q
يمرّ الشتاء ثقيلاً على السوريين لا سيما النازحين المقيمين في مخيمات منتشرة في مناطق عدة، تغرقها الأمطار والسيول، وسط ازمة الغلاء المعيشي، استخدام المواطنون وسائل مبتكرة لحل ازماتهم كاستعمال قشور الفستق الحلبي كوقود لمدفأة مصنوعة يدوياً، تقي أطفالهم من برد الشتاء، وزراعة الفطر لمواجهة غلاء المعيشة.

(أ ف ب) وسط غرفة الجلوس، يفتح أبو وليد غطاء مدفأة مصنوعة يدوياً، ويفرغ فيها دلواً من قشور الفستق الحلبي، بعدما تعرّف من النازحين إلى منطقته على وسيلة تدفئة جديدة تقي أطفاله برد الشتاء وتحلّ مكان المازوت المرتفع الكلفة.

في المناطق الباردة في سوريا وبلدان عدة مجاورة، يعتمد السكان خلال أشهر الشتاء القارس على مدافئ تقليدية، تُصنع من الحديد أو الألمنيوم وتُعرف باسم الصوبيا، تُضرم النيران داخلها عبر استخدام المازوت أو الحطب.

ومع أزمة المحروقات التي تعاني منها سوريا عموماً ولا تستثني محافظة إدلب حيث لا يتوفر بشكل دائم وكلفته مرتفعة، يمرّ الشتاء ثقيلاً على السوريين لا سيما النازحين المقيمين في مخيمات منتشرة في مناطق عدة، تغرقها الأمطار والسيول.

في منزله في بلدة تل الكرامة في ريف إدلب الشمالي، يقول أبو وليد وهو أب لثلاثة أطفال بعدما احتسى القهوة وأحد ضيوفه قرب المدفأة، لوكالة فرانس برس "نتيجة انقطاع مادة المازوت بحثنا عن بديل من أجل التدفئة (...) ولجأنا إلى مدفأة قشر الفستق".

ويوضح أن وسيلة التدفئة هذه "صحيّة ولا تنبعث منها أي روائح أو دخان. كما أنها أقل كلفة من المازوت غير المتوفّر حالياً"، أمام منزله، وضع أبو وليد 15 كيساً على الأقل من قشور الفستق، التي يبلغ سعر الطن الواحد منها وغالبيته مستورد من تركيا المجاورة 175 دولاراً، وبينما يلهو أطفاله قربه في غرفة الجلوس ذات الفرش العربي التقليدي، يشرح أبو وليد، وهو تاجر سيارات، أنّه تعرّف إلى وسيلة التدفئة غير المألوفة في المنطقة من جيرانه النازحين من خان شيخون في ريف إدلب الجنوبي.

إقبال متزايد

خلال سنوات النزاع، استضافت محافظة إدلب (شمال غرب) نحو مليون ونصف نازح من مناطق أخرى. كما تشهد مراراً موجات نزوح داخلية على وقع هجمات قوات النظام فيها، وآخرها الأسبوع الماضي.

فقد فر وفق الأمم المتحدة، عشرات الآلاف من جنوب المحافظة باتجاه مناطق أكثر أمناً في الشمال جراء تصعيد جديد لقوات النظام وحليفتها روسيا، من مسقط رأسه خان شيخون، نقل النازح صديّق علوان حرفة تصنيع المدافئ إلى مدينة الدانا، حيث يستقر حالياً ويدير ورشة يعمل فيها 15 موظفاً، وبالكاد يتمكنون من توفير طلبات الزبائن.

في باحة الورشة المحاذية لطريق عام، ينهمك العمال في تصنيع المدافئ ووضع اللمسات الأخيرة على عدد منها. وتتألف كل مدفأة من أسطوانة طويلة، تُضرم فيها النيران، مثبتة على لوح مرتفع قليلاً عن الأرض، وملتصقة بصندوق مستطيل الشكل مصنوع من الألمنيوم، توضع فيه قشور الفستق ويكون موصولاً ببطارية سيارة.

عند افتتاح ورشته، ظنّ علوان أن الطلب سيقتصر على النازحين من منطقته، المعتادين على استخدامها، ليفاجئ بحجم الطلب الذي فاق توقعاته، ويشرح لفرانس برس "توقعت أن نفصّل 500 صوبيا (...) ولكن حتى الآن صنعنا 2500 منها، والحمد لله الطلب ما زال مستمراً"، موضحاً أن "الناس تجرّبها وارتاحت كثيراً" بسبب الكلفة المنخفضة وتوفر قشور الفستق الحلبي، وتتراوح كلفة المدفأة الواحد بين 100 و130 دولاراً وفق علوان، بينما يكفي طنّ القشور الواحد لموسم الشتاء بأكمله، في حين أن برميل المازوت الذي قارب ثمنه 130 دولاراً قد لا يكفي لأكثر من شهر.

وإذا كان سكان مدينة الدانا قادرين على تحمل أعباء شراء هذه المدفأة وكلفة تشغيلها، إلا أن عشرات آلاف النازحين المنتشرين في المخيمات العشوائية في المنطقة غير قادرين على توفير أبسط احتياجاتهم، وتعدّ التدفئة واحدة من أبرز التحديات التي يواجهونها خلال الشتاء.

خيم تغرق

في مخيم للنازحين في قرية خربة الجوز في ريف إدلب الغربي، يفاقم الشتاء معاناة حسين محمد برو (51 عاماً)، النازح منذ خمس سنوات من ريف اللاذقية الشمالي الشرقي المجاور، على غرار عشرات الآلاف من النازحين المقيمين في مخيمات عشوائية فوق أراض زراعية في المنطقة.

ويروي الرجل الذي يعتاش من قطع الحطب وبيعه لتأمين قوت عائلته المكونة من زوجته وخمسة أطفال لفرانس برس كيف أن الخيم المهترئة لا تقيهم حر الصيف ولا برد الشتاء. ويقول بحسرة أنّ كل ما بوسعه القيام به هو "دعم الخيمة بعدد من الأخشاب لئلا تسقط على رؤوسنا بفعل العواصف".

ومع تساقط الأمطار بغزارة، تصبح الخيم عائمة فوق بحر من الوحول في ظل غياب خدمات الصرف الصحيّ، كما يشرح برو، لافتاً إلى أن الحفر التي يستحدثها الأهالي تطوف وتُغرق الخيم وأزقة المخيّم. وتتضاعف أمراض الأطفال جراء البرد، بينما الحصول على الدواء ليس متاحاً بشكل دائم.

ويؤوي ريف إدلب الغربي وحده 40 مخيماً عشوائياً يقيم فيها نحو 18 ألف نسمة، جُلّهم فروا من ريف اللاذقيّة المجاور على وقع المعارك منذ أكثر من خمس سنوات، ويشكو القيمون على إدارة المخيمات من تراجع وتيرة المساعدات الانسانية من الجهات الدولية. ويقول مدير أحد المخيمات في ريف إدلب الغربي حسان درويش (35 عاماً) وهو بدوره نازح من منطقة جبل الأكراد، إن "إدارة المخيم تقف عاجزةً عن تلبية احتياجات النازحين القاطنين في المخيّم".

ولا تملك إدارة المخيم على حد قوله "أي دعم أو منح لتقديم المساعدات للنازحين استجابةً للمتطلبات الانسانية خلال الشتاء (..) فيما دعم المنظمات بات شحيحاً ولا يكفي متطلبات سكّان المخيّم"، لكن يضيف "أن تمطر علينا وتسقط الخيمة أفضل من أن يسقط علينا مبنى" جراء القصف.

تحدي غلاء المعيشة بزراعة الفطر

ينثر نصرالله، النازح في محافظة إدلب السورية، البذور بين طبقات من القش قبل أن يغلق عليها في أكياس بلاستيكية بانتظار أن تتحول خلال أسابيع إلى نباتات من الفطر الذي باتت مصدر لقمة عيش عائلته. بحسب فرانس برس.

ويقول نصر الله (43 عاماً)، الوالد لثلاثة أطفال، "بات الفطر بديلاً رئيسياً عن اللحوم التي ارتفعت أسعارها" في وقت يعاني كثيرون من البطالة.

منذ سنوات طويلة، يهوى نصرالله زراعة الفطر إلى أن تحول تدريجياً إلى أحد مصادر رزقه إلى جانب عمله كموظف في المجلس المحلي لمحافظة حماة (وسط) أثناء سكنه في بلدته قلعة المضيق في شمال المحافظة.

وفي شباط/فبراير الماضي، أجبره تصعيد عسكري لقوات النظام على الفرار مع عائلته إلى مخيمات بلدة حارم في ريف إدلب الشمالي الشرقي، وخلال سنوات النزاع، استضافت محافظة إدلب (شمال غرب) نحو مليون ونصف نازح من مناطق أخرى، كما تشهد مراراً موجات نزوح داخلية على وقع هجمات قوات النظام فيها، وآخرها الأسبوع الماضي. إذ فرّ، وفق الأمم المتحدة، عشرات الآلاف من جنوب المحافظة باتجاه مناطق أكثر أمناً في الشمال جراء تصعيد جديد لقوات النظام وحليفتها روسيا.

وبعد نزوحه، لم يجد نصرالله سبيلاً لتأمين لقمة عيشه سوى زراعة الفطر خصوصاً وأن "كلفتها منخفضة جداً"، ويقول، الرجل الملتحي الذي رسمت التجاعيد ملامح وجهه التعب، "بت أزرع الفطر هنا أيضاً لنقتات منه يومياً، نأكله ونوزع ونبيع قسماً منه".

في المخيم العشوائي في حارم، ينهمك نصرالله بتحريك القش والمياه في وعاء أسود أشعل النيران تحته مستعيناً بالأخشاب وببقايا عبوات بلاستيكية، بعد تجفيف القش، يضعه نصرالله في أكياس بلاستيكية وينثر البذور بين طبقاته، ثم يغلق الأكياس بإحكام ويضعها في غرفة مظلمة ودافئة ويتركها لفترة تصل إلى 20 يوماً.

يبدأ الفطر بالنمو خارج القش، ولمدة عشرة أيام أخرى، يرش نصرالله يومياً المياه عليه ليحافظ على رطوبته. وخلال شهر، تنتهي العملية، بقص نباتات الفطر الأبيض الخارجة من جوانب قوالب القش، ومنها ما ستطبخه زوجته وأخرى يبيعها لنازحين من جيرانه وأقربائه وسكان المخيم.

لا قدرة لنا

ولجأ كثر في سوريا، وخصوصاً في الغوطة الشرقية قرب دمشق خلال فترة حصارها من قبل القوات الحكومية، إلى زراعة الفطر كبديل عن مواد غذائية أخرى يفتقرون إليها. ويعاني حوالي 6,5 مليون شخص في سوريا، وبينهم العديد من النازحين، من انعدام الأمن الغذائي أو يفتقدون الغذاء الكافي.

يشتري نصر الله اليوم بذور الفطر من تركيا بقيمة تتراوح بين أربعة إلى خمسة آلاف ليرة (9,2-11,5 دولاراً) للكيلوغرام الواحد. ومن المفترض أن ينتج كيلوغرام من البذور قرابة 20 كيلوغراماً من الفطر الطازج، وكونها عملية تتطلب وقتاً، ينتج نصرالله أسبوعياً بين أربعة إلى خمسة كيلوغرامات فقط. بحسب فرانس برس.

ويبيع الكيلوغرام الواحد بـ1200 ليرة (2,7 دولار)، فيما بلغ سعر كيلوغرام اللحمة ستة آلاف ليرة (13,8 دولار)، ويقول نصرالله "لا تزال زراعة الفطر محدودة برغم أن البعض وخصوصاً في المخيمات لجأوا إليها نتيجة ارتفاع أسعار المواد الغذائية والغلاء المعيشي"، إلا أنّ إنتاجه لا يزال محدوداً ولا يلبي الطلب.

وبمساعدة ابنه سعيد (تسع سنوات)، يقطع نصرالله بسكين نباتات الفطر الأبيض التي نمت في أحد قوالب القش، يضعها في وعاء بلاستيكي أحمر اللون، ويجلس على كرسي أمام منزله بانتظار أن يمر زبون لشرائها.

تلقي أم خالد (65 عاماً) نظرة سريعة على الفطر، تعطي نصرالله ثمنها ثم تتوجه إلى منزلها، وهي التي باتت خبيرة في طهي الفطر، تشويه أحياناً وتضيف عليه البصل حيناً آخر، أو الثوم وعصير الليمون.

في منزلها الطيني المتواضع الذي تقطنه مع عشرة من أفراد عائلتها، تجلس أم خالد على سجادة بنية على الأرض، تقطع الفطر على لوح خشبي ثم تضيفه إلى السمن والبصل في قدر وضعته على بابور غاز صغير.

بعد وقت قصير، تفرغ المرأة، التي فقدت أسنانها وملأت التجاعيد وجهها، طبختها البسيطة في ثلاث صحون صغيرة تضعها إلى جانب صحن واحد من البطاطس المقلية والخضار. وتنتهي بذلك وجبة الغذاء، وتقول أم خالد "اللحم والفروج أفضل حقيقة، لكن لا قدرة لنا نحن النازحين على شرائها".

اضف تعليق