة والاستثمار عبر الأطلسي من شأنها أن تعمل على تمكين الولايات المتحدة من وضع "أعلى المعايير العالمية لحقوق العمال وحماية البيئة"، وإزالة الحواجز أمام الصادرات الأميركية، ووضع الولايات المتحدة "في مركز منطقة التجارة الحرة التي تغطي ثلثي الاقتصاد العالمي".

اليوم، لم يعد لأي من الشراكتين وجود ــ على الأقل ليس مع الولايات المتحدة كعضو. لقد جرى تدمير رؤية إدارة أوباما لنظام التجارة العالمي على يد إدارة دونالد ترمب، بسبب فلسفتها التجارية التي تستهدف الربح. لكن خيبة الأمل الحقيقية تتمثل في أن بايدن لا يبدو حريصا على إحياء رؤية أوباما. بدلا من ذلك، يبدو أن إدارته تتخذ موقفا دفاعيا ورجعيا في التعامل مع التجارة ــ وهو موقف يبدو أقرب إلى موقف ترمب، وليس أوباما.

صحيح أن بايدن، في رحلته إلى أوروبا، اتفق مع زعماء الاتحاد الأوروبي على مهلة تمتد خمس سنوات في النزاع التجاري الذي دام بين الولايات المتحدة وأوروبا سبعة عشر عاما بشأن إعانات الدعم المقدمة لشركات تصنيع الطائرات. لكنه لم يهتم بإزالة الرسوم الجمركية التي فرضها ترمب على الصلب والألومنيوم الأوروبيين. يقول هو ونظراؤه الأوربيون إنهم "يعملون نحو" إبرام صفقة، ولكن حتى لو توصلوا إلى اتفاق، فإنه لن يعكس أي شيء أشبه بالرؤية والطموح اللذين حركا الجانبين أثناء التفاوض على شراكة التجارة والاستثمار عبر الأطلسي في عام 2015.

وعلى هذا، فعندما يتعلق الأمر بالتجارة، نستطيع أن نجزم بأن الولايات المتحدة "لم تَـعُـد" على الإطلاق. ولا تضيع الصين أي وقت في الاستفادة من هذا الوضع لتعزيز ملفها التجاري. وبالفعل، كان دورها فَـعَّـالا في صياغة اتفاقية التجارة الحرة الأكبر في العالم، الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة، التي تضم 15 دولة من منطقة آسيا والمحيط الهادئ.

كما أعلنت الصين اعتزامها الانضمام إلى الاتفاقية الشاملة التقدمية للشراكة عبر المحيط الهادئ، والتي أبرمتها 11 دولة بعد انسحاب الولايات المتحدة من الشراكة عبر المحيط الهادئ. وفي وقت سابق من هذا الشهر، اتفق أعضاء الاتفاقية الشاملة التقدمية للشراكة عبر المحيط الهادئ على بدء مفاوضات الانضمام مع المملكة المتحدة. وينبغي للاتحاد الأوروبي ــ الذي يسعى إلى إبرام اتفاقيات تجارية مع هذه البلدان ــ أن يفكر في الانضمام إلى هذه الاتفاقية أيضا.

يتبقى لنا أن نرى ماذا قد يترتب على الجهود التجارية الجارية التي تبذلها الصين. لكن من الواضح أن قادة الصين يدركون الأهمية الحاسمة الكامنة في الروابط التجارية التي تقيمها بلادهم في ترسيخ نفوذها العالمي. ويتعين على قادة أميركا أن يتعلموا هذا الدرس من جديد ــ لصالح الأميركيين والأوروبيين على حد سواء.

* كارل بيلدت، وزير الخارجية السويدي من 2006 إلى اكتوبر 2014، ورئيس الوزراء 1991-1994، الرئيس المشارك للمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية.
https://www.project-syndicate.org

اضف تعليق