q
تولى رادوسلو سيكورسكي مهمة وزير شؤون خارجية بولندا لمدة سبع سنوات، ليصبح أول وزير يمضي أطول مدة في منصبه، منذ فترة انتقال البلد إلى الشيوعية قبل 30 عاما. والآن، نشر سيكورسكي كتابا جديدا، يستعرض فيه الفلسفة التي يعتمدها في سياسة الشؤون الخارجية لبولندا...
بقلم سلاومير سيراكوسكي

وارسو- تولى رادوسلو سيكورسكي مهمة وزير شؤون خارجية بولندا لمدة سبع سنوات، ليصبح أول وزير يمضي أطول مدة في منصبه، منذ فترة انتقال البلد إلى الشيوعية قبل 30 عاما. وخلال هذه الفترة، واجه سيكورسكي العديد من التحديات، بما في ذلك، حادث سقوط الطائرة في سمولينسك عام 2010، الذي أدى إلى مقتل رئيس بولندا آنذاك ليش كاسزينسكي، وغزو روسيا لأوكرانيا، وضم القرم في عام 2014. والآن، نشر سيكورسكي كتابا جديدا، يستعرض فيه الفلسفة التي يعتمدها في سياسة الشؤون الخارجية لبولندا.

وفي كتابه الذي يحمل عنوان يمكن لبولندا أن تكون أفضل، يناقش سيكورسكي عرفا دام لـ300 عام، وهو المذهب الرومانسي، بدون كل علوم الأمراض التي تصاحبه. وإعجابه الواضح بتاريخ بولندا -بل حتى بعلم الأساطير البولندية- تعبر عن رحيل مرغوب فيه من السياسة الواقعية العديمة الروح، والتي تهيمن على العديد من المذكرات السياسية في يومنا هذا.

ومن خلال رواياته حول استضافته لضيوف أجانب في قصره في تشوبيلين، وتذكيره مجددا بالإنجازات العسكرية العظيمة لبولندا في القرنين السادس عشر والسابع عشر، يثبت سيكورسكي أنه دائما على استعداد للدفاع عن سمعة بولندا. وسيكورسكي هو أول من أطلق حملة، في آخر المطاف، ضد استعمال مصطلح "مخيمات الموت البولندية"، وكان أكثر براعة في تلك الحملة، مقارنة مع حكومة القانون والعدالة الحالية.

إلا أن سياسة سيكورسكي اتجاه التاريخ البولندي تتمثل في تفكيكه كليا. فهو يتساءل ما إذا كانت "الدول الحديثة" قادرة بالفعل على الإحساس بـ"الفخر" وهي تستعرض الأضرار التي ألحقت ببولندا بسبب الجرائم السياسية الكبرى المعبرة عن العواطف التي ارتكبت باسم هذه الدول. وفي أحسن الأحوال، الجرائم لا تفضي إلى شيء، وفي أسوأ الأحوال، فهي تحقق "نجاحا" من خلال معاقبة البلاد بالرعب وسفك الدماء. مثلا، لا يعتبر أي بولندي تقريبا، ثورة 1944 لوارسو على أنها هزيمة، رغم أنها خلفت 200000 من القتلى وسط المدنيين، وأدت إلى دمار المدينة بشكل كامل.

وفي الشؤون الخارجية المعاصرة، دائما ما يكون سيكورسكي واعيا بمصالح بولندا، حتى-أو على الخصوص- عندما يتعامل مع دول أكثر قوة مثل الولايات المتحدة. ويقول أنه من الأفضل أن يكون الشخص موضع ثقة، لكن ليس عندما يعني ذلك معاملة الشخص وكأنه غبي. وينبغي أن تطالب بولندا بالتبادلية، وأن تتجنب المخاطر كلما كان ذلك ممكنا. كما أن عليها تحديد أهداف طموحة، لكن فقط عندما تكون تلك الأهداف ممكنة.

وهذا يعني الاعتراف بأن بلدا مثل بولندا لن ينجح أبدا بمفرده. إن انجذاب بولندا للقوى العظمى بعد 1989 راجع إلى انضمامها إلى المنظمات الدولية الكبرى مثل الاتحاد الأوروبي والناتو ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية. ورغم ذلك، يعتبر كتاب سيكورسكي بمثابة تذكير بفترة كانت فيها السياسة الخارجية لبولندا ذات أهمية بالنسبة للاتحاد الأوروبي، خاصة خلال غزو روسيا لأوكرانيا. ومنذ تولي حكومة القانون والعدالة السلطة، أصبحت بولندا منعزلة على الاتحاد الأوروبي.

وخلال فترة توليه لمهامه (2005-2015)، كانت أهم أولويات سيكورسكي هو ضمان أمن بولندا من خلال الحفاظ على علاقات جيدة مع أميركا وتعزيز الحضور العسكري الأمريكي داخل الحدود البولندية. لكنه سرعان ما أضاف إلى ذلك ضرورة أن تتفادى بولندا أن تصبح دولة عميلة.

وبالفعل، لا يخفي سيكورسكي إحباطه بخصوص مسار العلاقات الأمريكية البولندية خلال الفترة التي تولى فيها باراك أوباما رئاسة الإدارة الأمريكية. إذ لم تحقق المشاركة العسكرية لبولندا في العراق المكاسب المرجوة. ويبقى الحضور العسكري الأمريكي في بولندا رمزيا إلى حد كبير. ولو كان عليه أن يختار، لفضل أن تكون بولندا دولة قوية ضمن الاتحاد الأوروبي، بدل كونها حليفا ثانويا للولايات المتحدة الأمريكية. وبالفعل، أوشك سيكورسكي أن يقول أن ضمان الأمن الذي تقدمه الولايات المتحدة الأمريكية وهمي، وهذا أحد أكبر مخاطر السياسة الخارجية التي يمكن تخيلها.

ويدعم سيكورسكي أسلوبا براغماتيا مع روسيا، مدركا أنه الخطر الجيوسياسي الوجودي الوحيد الذي تواجهه بولندا. ويحذر من ميول البولنديين إلى "كره روسيا أكثر مما يحبون بولندا"، كما عبر عن ذلك، أب القومية البولندية، رومان دماوسكي، ذات مرة. ويعتقد سيكورسكي أن بولندا عليها أن تتعاون مع روسيا قدر المستطاع، ليس من خلال الوعود الفارغة، بل من خلال تولي بولندا لمركز يتمتع بنفوذ داخل الاتحاد الأوروبي- الهيئة التي تأخذها روسيا على محمل الجد. ويذكرنا سيكورسكي أن روسيا هي أكبر شريك تجاري لبولندا خارج الاتحاد الأوروبي.

وبالطبع، أكبر شريك تجاري لبولندا على الإطلاق هي ألمانيا، التي دعمت عضوية بولندا في الاتحاد الأوروبي. ويوضح سيكورسكي أنه ينبغي تعزيز العلاقات البولندية –الألمانية. لكن أحيانا يكون هذا الأمر أسهل نظريا منه تطبيقيا، كما تبين عندما عارضت بولندا نورد ستريم 2، وهو أنبوب يمر عبر ألمانيا وروسيا، وسيسمح هذا الأنبوب لعمليات نقل الغاز الطبيعي الروسي الموجه إلى ألمانيا وإلى باقي دول الاتحاد الأوروبي بالمرور جنب أوكرانيا وبولندا.

ويعتقد سيكورسكي أن مخاوف بولندا بشأن مورد ستريم 2 مبررة، لكنها مبالغ فيها. إن أهم مكون للأمن البولندي هو علاقة بولندا بألمانيا. وبموجب خطة الطوارئ التي وضعتها الناتو، فإن ألمانيا هي من سينشر قواتها للدفاع عن بولندا في حالة هجوم ما. كما أنه كان من المحتمل اتخاذ قرار بشأن بند الدفاع المتبادل لمعاهدة حلف الشمال الأطلسي في برلين، وليس في واشنطن العاصمة.

وأخيرا، يشرح سيكورسكي، كيف أنه رحب بأولوية السياسات على حساب التاريخ في تدبيره للعلاقات مع البلدان المجاورة لبولندا. وبصفته وزيرا للخارجية، اتبع السياسة التقليدية التي تكمن في تطوير حاجز وقائي بين بولندا وروسيا، خاصة عن طريق الشروع في الشراكة الشرقية كوسيلة لتقريب أوكرانيا وجورجيا ومولدوفا من الاتحاد الأوروبي والناتو.

وكان سيكورسكي ذكيا عندما أشرك السويد في هذه العملية، نظرا لأن السويد وبولندا تسعيان إلى تعزيز نقاط قوة كل منهما. ومن جهتها، فالسويد دولة غنية، لكنها صغيرة المساحة. ورغم أن لديها سمعة جيدة بفضل عضويتها الطويلة الأمد في الاتحاد الأوروبي، فهي غير قادرة على التأثير على الاتحاد الأوروبي بمفردها. وبالمقابل، تتمتع بولندا بساكنة كبيرة واقتصاد مشابه، لكنها تفتقد للسلطة الناعمة التي لدى السويد. وكلا البلدين يتوخيان الحذر من توجهات روسيا الإمبريالية.

إن نشر كتاب سيكورسكي يسجل رجوعه إلى السياسات النشيطة بعد ثلاث سنوات من التوقف. كما أن مركزه مناسب لمواصلة مهمته ضمن النخبة الدولية للمفكرين المعروفين. لكن هذا لن يشبع غريزته السياسة. والآن، بعد أن قدم نظرته العالمية، يبدو أن إطلاق حملة للفوز بمقعد له في البرلمان الأوروبي- الذي بدون شك سيضطلع فيه بدو مهم – هي خطوته المقبلة.

* سلاومير سيراكوسكي، مؤسس حركة كريتيكا بوليتيتشنا ومدير معهد الدراسات المتقدمة في وارسو وزميل في أكاديمية روبرت بوش في برلين
https://www.project-syndicate.org

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق