q
إسلاميات - القرآن الكريم

هل روايات (السباب) متعارضة او متزاحمة

وَلَا تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّه (7)

وحسب قواعد باب التعادل والتراجيح فان اللازم الفحص أولاً عن وجوه الجمع العرفية بين الروايات التي تبدو متعارضة فان وجدنا جمعاً عرفياً أو وجدنا جمعاً شهدت به روايات أخرى أو قرائن في احدى الروايتين فكلتاهما حجة فيعمل بهما، وإلا فالمرجع قواعد باب التعارض المستقر حينئذٍ...

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.

سبق ان طوائف الروايات حول السباب أربعة:

(الطائفة الأولى: ما يدل على حرمة سبّ الآخرين، كأصل أولي عام، ويتضمن هذا بعض الآيات والروايات الشريفة والقواعد أو الأصول العملية العامة.

الطائفة الثانية: ما يدل على جواز سبّ جماعات خاصة من الناس نظير أهل البدع أو المخالفين.

الطائفة الثالثة: ما يدل على حرمة سبّ تلك الجماعات الخاصة في بعض الصور، ببعض القيود، والآية الكريمة (وَلا تَسُبُّوا الَّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ‏) تقع ضمن هذه الطائفة، وهذه الطائفة اما هي مخصصة للطائفة الثانية أو هي حاكمة عليها، أو هي بالأساس خارجة عن باب التعارض وداخلة في باب التزاحم الذي يقع ضمن الطائفة الرابعة.

الطائفة الرابعة: ما يدرج الأمر في باب التزاحم)(1).

والحديث اليوم يدور حول الطائفة الثانية وهي الروايات الدالة على الاستثناء من الأصل العام، وهو ان المشكلة التي تعترض هذه الروايات هي انها متعارضة، حسب النظرة البدوية:

تعارض ((أَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ)) مع ((إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ))

فقد ورد قول رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ((إِذَا رَأَيْتُمْ أَهْلَ الرَّيْبِ وَالْبِدَعِ مِنْ بَعْدِي فَأَظْهِرُوا الْبَرَاءَةَ مِنْهُمْ وَأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ وَالْقَوْلَ فِيهِمْ وَالْوَقِيعَةَ وَبَاهِتُوهُمْ كَيْلَا يَطْمَعُوا فِي الْفَسَادِ فِي الْإِسْلَامِ وَيَحْذَرَهُمُ النَّاسُ))(2).

ولكن ورد أيضاً قول أمير المؤمنين عليه السلام: ((إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ وَلَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وَذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ))(3) وكلا المصدرين في أعلى درجات الاعتبار، كما سيأتي.

والروايتان متعارضتان، ولا يمكن القول ان الثانية أعم من الأولى فتخصصها الأولى(4) وذلك لأنه يستلزم إخراج المورد القبيح؛ وذلك لأن الثانية واردة في مورد الرواية الأولى فانها وردت في معاوية وصحبه حيث كان أصحاب الإمام علي عليه السلام ومنهم عمرو بن الـحَمِقِ الخزاعي وحُجرُ بن عَدِيّ يسبون معاوية قبل معركة صفين أو في أثنائها ومن الواضح ان معاوية كان من أظهر مصاديق أهل الريب والبدع إذ ما أكثر وأسوأ البدع التي ابتدعها في الإسلام، وقد كان من أكثرها فجيعة وفحشاً سنُّهُ سنّةَ سبّ أمير المؤمنين وباب مدينة علم رسول رب العالمين صلوات الله وسلامه عليهما و على الهما، على المنابر.

وجوه العلاج

وحسب قواعد باب التعادل والتراجيح فان اللازم الفحص أولاً عن وجوه الجمع العرفية بين الروايات التي تبدو متعارضة فان وجدنا جمعاً عرفياً أو وجدنا جمعاً شهدت به روايات أخرى أو قرائن في احدى الروايتين فكلتاهما حجة فيعمل بهما، وإلا فالمرجع قواعد باب التعارض المستقر حينئذٍ من الرجوع إلى المرجحات المنصوصة على المشهور أو الأعم من المنصوصة حسب رأي الشيخ الانصاري قدس سره ومن تبعه فان فقدت فالأصل الأولي التساقط والأصل الثانوي التخيير كأصل عملي على رأي وكأمارة نوعية على رأي آخر، وذلك كله على غير رأي الآخوند قدس سره الذي يرى الترجيح بالمرجحات تفضيلياً لا إلزامياً وسيأتي الكلام عن ذلك بإذن الله تعالى.

وجه جمع عرفي: تعدد إطلاقات (السباب)

وقد يقال: ان هناك وجهَ جمع بين الروايتين وتدل عليه شواهد من الرواية الثانية ومن روايات أخرى أيضاً، ووجه الجمع هذا يبتني على تحقيق أمر هام جداً لم اجده فيمن رأيت كلماتهم(5)، وهو ان للسبّ إطلاقين، أي: له معنيان وليس معنى واحداً فلم يرد النفي والإثبات في الروايتين على أمر واحد:

والإطلاقان هما:

أولاً: السب بالمعنى الأخص وهو المتفق عليه انه سبّ والذي لم يناقش فيه أحد وذلك كقولك لزيد: يا كلب أو يا حمار وما أشبه ذلك.

ثانياً: السب بالمعنى الأعم أو فقل بالمعنى الآخر، وهذا الذي قد يختلف العرف والعلماء في إطلاق السب عليه وعدمه كقولك للمنحرف: يا منحرف، أو يا ضال، وكقولك للحاكم الجائر: يا مستبد يا دكتاتور أو يا اوليغارشي، أو كقولك عنه: انه يسرق أموال بيت المال أو ما أشبه، وهذا الذي قد يختلف الناس في صحة إطلاقه وفي صدقه وعدمه كما انك لو قلت له أنت مستبد ظالم فيقول: لقد سببتني أو يقول: ان فلاناً سبني، فتجيب انني لم اسبك بل وصفتك بواقع حالك وبما أنت عليه من قبيح فعالك وخصالك.

والواقع هو ان النفي والإثبات في كلامهما (عليهما السلام) لم يردا على معنى واحد بل المثبت يريد السب بالمعنى الثاني والنافي ينفي السب بالمعنى الأول. فالمنفي السبُّ الأخص والمثبَت السبُّ بمعنى وصف حالهم.

والمستظهر في الجمع بين الروايتين (إن لم نقل – كما سيأتي بيانه – بانها من باب التزاحم وليس من باب التعارض البدوي ولا المستقر) ان السبّ في رواية الرسول صلى الله عليه واله وسلم ((وَأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ)) يراد به سبّهم بالمعنى الثاني أي: وصف أعمالهم المنحرفة وذكر حالهم من الضلالة وأنواع المفاسد، وليس المراد السب بالمعنى الأخص.

بينما المراد من السبّ المنفي في رواية الأمير عليه السلام السبّ بالمعنى الأول الأخص فهذا هو الذي كرهه الأمير عليه السلام لا المعنى الثاني فانه صريح في مطالبته به.

((كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ))، شاهد جمع

وبذلك يظهر ان تتمة الرواية تصلح شاهد جمع فانه صريح في قوله: ((وَلَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وَذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ)) فان أعمالهم كانت سفك دماء الأبرياء وقد اشتهر معاوية بقتل المعارضين بجنود من عسل، وإرشاء الناس لقول الباطل كما في قضية سمرة ووضعه نسبة آية (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ...)(6) إلى أمير المؤمنين عليه السلام:

فقد ورد ((قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الْإِسْكَافِيُّ: وَرُوِيَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بَذَلَ لِسَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ حَتَّى يَرْوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ عليه السلام (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى‏ ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ * وَإِذا تَوَلَّى سَعى‏ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) وَأَنَّ الْآيَةَ الثَّانِيَةَ نَزَلَتْ فِي ابْنِ مُلْجَمٍ وَهِيَ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ) فَلَمْ يَقْبَلْ فَبَذَلَ لَهُ مِائَتَيْ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَمْ يَقْبَلْ فَبَذَلَ لَهُ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفٍ فَلَمْ يَقْبَلْ فَبَذَلَ أَرْبَعَمِائَةٍ فَقَبِلَ))(7)

كما كان من أعمالهم نهب أموال بيت مال المسلمين والإسراف والتبذير الرهيبين وبيع الخمور وشربها وغير ذلك، فوصفهم بهذه كلها لا تعد سباباً بالمعنى الأول الأخص لكنها من السباب بالمعنى الأعم، وكلام الإمام صريح في نفي الأخص وإثبات المعنى الثاني ا(الذي يسميه بعض العرف على الأقل سباً) فــــ ((((إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ)) فهذا هو المعنى الأول ((وَلَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وَذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ)) فهذا هو المعنى الثاني، وقوله صلى الله عليه واله وسلم ((وَأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ)) يحمل على المعنى الثاني أي وصف أعمالهم الفاسدة وحالهم من الفساد والضلال فان هذا هو الأصوب في القول والأبلغ في العذر بل السباب بالمعنى الأخص ليس من العذر في شيء أبداً فان الإنسان إذا ذكر بكل موضوعية وبطريقة علمية وجوه انحراف الطرف الآخر وضلاله وفساده كان ((أَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ)) اما إذا سبه بالمعنى الأخص فانه لا يشكل إعذاراً ولا تبليغاً للرسالة، كما ان ذكر حالهم وأعمالهم أصوب في القول عكس السبّ فاما انه ليس بصائب أصلاً أو انه أقل صواباً وأضعف.

احتمالان في ((كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ))

ومن هنا يظهر ان قوله عليه السلام ((كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ)) يحتمل فيه معنيان:

تجريدهما من معنى الأفضلية

الأول: ان يكون عليه السلام قد جرّد أفعل التفضيل من معناه وهو التفضيل (وكون كلا الطرفين واجداً لمبدأ الاشتقاق مع رجحان أحدهما على الآخر، نظير (قُلِ اللَّهُ يَهْدي لِلْحَقِّ أَ فَمَنْ يَهْدي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى‏ فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)(8) فان (احق) أفضل تفضيل وقد جرّد من المفاضلة وأريد به أصله أي انه حقيق بأن يتبع ولا يراد التفضيل حقيقة إذ لا وجه لأن يقال: الباطل حقيق بان يتبع والحق أحق ان يتبع!).

وعلى هذا المعنى يكون المراد ان وصف أعمالهم وذكر حالهم هو الصواب من القول وان سبابهم ليس صواباً أصلاً فعلى هذا تتعارض الرواية مع رواية الرسول صلى الله عليه واله وسلم ((وَأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ)) فيجمع بما سلف من ان مراد الرسول هو مراد الأمير عليه السلام، أي أكثروا من وصف أعمالهم وذكر حالهم؛ فان ضم الروايتين بعضهما إلى بعض يفيد ذلك فان كلام أولهم ككلام آخرهم وكلام آخرهم ككلام أولهم صلوات الله وسلامه عليهم اجمعين، والكلامان الصادران من معصومَين (عليهما السلام) ككلامٍ واحدٍ في مجلسٍ واحدٍ صادرٍ من معصوم واحد، وبذلك يظهر بوضوح وجه الجمع بين الروايتين عندما نضم احداهما إلى الأخرى ونفترضهما صادرتين في مجلس واحد من الرسول صلى الله عليه واله وسلم نفسه أو الأمير نفسه فانه مع لحاظ الجمع الذي ذكرناه لا يرى العرف تعارضاً أبداً بل يرى التكامل المحض.

عدم التجريد

الثاني: ان لا يكون عليه السلام قد جرّده من معنى التفضيل فيكون المعنى: ان السب بالمعنى الثاني (وهو ذكر أعمالهم وحالهم) أصوب وأبلغ، ولكن السب بالمعنى الأول أيضاً صائب وبليغ، ولكن هذا المعنى لا ينسجم مع قوله عليه السلام في صدر الرواية ((إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ)) اما بناءاً على ان الكراهة –كما قد قيل – في لسان الرسول والأئمة عليهم السلام تعني الحرمة، ولم تكن الكراهة المصطلحة (التي هي أحد الأحكام الخمسة المعروفة) مستعملة في كلماتهم عليهم السلام أبداً فـلأن (أكره) يفيد الحرمة فكيف يجمع مع كون السب بالمعنى الأخص صواباً من القول وعذراً؟

و اما بناءاً على: ان (أكره) يراد بها الكراهة المصطلحة فلانه لا يجتمع مع كون السباب صواباً وبلاغاً وعذراً إذ لا شيء من الصواب والعذر في التبليغ بمكروه، سلّمنا لكنه مع ذلك تبقى الرواية معارضة لرواية الرسول صلى الله عليه واله وسلم (لولا الجمع الذي ذكرناه) إذ لا يجتمع كون السب مكروهاً حسب رواية الإمام مع أمر النبي صلى الله عليه واله وسلم به ((وَأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ)) الذي يفيد وجوبه أو على الأقل استحبابه، ومن الواضح ان الكراهة لا تجتمع مع الاستحباب فضلاً عن الوجوب، فتدبر تعرف.

شاهد جمع آخر بين الروايتين

فكل ذلك كان هو القرينة من رواية الإمام عليه السلام على وجه الجمع الذي ذكرناه، واما القرائن من الروايات الأخرى فكثيرة نكتفي هنا بذكر أحداها فقط:

قوله عليه السلام ((لِأَنَّ فِيهِ انْقِطَاعَ عُرَى الْكَافِرِينَ))

فقد ورد انه ((قَالَ الصَّادِقُ عليه السلام: فَهَذَا الْجِدَالُ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، لِأَنَّ فِيهِ انْقِطَاعَ عُرَى الْكَافِرِينَ، وَإِزَالَةَ شُبَهِهِمْ))(9) ومن البديهي ان السب بالمعنى الثاني المذكور في رواية الأمير عليه السلام ((وَلَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وَذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ)) هو الذي يفصم عرى الكافرين ويزيل شبههم، اما السب بالمعنى الأول الأخص (كقولك عنه انه كلب مسعور مثلاً) فانه لا يزيل شبهتهم بل يؤكدها لدى الكثير منهم إذ يحتجون بانك حيث فقدت الحجة والمنطق لجأت للسباب والشتيمة! كما ان وصف حالهم وأعمالهم هو الذي يقطع عراهم اما سبهم بالمعنى الأخص فانه يقوي – عادة – عراهم ويوثقها إذ ان ذلك يستثير فيهم القوة الغضبية والعصبية الجاهلية فيزدادون عناداً ولجاجاً وإنكاراً وجحوداً.

ومن ذلك كله يعلم ان المطلوب من ((وَأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ)) هو نفس المطلوب من رواية الأمير عليه السلام ((وَلَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وَذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ)) وان هذا هو الذي يحقق الهدفين اللذين ذكرهما الرسول صلى الله عليه واله وسلم تماماً أو بما لا قياس مع السباب بالمعنى الأخص، والهدفان هما ((كَيْلَا يَطْمَعُوا فِي الْفَسَادِ فِي الْإِسْلَامِ وَيَحْذَرَهُمُ النَّاسُ وَلَا يَتَعَلَّمُوا مِنْ بِدَعِهِمْ)) فان الناس إذا عرفوا ضلالهم وانهم سراق المال العام وانهم مرابون وسفاكون للدماء وما أشبه احترسوا منهم، اما لو سببتهم بالمعنى الأخص فان الناس – عادة – يبتعدون عنك ولا يحذرون منهم أصلاً خاصة مع غلبة الباطل وأهله في عامة الأزمنة خاصة في هذا الزمن، نعم لو كان الصلاح هو الحاكم في البلاد والعام على العباد لكان السبّ بالمعنى الأخص لأهل البدع سبباً لحذر بعض الناس منهم وقطع طمعهم في الفساد في الإسلام، أمَا والفسادُ هو الغالب فان الطريق الوحيد – عادة – لقطع طمعهم في الفساد في الإسلام هو ((وَأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ)) بالمعنى الاثني أي ذكر أفعالهم السيئة وحالهم المنحرفة بالحجج والبراهين بما يزيل شبهاتهم ويردها عليه ويقطع عراهم.

هل ((إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ)) قضية خارجية؟

لا يقال: ان قوله عليه السلام ((إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ)) هو بنحو القضية الخارجية، لشهادة (لَكُمْ) فالخطاب خاص بأصحابه عليه السلام؟ فتكون أخص مطلقاً من رواية الرسول صلى الله عليه واله وسلم فتخصصها؟

إذ يقال: كلا؛ لأن الأصل في كل ما يصدر منهم عليهم السلام انه بنحو القضية الحقيقية لا الخارجية، إضافة إلى انه لا شهادة لـ(لَكُمْ) أبداً في كون القضية خارجية؛ وإلا للزم ان تكون مختلف الآيات والروايات الواردة فيها (لَكُمْ) قضية خارجية وهو بديهي البطلان؛ ألا ترى ان قوله تعالى (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى‏ نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ)(10) يفيد قضية حقيقية وليست خارجية رغم وجود لكم فيها ورغم انه كان قد جرى منعهم قبل ذلك من الرفث ليلة الصيام؟ وانهم خانوا انفسهم ثم عفى الله عنهم وقال (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ)

وألا ترى ان قوله تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتي‏ وَرَضيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ ديناً)(11) قضية حقيقية لا خارجية، وان قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ)(12) قضية حقيقية لا خارجية... وهكذا وهلم جرا.

لا يقال: رواية ((وَأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ)) أقوى سنداً من رواية ((إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ)) فترجح عليها؛ إذ سيأتي الجواب عن ذلك بوجوه عديدة فأنتظر.

إدراج الروايتين في باب التزاحم

ثم ان هذا كله على المسلك المعروف من ان أمثال ذلك مندرج في باب التعارض (البدوي أو المستقر) ولكن قد يقال: بان النسبة بين ((وَأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ)) و((إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ)) ليست التعارض (لا بدوياً ولا مستقراً) بل هي التزاحم، وتوضيح ذلك يتوقف على بيان أمور:

الأول: ان التزاحم على قسمين:

التزاحم الملاكي والتزاحم الامتثالي

الأول: التزاحم الملاكي.

والثاني: التزاحم الامتثالي.

و(التزاحم الملاكي) يعني ان يكون في متعلق التكليف ملاك مصلحة وملاك مفسدةٍ معاً، وحسم الأمر في هذا التزاحم يعود للمولى المشرّع فانه يلاحظ مدى قوة المصلحة والمفسدة فان وجدهما متساويتين حكم بالإباحة (الاقتضائية) وإن رجحت أحداهما على الأخرى قليلاً حكم بالكراهة أو الاستحباب، أو كثيراً بدرجة بالغة حكم بالحرمة أو الوجوب، ومن مصاديقه قوله صلى الله عليه واله وسلم ((لَوْ لَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلَاةٍ))(13) فان مصلحة التيسير كانت غالبة على مصلحة الفعل نفسه لذا كان مستحباً فقط.

وسيأتي بإذن الله تعالى تفصيل الكلام عن تطبيق ذلك على المقام وعن التزاحم الامتثالي وعن حلقة الربط بينهما بما ينفع في حل الاعضال في الكثير من الروايات التي تبدو متدافعة والتي اعتبرها القوم من باب التعارض بينما نرى انها من باب التزاحم فأنتظر.

نماذج من آيات عُدّت متعارضة والظاهر انها متزاحمة

الثاني: ان هنالك الكثير من الآيات والروايات التي عدّها الأعلام أو بعضهم من التعارض، بينما يمكن القول انها من التزاحم ولنمثل ذلك بأمثلة – من غير تبنٍّ فعلاً لها بل لمجرد العرض والطرح ولعله يأتي تفصيل الأخذ والرد فيها في بحثنا في كتاب التزاحم.

أولاً: قوله تعالى (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَ احْصُرُوهُمْ وَ اقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحيمٌ)(14) مع قوله (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها)(15) وعلى التعارض قال البعض بناسخية الأولى للثانية، لكن قد يقال بانها من التزاحم وان لكل ملاكاً فلا معنى للقول بالنسخ حينئذٍ.

ثانياً: قوله تعالى (وَيُؤْثِرُونَ عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ)(16) مع قوله (وَابْتَغِ فيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصيبَكَ مِنَ الدُّنْيا)(17) وقوله (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى‏ عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً)(18) فاننا نراها من التزاحم وقد توهم من رآها من التعارض فبحث عن وجه الجمع إذ كيف يعتبر الله تعالى الإيثار فضيلة ثم يردع نبيه صلى الله عليه واله وسلم عنه؟

ثالثاً: قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ)(19) مع قوله تعالى (يُريدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُريدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(20) وقوله (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها)(21) فان تقوى الله حق تقاته تستلزم العسر الشديد بل أعلى درجات العسر (ولذا لم يبلغ هذه المرتبة إلا المعصومون عليهم السلام ثم أمثال سلمان المحمدي فقط) فكيف يجتمع الأمر به وطلبه مع (وَلا يُريدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)؟ وتفسير ذلك حسب مقتضيات باب التزاحم، أرجح من البحث عن وجه جمع لحل مشكلة التعارض المتوهم.

رابعاً: ما نحن فيه من التعارض المتوهم بين ((إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ)) و((وَأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ)) حيث نرى انه من باب التزاحم كما سيأتي. وللبحث صلة بإذن الله تعالى.

تنبيه: ان نتائج هذا البحث مهما كانت(22) فانها تقع كلها – كما سبق – ضمن الطائفة الثانية من الروايات، وهي – كما سبق أيضاً – محكومة أو مخصصة بالطائفة الثالثة(23) وبمقتضيات قواعد باب التزاحم، كما ان الإطار العام الذي تدور فيه كافة المباحث هو ان الواجب، مهما كانت مخرجات البحث، هو ان يقع ذلك كله في إطار قوله تعالى (ادْعُ إِلى‏ سَبيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتي‏ هِيَ أَحْسَنُ)(24) والاستثناء مشروط بالشروط الثلاثة وهي: ان المرجعية في تحقيق حال الكبرى وتشخيص حال الصغرى هو للمراجع العظام؛ لأن القضية(25) من الشؤون العامة، والواجب فيها أيضاً تحكيم آراء أكثرية أهل الخبرة وأهل الشورى لقوله تعالى (وَأَمْرُهُمْ شُورى‏ بَيْنَهُمْ)(26) كما فصلناه في موضع آخر.

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين

* سلسلة محاضرات في تفسير القرآن الكريم
http://m-alshirazi.com

...................................
(1) الدرس (296) بتصرف.
(2) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج2 ص275.
(3) نهج البلاغة : الخطبة 206 ، بحار الأنوار : ج 32 ص 561 ح 466.
(4) أي ليكون مفادهما: إني أكره لكم أن تكونوا سبابين إلا لأهل الريب والبدع.
(5) والاستقراء ليس بتام طبعاً.
(6) سورة البقرة: آية 204-205.
(7) إبراهيم الثقفي الكوفي، الغارات - ط الحديثة، الناشر: انجمن آثار ملى‌ - طهران، 1395هـ ‌ج2 ص840-841، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مكتبة آية الله المرعشي – قم، 1404هـ، ج4 ص73.
(8) سورة يونس: آية 35.
(9) السيد هاشم البحراني، البرهان في تفسير القرآن، الناشر: مؤسسة البعثة، ج4 ص323-324.
(10) سورة البقرة: آية 187.
(11) سورة المائدة: آية 3.
(12) سورة البقرة: آية 278-279.
(13) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج3 ص22.
(14) سورة التوبة: آية 5.
(15) سورة الأنفال: آية 61.
(16) سورة الحشر: آية 9.
(17) سورة القصص: آية 77.
(18) سورة الإسراء: آية 29.
(19) سورة آل عمران: آية 102.
(20) سورة البقرة: آية 185.
(21) سورة البقرة: آية 286.
(22) جواز سباب أهل الريب والبدع، بالمعنى الأول أيضاً أو بالمعنى الثاني فقط.
(23) كقوله تعالى (وَلا تَسُبُّوا الَّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) (سورة الأنعام: آية 108).
(24) سورة النحل: آية 125.
(25) فيما كان منها على الملأ العام.
(26) سورة الشورى: آية 38.

اضف تعليق