q

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.

قال الله العظيم في كتابه الكريم: (هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(1)

وقال الإمام علي صلوات الله عليه: ((وَالْيَقِينُ عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ عَلَى تَبْصِرَةِ الْفِطْنَةِ وَتَأَوُّلِ الْحِكْمَةِ وَمَوْعِظَةِ الْعِبْرَةِ وَسُنَّةِ الْأَوَّلِينَ:

فَمَنْ تَبَصَّرَ فِي الْفِطْنَةِ تَأَوَّلَ الْحِكْمَةَ، وَمَنْ تَأَوَّلَ الْحِكْمَةَ عَرَفَ الْعِبْرَةَ، وَمَنْ عَرَفَ الْعِبْرَةَ عَرَفَ السُّنَّةَ، وَمَنْ عَرَفَ السُّنَّةَ فَكَأَنَّمَا عَاشَ فِي الْأَوَّلِينَ))(2).

حيث ينعقد البحث عن (الشك) وعن قيمته المعرفية، فانه لا بد وأن يدور عن (اليقين) أيضاً وعن آليات الوصول إليه والممهدات له باعتباره الضد المعاند للشك؛ فإنك إذا لم تصل إلى شاطئ اليقين بقيت شاكاً وإذا تشبثت بأوهام السفسطة ابتعدت عن ساحل العلم والمعرفة.

وقد كشف أمير الحكماء وحكيم الأمراء بل سيد الحكمة والبلاغة النقاب عن أعمدة اليقين ودعائمه وأسسه في تلك الكلمة المفتاحية الحكمية الرائعة.

والذي نستفيده إجمالاً من تلك الكلمة الخالدة ان الأمة الفاضلة ذات المعرفة الكاملة، وكذلك الشعوب والجماعات الفاضلة أو العوائل أو حتى الأشخاص الأفاضل – هي تلك التي تتمتع بمربع (الفطنة والحكمة العبرة والسنة) فهذه هي أعمدة اليقين وطرق الوصول إلى حقائق الأشياء والأمور.

الفِطنة طريق النجاح وطريق الجَنّة

أولاً: (الفطنة) وهي تعني (الفهم) وقد تفسر بـ(الذكاء) أو الذكاء هو أهم آليات الفهم، والفهم هو طريق العلم والمعرفة واليقين بل هو طريق السعادة والسيادة في الدنيا والآخرة؛ بل لقد ورد في صفات المؤمن: ((الْمُؤْمِنُ كَيِّسٌ فَطِنٌ حَذِرٌ))(3) وذلك على العكس من الغباء والبلادة؛ فإن البليد جاهل أو شاك فيما تبلّد إدراكه فيه والبليد هو الخاسر حتى للآخرة! والرابح في الدنيا والآخرة إنما هو ذو الفهم والإدراك والذكاء والحصافة!

ولكن قد يتساءل كيف ذلك؟

والجواب هو: ان السرّ واضح؛ فإن الفاهم الفَطِن لا يبيع ما قيمته مليار دولار بدولار أو فلس واحد!، ولو فعل ذلك لكان غبياً حقاً بل كان هو الأحمق بعينه، وهكذا نجد ان الذين ينغمسون في أوحال المعاصي هم أغبياء حقاً لا يتمتعون بأثارةٍ من علم أو فهم أو يقين ذلك انه يتمسك بما تفنى لذّته وتدوم حسرته، ويفرِّط في النعيم الأبدي الخالد في قبال نزوة عابرة زائلة، وقد تكون تلك النزوة مجرد غيبة أو نظرة أو سماع أو إيذاءَ أو غير ذلك، أو قد تكون غشاً أو رشوة أو اختلاساً أو غير ذلك، أو قد تكون تقاعساً عن نصرة الدين وعن الذبّ عن حياض الأئمة الميامين أو شبه ذلك.

فاليقين إذاً يبتني على الفهم والفطنة أو الذكاء: فمن فَهِم الأسباب بتفاصيلها أيقن بالنتائج بتضاريسها، ومن فهم عمق المأساة أو جوهر الأحداث أو بواطن الأمور عرف مصادرها وأيقن بنتائجها وعلم بمخرجاتها ومآلاتها.

الحِكْمَةِ من دعائم اليقين

ثانياً: (الْحِكْمَةِ) وهي الأخرى من دعائم اليقين، والفرق بين الفطنة والحكمة أن الفطنة ترمز إلى ما يرتبط بالعقل النظري والحكمة ترمز إلى العقل العملي، وذلك حسب إحدى تفسيراتها وهو (وضع الشيء موضعه) ولها تفسيرات أخرى ستأتي لاحقاً بإذن الله تعالى.

التعامل مع النقد بحكمة وانشراح وفعالية

ومن أهم مفردات الحكمة ان تتعامل الحكومة والقيادة في مختلف مستوياتها مع (النقد) بإيجابية أولاً وفعالية ثانياً: والإيجابية تعني أن تنظر إلى النقد باعتباره سلّم تكامل وطريق بناء وضرورة من ضرورات التقدم بل ان تنظر إليه كأمر محبوب مرغوب فيه جداً كما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: ((أَحَبُّ إِخْوَانِي إِلَيَّ مَنْ أَهْدَى إِلَيَّ عُيُوبِي))(4) وذلك لأن الإنسان بطبعه يكره النقد إذ يعتبره تنقيصاً وإزدراءً ولكنه إذا أنصف وجده شرطاً أساسياً للتقدم لأن البشر قاصر بطبعه عن الإحاطة بكافة جهات القضايا المستجدة وزواياها وأبعادها وحدودها ومزاحماتها وموانعها وغير ذلك، والناقد حيث يترصد الثغرات يكتشفها طبعاً؛ فيهديها إليك من غير ان تتكلف جهداً في استكشافها!

بل نقول: انه حتى إذا كان النقد جارحاً وكان مصحوباً – حتى – بالسباب والشتائم من جهة معادية أو منافسة أو حتى من صديق غاضب، فانّ على الإنسان ان يتدبر في لبّه وجوهره ويتغاضى عن أسلوبه وشتائمه كي يعرف الخطأ بالضبط أين هو، وكي يكون بمقدوره ان يحلق من جديد نحو الأفضل والأفضل.

ومن الطبيعي ان نوصي الناقد بان يتحرى الصدق والموضوعية والأدب الرفيع بل ان يغلّف نقده بكل اللطف الممكن ويجرّده من أية إشارة جارحة أو كلمة نابية؛ وذلك لأن الحدّة في طرح النقد، حتى إذا كان النقد صحيحاً، تفقده الكثير من تأثيره بل قد تنتج العكس، لأن الإنسان بطبعه حساس تجاه ما يجرحه، والحدّة والغلظة والخشونة في الطرح تجرح عاطفة الطرف الآخر مما قد يؤدي إلى نقض الغرض وإلى اثارة القوة الغضبية لدى الطرف الآخر فيزداد عناداً وعصبية.

وكما الأمر في الحكومة والقيادة كذلك الأمر في العوائل والأفراد تماماً.

ثم ان من (الحكمة) إضافة إلى الاستماع إلى النقد جيداً وبإيجابية، التفاعل معه بل ووضع الخطط وتطويرها على ضوء جملة من المعطيات الأساسية ومنها النقد باعتباره عاملاً أساسياً في التقويم بعد التقييم، وهذا ما عنيناه بالتعامل مع النقد بفعالية لا بمجرد انبساط نفسي بل مع ترتيب أثر عملي.

العِبْرَةِ تعبر بك إلى الأعماق والأسرار والحقائق

ثالثاً: (الْعِبْرَةِ) وهي الركن الثالث.. والغريب ان الْعِبرَةِ تحيط بنا من كل جانب ولكن ((مَا أَكْثَرَ الْعِبَرَ وَأَقَلَّ الِاعْتِبَارَ))(5) ففي كلما نراه أو نسمعه أو نأكله أو نشمه أو نتذوقه عِبرة.. وخلف كل منظر ومشهد تكمن فكرة وحقيقة ورقيقة ودقيقة لكنها لا تُنال إلا بالفطنة ثم الْعِبْرَةِ..

والْعِبْرَةِ سميت عِبرَة لأنك تعبر منها وبها إلى ما وراءها من حقائق وخفايا وإلى ما فيها من أسرار وبواطن.

ويكفي ان نلمح إلى أنك إذا رأيت شخصاً يمشي ففي ذلك العِبْرَة، أو وجدته قاعداً أو قائماً ففي ذلك العِبرَةِ أو وجدته مكبّاً على دراسته أو متثاقلاً فيها أو مقبلاً على صلاته أو لاهياً عنها أو ساهياً فيها ففي كل ذلك الْعِبْرَةِ وألف عِبْرَة وعِبْرَةِ.

السُّنَّةَ: الماضي كمرآة للمستقبل

رابعاً: (السُّنَّةَ) وهي الركن الرابع، وذلك يعني ان من أُثفيّات التقدم وركائزه ومن أعمدة اليقين والمعرفة: ان لا تقطع نفسك عن الجذور لتكون (كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ)(6) فان بعض الحداثويين يتوهم ان التقدم والتطور والعصرنة إنما هي بنسف الماضي وسحقه وإزدرائه ونسيانه أو حتى تعمد قلب الطاولة على الأقدمين وكل ما جرى في الماضي ونقضه حجراً حجراً حتى كأنّ كل قرار أو حكم اتخذ في الماضي فهو باطل في باطل، أو حتى كأنّ التاريخ أضحى هو العدو الأول لهم! مع ان الماضي يحتضن كميّة هائلة من الدروس والعِبرَ والإضاءات التي تنير لنا الدرب نحو مستقبل أفضل فهو من أفضل المرايا الكاشفة عن مجاهيل المستقبل القريب والمتوسط والبعيد.

وكما لا يصح استئصال الأمة والشعب والأسرة والجماعة عن جذورها وماضيها، كذلك لا يصح التعبد بالماضي وتقديسه والالتصاق به حرفياً.. بل علينا ان ننتخب منه كل حَسَنٍ وجميل ورائع ومفيد، وان نتخذ من كل هزيمة أو سقطة أو خطأ أو ظلم أو جور عبرة وان نعتبرها مؤشر إنذار منصفٍ فنحترز من خطايا الماضي وسلبياته، بكل جد وعزيمة.

والغريب أيضاً ان الله تعالى فتح أمامنا باب استكشاف المستقبل عبر بوابة دراسة الماضي بفطنة وذكاء وحكمة ولكن قلّ من تجده منشغلاً بـ(فقه التاريخ).

تاريخ بني إسرائيل دليلنا إلى مستقبل الأمة

ومن أغرب الشواهد على ذلك ان الله تعالى جعل (بني إسرائيل) مرآة شديدة الكاشفية عما سيجري على أمة الرسول المصطفى محمد صلى الله عليه واله وسلم حتى ورد في الحديث عن النبي الأكرم صلى الله عليه واله وسلم: ((يَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ كُلُّ مَا كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ وَحَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ))(7) و((لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ وَالْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوه))(8) وذلك غريب حقاً! والأغرب منه اننا لا نجد في الحوزات العلمية والجامعات مجموعة متخصصة بتاريخ بني إسرائيل تضطلع بدراسة كافة ما تعرضوا له وما واجهوه في حياتهم وما صنعوه، وكيف؟ ولماذا؟ وإلى أين انتهت خطواتهم وتحركاتهم في شتى الأبعاد؟، وذلك على الرغم من اننا نعلم – على ضوء هذه الروايات خاصة وعلى ضوء فلسفة التاريخ عامة - بان ذلك كله ينير لنا الدرب ويكشف لنا عن الأخطار المحدقة بنا وعن كافة المطبات أو المصائد التي تعترض مسيرتنا الطويلة – الطويلة.. أفليس من المستغرب بعدها ان لا نجد في الحوزة العلمية حتى عشرة علماء متخصصين بفقه تاريخ بني إسرائيل يدرسونه من كافة زواياه الاجتماعية والسياسية والفكرية والسيكولوجية والسوسيولوجية والانثروبولوجية!

وتكفينا عِبرَةِ من التاريخ الحديث: ان فئة شاذة متوحشة تسمى داعش التهمت بلدة كبيرة كالموصل في ساعات وسيطرت على ثلث العراق خلال فترة وجيزة رغم ان أعدادهم لم تكن تتجاوز العشرين أو الثلاثين ألف ورغم ان الجيش العراقي يبلغ كما قيل المليون! بل قيل ان الذين سيطروا على الموصل بالفعل لم يكونوا إلا بضع مئات.. فلماذا حدث ذلك وكيف حدث؟ إن ذلك مما نسيناه ولم نفرِّغ ثلة من الاخصائيين لدراسته بشكل متكامل ومن كافة الزوايا، وذلك يستبطن خطراً أعظم وهو ان هذه المأساة يمكن ان تتكرر من جديد وفي أي مكان آخر من العراق أو غيره، إذ انك إذا لم تعرف (اللصّ) وأساليبه وخططه ومهاراته وكيفية تسلله إلى الدار في اليوم الماضي فانه لا يُؤمن أبداً من ان يقوم بتكرار التسلل مرة أخرى ثم مراراً عديدة.. ولعلنا إذا كنا قد أحطنا خبراً بتاريخ بني إسرائيل كنا قد اكتشفنا مسبقاً إمكانية حدوث ما جرى في الموصل بدرجة كبيرة!

مُربّع الفِطْنَةِ والحِكْمَةِ والعِبْرَةِ والسُّنَّة

فهذه إذاً إضاءات سريعة عن مربع اليقين والتقدم وهو (الفطنة والحكمة والعِبْرَةِ والسُّنَّةَ) ولكن ذلك كان مجرد تمهيد لنفهم بشكل أوضح مغزى كلام الإمام عليه السلام فانه اعتبر دعائم اليقين ما هو أعمق من هذه الأربعة إذ اعتبرها (تَبْصِرَةِ الْفِطْنَةِ) وليس (الْفِطْنَةِ) فحسب و(تَأَوُّلِ الْحِكْمَةِ) وليس مجرد الحكمة و(مَوْعِظَةِ الْعِبْرَةِ) دون العبرة بذاتها و(سُنَّةِ الْأَوَّلِينَ) فماذا يعني ذلك وكيف تقودنا هذه الأربعة إلى اليقين؟ فهذا هو محور هذا البحث.

أولاً: تبصرة الفطنة: الفطنة المبصِّرة

ان اليقين يبتني، فيما يبتني عليه، على تبصرة الفِطنة، والفطنة، كما سبق، تعني الفهم وربما فسرت بالذكاء ولكن قد يكون المرء فَطِناً لكنه لا يبصر، وقد يتفطّن للخفايا والحقائق والبواطن ولكنّ تفطُّنه هذا لا يبصِّره إذ يجمد على حدود عالم الفهم بدون ان يترجم ذلك الفهم إلى سلوك عملي وإلى قرارات ميدانية على أرض الواقع، فهو فطِن لكن من غير إبصار فهو كمن ينظر من غير أن يرى أو يسمع من غير أن يستمع.

و(اليقين) المبتني على هذه الدعائم الأربع أعم من اليقين بالأمور الماورائية والميتافيزيقية كما قال تعالى: (الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ))(9) ومن اليقين بشرائع الإسلام ومن اليقين حتى في العلوم البشرية من فيزياء وكيمياء وطب وفلك وغير ذلك اللهم إلا ان يدعي الانصراف للأول لكنه – ظاهراً – انصراف بدوي.

كما لا تُنال الدنيا إلا بالفطنة والفهم، لا تنال الآخرة كذلك

والمستفاد من الحديث بوضوح ان الفطنة والفهم فضيلة ومكرمة فانها دعامة اليقين، وأي شيء تجده أشرف من اليقين بالمبدأ والمعاد والنبوة والإمامة ومطلق عالم الغيب ثم اليقين بالمصالح والمفاسد وما يصلح البشرية ويسعدها؟ وتؤكد شرافة الفطنة في الأمور وأهميتها الرواية الآنفة: ((الْمُؤْمِنُ كَيِّسٌ فَطِنٌ حَذِرٌ))(10).

وهذا مقياس هام في العوائل والتجمعات والمجتمعات فان الله تعالى يريد منّا أن نكون أذكياء فطنين لا بُلداء أغبياء، فلا الدنيا تنال بالغباء ولا الآخرة! بل الفاهمين الفطنين هم الذين إذا جمعوا سائر الشروط يكونون الأنجح في الدنيا والأنجح في الآخرة!

وقد يبدو ذلك غريباً للبعض بل مستبعداً ان تكون الجنّةُ لذوي الفطنة والفهم.. لكنه أمر منطقي تماماً إذ – وكما سبق – فان الغبي فقط هو من يبيع قصراً قيمته مليار دولار مثلاً مقابل علكة أو قطعة حلوى صغيرة أو مقابل فلس واحد ظاناً بانه الرابح! ومن يجتزح المعاصي والآثام هو البليد حقاً إذ يبيع جنة عرض السماوات والأرض بدنيا قصيرة زائلة فانية يقول عنها الأمير عليه السلام: ((فَاحْذَرُوا الدُّنْيَا فَإِنَّهَا غَدَّارَةٌ غَرَّارَةٌ))(11) و((إِنَّ دُنْيَاكُمْ عِنْدِي لَأَهْوَنُ مِنْ وَرَقَةٍ فِي فَمِ جَرَادَةٍ تَقْضَمُهَا مَا لِعَلِيٍّ وَ لِنَعِيمٍ يَفْنَى وَ لَذَّةٍ لَا تَبْقَى نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ سُبَاتِ الْعَقْلِ وَ قُبْحِ الزَّلَلِ وَ بِهِ نَسْتَعِينُ))(12) ((وَاللَّهِ لَدُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَهْوَنُ فِي عَيْنِي مِنْ عِرَاقِ خِنْزِيرٍ فِي يَدِ مَجْذُومٍ))(13).

وعلى ذلك فاليقين بثواب الآخرة مثلاً يبتني على (تبصرة الفطنة) فانه إذا تفطّنّا إلى انه لا يعقل بالنظر للحكمة ان نخلق سُدى أو نهمل كالماعز أيقنا أن للخلقة غاية وانها لا تستقيم إلا بنظام المثوبات والعقوبات.

الواجب على المؤمن السعي ليتحلى بالفطنة والفهم

وانطلاقاً من ذلك كله يجب على كل فرد وأسرة وتجمّع وشعب مسلم ان يسعى نحو التميز بالفطنة والفهم والذكاء، فانه كلما ازداد الفرد أو التجمع أو الشعب فطنة ازداد يقيناً ونجاحاً؛ ألا ترى ان الذكي الفطن لا يمكن خداعه؟ وألا ترى ان الذكي الفطن لا يمكن استدراجه للمهالك وان تعددت المكائد؟ وألا ترى ان الذكي الفطن لا يمكن عادة أن يقع في مصايد الفرق الضالة والأحزاب المنحرفة؟ وألا ترى ان الذكي الفطن لا يمكن ان يجعل من نفسه جسراً لمآرب الحكام المستبدين أو الاغيار المستعمرين؟

وصفوة القول: إن الفطنة في الإسلام هي قيمة من أهم القيم إذ ابتنى عليها اليقين الذي بُني عليه الإسلام كله كما قال تعالى: (هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ)(14) وسيأتي بإذن الله تعالى الحديث عن هذه الآية المباركة.

فالفهم والفطنة إذاً من مقاييس الإيمان ومن مقاييس النجاح والفلاح.. واما ما هو السبيل إلى الفطنة وما هي الآليات الموصلة إلى الفهم فذلك بحث آخر قد نتطرق له في مناسبة أخرى، إنما المهم الآن ان نلتفت إلى ان الفطنة والفهم والذكاء أمر مطلوب شرعاً وعقلاً؛ وإلا فما أسرع ما يوقع المحتالون وسرّاق الأديان أو الأفكار بالبسطاء والبُلداء!

شواهد على مفتاحية تبصرة الفطنة في الوصول إلى اليقين

ولنستعرض الآن أمثلة ثلاثة من أبعاد ثلاثة: كلامية واجتماعية وسياسية، كنماذج على مفتاحيه (تبصرة الفطنة) كطريق إلى اليقين:

المثال الأول: التفكر في ذات الله

ان الفطنة تقتضي، وبصراحة بالغة، تجنّب الخوض في ذات الله أو البحث عن كيفية ذاته أو صفاته أو كيفية صدور الأفعال عنه، وشبه ذلك، وهي تقتضي الاقتصار على ما يمكن ان يناله العقل وهو أصل وجوده جل وعلا وعلمه وتحلّيه بصفات الجمال وتنزهه عن صفات الجلال، اما التفاصيل والكيفية وما إلى ذلك فذلك خارج عن حيطة قدرة العقل، والدخول فيه ما هو إلا متاهة خطرة ومزلقة عظيمة.

وقد شددت الأحاديث على هذه الحقيقة فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: ((تَفَكَّرُوا فِي خَلْقِ اللَّهِ، وَلَا تَفَكَّرُوا فِي اللَّهِ))(15)

وعن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: ((مَنْ تفكَّر فى ذات الله الحَدَ))(16).

وعنه عليه السلام: (( مَن تَفَكَّرَ في ذاتِ اللّه تَزَندَقَ))(17).

وعنه عليه السلام: ((قَدْ ضَلَّتِ الْعُقُولُ فِي أَمْوَاجِ تَيَّارِ إِدْرَاكِهِ))(18).

وعن الإمام الصادق عليه السلام: ((إِيَّاكُمْ وَالتَّفَكُّرَ فِي اللَّهِ فَإِنَّ التَّفَكُّرَ فِي اللَّهِ لَا يَزِيدُ إِلَّا تَيْهاً إِنَّ اللَّهَ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَلَا يُوصَفُ بِمِقْدَارٍ))(19)

وعنه عليه السلام: ((مَنْ نَظَرَ فِي اللَّهِ كَيْفَ هُوَ هَلَكَ))(20)

وعنه عليه السلام: ((يا سليمان ! إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ يَقُولُ (وَأَنَّ إِلى‏ رَبِّكَ الْمُنْتَهى‏) فَإِذَا انْتَهَى الْكَلَامُ إِلَى اللَّهِ فَأَمْسِكُوا))(21).

و((خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى قَوْمٍ وَهُمْ يَتَفَكَّرُونَ، فَقَالَ: مَا لَكُمْ لاَ تَتَكَلَّمُونَ؟ فَقَالُوا: نَتَفَكَّرُ فِي خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ: وَكَذَلِكَ فَافْعَلُوا وَتَفَكَّرُوا فِي خَلْقِهِ، وَلاَ تَتَفَكَّرُوا فِيهِ))(22).

وذلك واضح لأن المحدود لا يعقل ان يحيط باللامحدود بل المحدود لا يمكنه ان يحيط بالأكبر منه وإن كان محدوداً فتصور مثلاً كأساً في يدك فهل يعقل ان يستوعب ماء البحر كله ويحيط به؟ فإذا كان ذلك كذلك فكيف يحيط المحدود بالمطلق اللامتناهي اللامحدود؟

بل ان البشر عاجز عن الإحاطة بما هو أقرب إليه من حبل الوريد فلا يمكنه ان يحيط بنفسه أو بروحه (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً)(23) وذلك رغم كل التطور العلمي اللهم إلا بعض الآثار والعلامات اما واقع الروح والنفس فلا، بل نقول: ان مساحة العقل هي غير مساحة العلم، ولا يمكن للعقل البشري عادةً ان يدرك ما كان من دائرة العلم إلا بالعلم؛ أفهل تراه يمكنه ان يدرك أعداد الحيوانات الموجودة في غابة نائية أو الجراثيم الموجودة في الطعام المتعفن أو أعداد الضفادع في ذاك المستنقع، بالفكر والتأمل؟

ولقد أذهل بعض الفلاسفة العالم بجهلهم المطبق إذ حاولوا الوصول لحقائق الأفلاك مثلاً عن طريق العقل والفكر بدل العلم والرصد والتجربة فكان ان اعتقدوا بالأفلاك التسعة، لا العشرة أو الأكثر لأنهم بنوا على قواعد فلسفية اخترعوها لتبرير تكثّر الخلق الصادر عن الواحد الحق عبر العقول العشرة والأفلاك التسعة، كما أوصلهم عقلهم إلى ان هذه الأفلاك هي كأقشار البصل ويستحيل، عقلياً لديهم، خرقها ثم التيامها ولذلك انكر بعضهم المعراج الجسماني للرسول صلى الله عليه واله وسلم وادعى انه روحاني لمجرد انه فكّر بعقله ونحّى العلم أو الوحي جانباً فاعتقد باستحالته.

ومما يؤكد ذلك أكثر ان المفكِّر بعقله لا يمكنه ان يدرك حقيقة الجِنّ أو الملائكة إلا إذا ادعى شططاً من القول؛ وهل يمكن – أيضاً كمثال – للعقل المجرد ان يدرك وجود أمواج الراديو أو الأمواج الكهرومغناطيسية أو إشعاعات أنواع المعادن كاليورانيوم؟ كلا؛ انه ليس بمقدوره أن يدرك بدون سلاح الحواس أو العلم أو شبه ذلك حتى أصل وجودها فكيف بخصوصياتها وكيفياتها وحقائقها وجواهرها؟.

وقد تطرقت في كتاب (مدخل إلى علم العقائد – نقد النظرية الحسّية) إلى ان طرائق العلم والمعرفة هي عشرة وان لكل منها مجالاً وقد تتداخل المجالات في مساحات معينة إلا انه يبقى لكل منها مجال لا يمكن للبعض الآخر تجاوزه أو الدخول إليه.

والحاصل: ان الفِطنة تقودنا إلى استحالة معرفة الكيفية واننا إذا توغلنا في ذلك هلكنا وأهلكنا، فاليقين باللاجدوائية بل والخطورة الشديدة هو المبتني على الفطنة والذكاء والفهم!

المثال الثاني: شاخص الحرية والاستشارية في شتى البلاد

من المعروف ان الدول تدّعي عادة انها حكومات ديمقراطية تحظى بمحبة الناس ورضى الأكثرية وانها تحترم الإنسان وحقوقه وانه لا يوجد لديهم حتى سجين سياسي واحد.. إلى غير ذلك، كما انها تستشهد على ذلك بشواهد تنطلي على أكثر الناس مثل انها تحشد في المظاهرات المؤيدة لها والمناهضة للمعارضة، الملايين التي تجوب الشوارع وهي تهتف بالمجد والخلود للقائد الأوحد أو الرئيس المخلّد.

وكان السيد الوالد قدس سره يذكر انه توجد هناك علامتان شاخصتان ومؤشّران شديدا الوضوح والدلالة، يكشفان للناس زيف هذه الدعاوى ببساطة، والمذهل في هذين المؤشرين انهما متاحان لعامة الناس بمعنى ان الطبقات غير المتعلمة، وحتى كل أميّ أو جاهل، بمقدورها بسهولة معرفة حقيقة الحكومة وانها ديمقراطية أو لا وذلك عبر الرجوع لهذين الشاخصين:

أ- نقد الصحف للحاكم الأعلى باستمرار

الأول: هل هناك صحف حرة في البلاد؟ ومقياس حريتها سهل وواضح جداً وهو: هل ان الصحف تنتقد الحاكم الأعلى للبلاد والذي بيده مركز ثقل القدرة تحت أي مسمى كان (الشاه، الملك، الأمير، رئيس الجمهورية، المستشار، القائد.. إلى غير ذلك) فهل تنتقده الصحف على بعض أقواله أو قراراته باستمرار؟ أو لا تجد فيها أي نقد للحاكم إلا نادراً؟ أو إذا انتقدت الصحيفة أو الصحفي الحاكمَ فانها تتعرض للضغوط المختلفة والملاحقة والمطاردة والحرمان من الامتيازات وصولاً إلى اغلاق الصحيفة أو سجن المسؤول عنها أو الكاتب؟

وهذا ضابط سهل جداً فبمقدور العطار والبقال والمزارع وحتى الغريب الوافد من بلاد أخرى وهو لا يعرف أي شيء عن طبيعة هذا البلد، ان يستكشف ذلك من شراء خمس صحف مختلفة وإلقاء نظرة عابرة على عناوينها.

ب- تغيير المسؤولين والحاكم الأعلى، باستمرار

الثاني: هل ان المسؤولين ومركز ثقل السلطة يتغيّرون كل أربع سنوات مثلاً في انتخابات حرة؟ أم تجد بعضهم يبقى بألف عذر وعذر وبألف قناع وقناع أو حتى تحت مسمّى معين يصونه من ان يطاله التغيير؟

إن من السهل على الحكومات جداً تزوير الانتخابات، كما ان من السهل على الحاكم حشد الملايين في الشوارع ليسبّحوا بحمده ويمجدوا له لأن أرزاقهم بيده والكل يعلم ان الموظفين عادة يخافون من فصلهم من الوظيفة أو في الحد الأدنى من حرمانهم من الترقية أو غير ذلك إذا خالفوا القرارات، كما ان الناس عادة يخافون قوات الأمن والاستخبارات والسجون والتعذيب، كما ان الأعلام كله بيد أجهزة الحاكم، ولذلك فان من الطبيعي ان يخرج الناس إلى الشوارع بالملايين بدعوة واحدة من الحكومة!.

ويشهد لذلك ان أبغض الحكام لدى الناس كصدام والحجاج كان يمكنه ان يحشد الناس بالملايين في الشوارع مرددين أقوى الهتافات الثورية! وكذلك حكام كافة البلاد المستبدة كدول الاتحاد السوفياتي السابق إذ كان بمقدورهم حتى لحظة السقوط تجييش الملايين.

نعم من السهل جداً ذلك كله، ولكنّ ما يفضحهم هو ذانك المؤشران فوراً: فهل تجد في الصحف أو نظائرها نقداً لصدام أو هتلر أو الحجاج أو موسيلني أو جنكيز أو من أشبه؟ وهل تجد الحاكم الأعلى يتغير باستمرار أم يبقى ستالين وخروشوف وهتلر وصدام وهدام والمعمِّر والمدِّمر حاكماً مدى الحياة إلا ان تطيح به ثورة عارمة أو قوة عسكرية خارجية جبارة

المثال الثالث: مسارات الأحداث ومآلاتها

وهو مثال نادر على (الفطنة) في اكتشاف مآلات الأمور ومسارات الأحداث وفي الاستبصار، عبر طريقة علمية، بالمستقبل وأحداثه، و(الفطنة) قد تصب في الاتجاه الإيجابي وقد تصب في الاتجاه السلبي إلا ان (تبصرة الفطنة) لا تصب إلا في الاتجاه الإيجابي لأنها تبصرة وهي لا تطلق على الظلم المظلم.

قصة الثائر بالمدينة الذي فاجأ الجميع بالبصرة!

فقد ورد في التاريخ ان شخصاً من ذراري رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بالمدينة ثار ضد الحاكم العباسي؛ حيث وجد الظلامات تعمَّ البلاد والعباد ورآهم ((يَخْضَمُونَ مَالَ اللَّهِ خِضْمَةَ الْإِبِلِ نِبْتَةَ الرَّبِيعِ))(24) وقد اتخذوا ((مَالَ اللَّهِ دُوَلًا وَعِبَادَهُ خَوَلًا))(25) فما كان منه إلا ان كوّن جيشاً صغيراً وثار على الامبراطور (المسمى بالخليفة) وعزل والي المدينة، فوصلت الأنباء إلى الامبراطور فجمع حوله الوزراء والضباط لدراسة مدى خطورة هذه الثورة على الامبراطورية وما هي أفضل السبل للتصدي لهذه الثورة، وقد تصدى للإجابة العديد من الوزراء وكبار قادة الجيش لكنهم لم يحملوا معهم إلا شعاراتٍ رنّانة وعبارات منمّقة وتمجيداً بالامبراطور وتهويناً من أمر الثائر، وهنا التفت الامبراطور إلى احد كبار السنّ المعروف بالدهاء وقال له: ما لي أراك ساكتاً؟ فقال: قد تكلم القوم! فقال لكنني يهمني رأيك بالذات.. فقال له ذلك الداهية المجرب: ان الرأي السديد يتوقف على المعلومات الدقيقة فإذا توفرت ساعطيكم رأيي.. فقال له سل ما بدا لك فلعل لنا الإجابة؟ وهنا دار الحوار التالي:

الداهية: هل هذا الرجل الثائر من أسرة مغمورة أو من أسرة مشهورة؟

الجواب: انه من أهم أسرة في العالم، فانه من أحفاد الرسول صلى الله عليه واله وسلم والذي نستمد شرعيتنا من الانتساب له.

الداهية: وكم عدد نفوس المدينة؟.

الجواب: لا يتجاوز عشرات الألوف.

الداهية: وما هو اقتصاد المدينة؟ أعني هل تختزن ثروات ضخمة أو لا؟

الجواب: ليس لهم إلا النخيل والبساتين وبعض التجارة ولا غير.

وسأل الداهية أسئلة أخرى مشابهة، ثم قال:

الداهية: إذاً الحل هو: ان تملأ عليه البصرة خيلاً ورجالاً!

وهنا ساد الذهول والوجوم الامبراطور والقوم.. إذ بدا لهم الجواب سخيفاً جداً.. وعندما غادر الشيخ الداهية المجلس قال الامبراطور يبدو اننا قد اخطأنا في استشارته فانه لا يعدو إلا سفيهاً أو مخرِّفا إذ أين البصرة من المدينة (خاصة مع بُعد مسافات ذلك اليوم) فانني أسأله عن ثائر خرج بالمدينة فيقول لي املأ عليه البصرة بالجيشَ!.

ولكن لم يمضِ إلا شهر أو ما يقاربه وإذا بالأنباء تصل إلى الامبراطور ان الثائر المدني انتقل إلى البصرة وألتفّ حوله خلق كثير وجهّز جيشاً عرمرماً وصار خطره وشيكاً على العاصمة وقد يهاجمها في أي وقت!

وهنا انبهر الحاكم بفطنة ذلك الداهية واستغرب أشد الاستغراب من قراءته للمستقبل على ضوء أسئلة بسيطة جداً، ولـمّا استدعاه مرة أخرى وسأله عن كيفية اكتشافه للمستقبل، أجاب: ان تلك المعلومات التي بدت بسيطة هي التي حددت لي استكشاف مسار الأحداث ومآلات الأمور فقد سألتك عن نَسَبِه، فقلت: انه من عائلة النبي صلى الله عليه واله وسلم فعرفت انه يحمل طموحاً كبيراً وانه لا ترضيه السيطرة على المدينة فحسب، كما عرفت بانه ستكون له شعبية في كل الدول الإسلامية مادام كذلك، وسألت عن عدد النفوس وعن الاقتصاد، فعرفت انه لا يمكنه قيادة الثورة على الامبراطورية ومواجهتها بجيش محدود وبتمويل ضعيف، فكان لا بد، منطقياً، من ان ينتقل إلى منطقة غنية بالثروات مليئة بالرجال، وكان لا بد، منطقياً، ان يختار منطقة تمتلأ باتباع جدّه ومحبيه، وكان المنطق يقود أيضاً إلى انه سيختار أقرب منطقة إليه.. وعندما تفحصّت بذاكرتي جغرافيا الدول الإسلامية وجدت أقرب البلاد التي تحمل كل المواصفات الضرورية لثورة جبارة هي البصرة فقلت لك (املأ عليه البصرة خيلاً ورجالاً)!.

إذا جهل المسلمون دهاليز السياسة وخفايا المؤامرات، سقطوا

وموطن الشاهد: ان دهاليز السياسة تمتلأ بالأبعاد الخفية والمناورات المعقدة خاصة في عالم اليوم، وإذا لم يتحلّ المسلمون ببصيرة الفطنة في اكتشاف خطط المستعمرين والمنظمات الخطرة كالماسونية والصهيونية والانجيليين الجدد وغيرهم فانهم سيضيعون في متاهات الحيل السياسية ويظلون لا يفهمون مجريات الأمور أو يبقون في أفضل الفروض في دائرة الشك في علل هذه الظاهرة أو تلك، وفي أسباب هذه الخطوة أو تلك وفي نتائج ذلك القرار العسكري أو السياسي أو الاقتصادي أو ذاك..

والسيء في الأمر ان فترة الشك والحيرة والتردّد تشكل أفضل الفرص للعدو لكي يمرّر مخططاته بهدوء وهو في مأمن من ان تُجهَض مؤامراته حتى اللحظة الأخيرة، وسرعان ما سيجد الحيارى والمترددون الأحداث قد تسارعت والأمور قد تقلبت ولا يعلمون لِمَ؟ وكيف؟ وما وراء ذلك كله! ألم نجد الموصل أُلتُهِمت بين ليلة وضحاها؟ وألم نجد شاباً طائشاً كإبن سلمان فجأة يتملك مقاليد الأمور كلها في أعظم بلد نفطي؟ والم نجد اليمن تتمزق في فترة وجيزة؟، بل الم نجد دول الربيع العربي تنهار بشكل رهيب مذهل ويتحول الربيع العربي إلى خريف مرعب!

ذلك كله يعود، فيما يعود، إلى اننا لا علم ولا معرفة لنا بالسياسة ومجاهيلها ولا يقين لنا بمسارات الأحداث بل نحن بين جاهل أو حائر أو شاك أو متردد.. ومتى ما امتلكنا الفطنة وابصرنا بها الدرب نكون قد وضعنا أرجلنا على الخطوة الصحيحة الأولى في طريق الاستقرار والتقدم والازدهار متسلحين بسلاح الحكمة والعبرة وحسن التخطيط وجودة التنفيذ، والله المعين وهو الناصر المجيب دعوة المضطرين.

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين

* سلسلة محاضرات في تفسير القرآن الكريم
http://m-alshirazi.com

.......................................
(1) سورة الأعراف: آية 203.
(2) الحسن بن شعبة الحراني، تحف العقول، مؤسسة النشر الإسلامي – قم، ص162.
(3) العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء – بيروت، 1404هـ، ج64 ص307.
(4) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج2 ص639.
(5) السيد الشريف الرضي، نهج البلاغة، دار الهجرة للنشر – قم، ص528.
(6) سورة إبراهيم: آية 26.
(7) الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مؤسسة النشر الإسلامي – قم، 1413هـ، ج1 ص203.
(8) ابن أبي جمهور الأحسائي، عوالي اللآلئ، دار سيد الشهداء عليه السلام - قم، 1405هـ، ج1 ص314.
(9) سورة البقرة: آيات 1-3.
(10) العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء – بيروت، 1404هـ، ج64 ص307.
(11) السيد الشريف الرضي، نهج البلاغة، دار الهجرة للنشر – قم، ص352.
(12) المصدر نفسه: ص346.
(13) المصدر نفسه: ص510.
(14) سورة الجاثية: آية 20.
(15) العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء – بيروت، ج54 ص348.
(16) عبد الواحد بن محمد التميمي، غرر الحكم ودرر الكلم، مكتب الإعلام الإسلامي – قم، ص82.
(17) المصدر نفسه.
(18) الشيخ الصدوق، التوحيد، مؤسسة النشر الإسلامي – قم، ص69.
(19) محمد بن الحسن الحر العاملي، وسائل الشيعة، مؤسسة آل البيت عليه السلام - قم، ج16 ص197.
(20) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج1 ص93.
(21) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج1 ص92.
(22) السيد هاشم الحسيني البحراني، البرهان في تفسير القرآن، الناشر: مؤسسة البعثة، ج1 ص725.
(23) سورة الإسراء: آية 85.
(24) السيد الشريف الرضي، نهج البلاغة، دار الهجرة للنشر – قم، ص48.
(25) المصدر نفسه: ص452.

اضف تعليق