q
على الناقد الإسلامي أن يقف عند مناهج النقد الغربي كاشفاً عن أسسها الفلسفية ونظرياتها المادية والملابسات الاجتماعية والتاريخية التي أحاطت بظهورها وانتشارها، فضلاً عن النقد العلمي لأصولها وأركانها الفكرية وتسجيل عيوبها ونقائصها على الصعيدين الموضوعي والفني من خلال رؤية إسلامية تستند الى تصور إسلامي عن الكون والحياة والانسان...

مقدمة:

من الطبيعي أن يكون لمنهج النقد الإسلامي موقفه الخاص والمعلل من سائر مناهج النقد الادبي الحديثة التي تمايزت طوابعها في اوربا منذ اواسط القرن التاسع عشر. ولكنها دخلت عالمنا الإسلامي مع بداية القرن العشرين وزاد تأثيرها في النقاد العرب المفتونين بصرعات الحداثة وصيحاتها منذ أواسط القرن المنصرم حتى يومنا الحاضر.

فكان حقاً على الناقد الإسلامي أن يقف عند مناهج النقد الغربي كاشفاً عن أسسها الفلسفية ونظرياتها المادية والملابسات الاجتماعية والتاريخية التي أحاطت بظهورها وانتشارها، فضلاً عن النقد العلمي لأصولها وأركانها الفكرية وتسجيل عيوبها ونقائصها على الصعيدين الموضوعي والفني من خلال رؤية إسلامية تستند الى تصور إسلامي عن الكون والحياة والانسان. ولا تثريب على الناقد الإسلامي ان استعان ببعض النظرات الثاقبة وما سجّله مفكرو الغرب ونقاده أنفسهم من مؤاخذات على مناهجهم النقدية، لتكون الحجة أبلغ في قصور تلك المناهج وتهافتها أمام الناقد الحصيف، فضلاً عن تعارضها مع أسس المنهج الإسلامي في ميدان النقد الأدبي ومجافاتها لواقع مجتمعاتنا المسلمة. وبناءً على ما تقدم يمكن أن نجمل المؤاخذات والانتقادات الموجهة لكل منهج من مناهج النقد الغربي.

نقد المنهج التاريخي:

اشتمل هذا المنهج على "عدة عيوب لعل أخطرها هذا الربط الحتمي بين الادب والسياسة وجعل الادب ذيلاً لها لا يكاد يصور إلاّ حالة هذه السياسة من القوة او الضعف، والاتساع او الضيق فضلاً عن فصله هذه العصور بعضها عن بعض بينما الواقع يكذب هذا في مجال الادب خاصة، وذلك حين تتداخل المعاني والموضوعات والمذاهب بين العصر وما يليه وما يسبقه "(1)، كما يؤدي ربط الادب بسياسة السلطة الحاكمة إلى اهتزاز الاحكام النقدية الصادرة بحق الادباء في مواقفهم المتباينة من تلك السلطة في عصورهم، فيغتر الناقد بما اضفته السياسة على بعضهم من هالات التمجيد وما احرزوه في ظلها من الشهرة ويضيع بجانب ذلك حق المبدعين المعارضين الذين عملت ايادي السلطة الحاكمة على اخفاء اصواتهم وانتقاصهم واظهارهم بمظهر معيب، وقد نبه الناقد الانكليزي ماثيوآرنولد على هذا الخطر في منهج النقد التاريخي بقوله: "من الواضح ان دراسة التاريخ وتطور الشعر قد يؤديان بشخص ما إلى ان يتوقف عند بعض المؤلفات وعند بعض المشهورين الذين كانوا بارزين يوماً ما وأصبحوا مغمورين في الوقت الحالي، ومن ثم يعيب هذا الشخص على جمهور يتسم بالإهمال انه يمرّ مرّ الكرام على الاسماء والمؤلفات البارزة في شعره القومي"(2).

ولهذا فقد جرّ هذا المنهج كثيراً من الاخطاء في فهم الظواهر الادبية وخلق كثيراً من الاحكام التي لا تقف عند التمحيص والتعمق في فهم الادب نفسه وفي فهم بواعثه وما يحيط به من مؤثرات "فمن اهم الملاحظات التي بدت على الدراسات الادبية الحديثة لأدبنا العربي في عصوره المختلفة هي ان هذه الدراسات عمدت – كلها تقريباً – إلى تقسيم الادب إلى عصور مختلفة ونظرت اليه من خلال هذا التقسيم حتى صار معروفاً ان الادب العربي ينقسم إلى العصور التالية:العصر الجاهلي، العصر الإسلامي وعصر بني امية (وقد يفترقان في بعض التقاسيم)، العصر العباسي، عصر الدول المتتابعة (الانحطاط)، العصر الحديث.

وهذه التقسيمات تبدو مقبولة للوهلة الاولى لأنها اقترنت بأسماء المراحل التي مرت بها الدولة الاسلامية والخلافة في تطورها التاريخي. ولكن هذا التقسيم يؤدي إلى أخطاء فادحة في النتائج ويحدد المنظار الذي يقسر القارئ على النظر من خلاله إلى ادبنا بل ويحدد له مساراً معيناً فلا يرى إلاّ ما كان على جوانب هذا المسار وفي طريقه "(3). ومن المعلوم ان البذور الاولى لهذا المنهج في الدراسات الحديثة في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين قد استعيرت من المستشرقين الاوربيين الذين عنوا بالادب العربي ضمن ماعنوا به من دراسة الحضارة الاسلامية من اجل اخضاع العالم الإسلامي للسيطرة الاوربية عن طريق فهم هذه الحضارة اولاً، وعن طريق تشويه معالمها في نفوس اهلها ثانياً.

فعلى منهج بروكلمان المستشرق الألماني سار الرواد من الباحثين في الادب العربي، وحيث قسم هذا الادب إلى عصور معلومة من عصر جاهلي وآخر اسلامي وثالث عباسي ورابع تركي وخامس حديث، فعل هؤلاء الباحثون الفعل نفسه وصرت لا ترى فرقاً في دراساتهم من حيث هذا التقسيم الا فرقاً بسيطاً في تقسيم بعض العصور إلى مرحلتين او ادخال بعض التسميات الاخرى على بعض العصور "(4). ومن الآثار السيئة لهذا التقسيم السياسي لتاريخ الادب العربي انه يضفي على الفترات الزمنية للأدب صبغة تتناسب مع الحاكم فقط ومع السلطة التي كانت تدير شؤون المسلمين، وهذا الامر غير مسلم به "لانه يتجاهل الناس، كل الناس، ويتجاهل تلك الروح الايمانية واليقظة الواعية التي كانت تدفع الناس دفعاً لقول الحق والجهاد في سبيل الله ورفض الطاعة – أحياناً – للحاكم اذا أخطأ او حاد عن الحق... والشيء الآخر فإن هذا التقسيم يدفع الدارس – دون وعي – إلى تتبع الظواهر الطفيفة التي لاتعدو كونها فروقاً فردية ليجعل منها فروقاً بين دول وعصور ليبني عليها نظرة تطورية معينة ويستخلص منها ما يسمونه بمميزات العصر وسمات الادب ويربطون هذه المميزات والسمات بمسمى العصر "(5).

وقد تم من خلال هذا المنهج إهمال أثر العقيدة الاسلامية على مسار الادب وتلوينها له،"والحق ان الحضارة الاسلامية في مختلف مراحلها مدينة لهذا الأثر ومعبرة عنه بشكل او آخر، ولكن هناك هدف خبيث يقصد إلى ابعاد الامة عن عقيدتها بجعل أحد اكبر انشطتها – كالأدب – يشرق او يغرب، يتأثر بهذه الامة او تلك، يقف عند الملوك والامراء، ينصرف إلى الملذات والملاهي.

والحق ان هذا التوجه انحرف عن رصد ما صوره الادب او قصد إلى اخفائه "(6) وبالاضافة إلى هذه المآخذ المختصة بتاريخ الادب العربي، فقد سجل الباحثون مآخذ اخرى تناولت المنهج التاريخي في دراسة الادب بشكل عام. ومن اخطرها ما يقع فيه هذا المنهج من الاستقراء الناقص الذي يؤدي إلى خطأ في الحكم، ومنه " الاعتماد على الحوادث البارزة والظواهر الفذة التي لا تمثل سير الحياة الطبيعي. فألمع الحوادث وابرز الظواهر ليست اكثر دلالة من الحوادث العامة والظواهر الصغيرة.

وما نراه نحن اكثر دلالة قد لا يكون كذلك في ذاته، بل ربما كان انجذابنا الخاص للاعجاب به او الزراية عليه هو علة ما نرى فيه من دلالة بارزة !" (7) على سير التطور بالنسبة للغة امة وفكرها وأدبها، فمثلاً "حينما ننظر إلى عمل الشاعر كمرحلة من مراحل هذا التطور فإننا قد نحمل انفسنا على ان نوليه اكثر مما يستحق من الأهمية في حد ذاته كشعر، وقد نستخدم لغة يشيع فيها الثناء المبالغ فيه حين نتصدى لنقده، أي باختصار نفرط في تقديره وهكذا ينجم عن احكامنا الشعرية المغالطة والضلال اللذان يسببهما هذا التقدير الذي يمكن ان نطلق عليه اسم التقدير التاريخي "(8) الناتج عن الاستقراء الناقص الذي ينبغي على الناقد ان يتجاوزه بعدم الاقتصار على الظواهر البارزة والفذة وان يجمع اقصى ما يستطيع الحصول عليه من الحوادث والنصوص والمستندات وان لا يصدر احكامه الا بعد الانتهاء من دراسة هذه الدلائل والاسانيد. ومن اخطار المنهج التاريخي ايضاً ما يقود اليه من الاحكام الجازمة " ولا سيما ونحن نواجه في الغالب مسائل تاريخية قديمة ليست لدينا جميع مستنداتها. فالظن والترجيح وترك الباب مفتوحاً لما يجدّ كشفه من المستندات اسلم من الجزم والقطع "(9) ويواجه هذا المنهج كذلك خطر التعميم الذي يؤدي إلى فرض احكام فكرية وادبية غير صادقة وغير ناضجة عن كل مرحلة من مراحل التاريخ الادبي، ومن ذلك ما ابتلي به الادب العربي من احكام خاطئة كضعف الشعر في صدر الإسلام ومجون الادب في العصر العباسي وانحطاطه في العصر التركي وغيرها من احكام سببها التعميم. ومن "اخطر مخاطر المنهج التاريخي، الغاء قيمة الخصائص والبواعث الشخصية فطول معاناة الملابسات التاريخية والطبيعية والاجتماعية عند اصحاب هذا المنهج يجرفهم إلى اغفال قيمة العبقرية الشخصية وحسبانها من آثار البيئة والظروف.

كلا ان العبقرية تأخذ من الوسط بلا شك ولكنها (فلتة) اكثر منها حادثاً طبيعياً، وجميع الظروف لا تفسر لنا بروز عبقرية واحدة من العبقريات الكثيرة "(10). ويتجلى هذا الخطر ايضاً عند دراسة الشخصيات الادبية مما يعرف بالسيرة حين يطغى التاريخ على ذهن الباحث او الناقد فيعجز عندها عن كشف مواطن الابداع الفني لدى شخصيته المدروسة، وتصبح الدراسة تاريخاً وتجميعاً وعرضاً لشخصية الاديب ضمن هذا التجميع. ورغم التطور الكبير الذي احرزه النقد السيري في فرنسا منذ ان نشر سنت بيف (احاديث الاثنين) في منتصف القرن التاسع عشر (11)، فقد حصل لهذا النقد ماحصل لنقد العصور من غلبة التاريخ حيناً وغلبة الانطباعية حيناً، وافتقد الصدق والنزاهة حيناً آخر بأثر الخصومات والصداقات، وقد سجل التاريخ على سنت بيف صاحب المقدرة النقدية الهائلة بأنه" كان مغرماً اشد الغرام بأن يذهب ليتقصى اخبار معاصريه، ليس فقط في حياتهم الادبية بل في حياتهم الخاصة وفي شؤونهم الدخيلة فكان دائماً يتجسس عليهم ويتلقط الأخبار عن أحداث عيشتهم وخفايا أمورهم ومكنونات أسرارهم مما يفيض كثيراً بالفضائح والعيوب.

وكان سنت بيف مليئاً برغبة جامحة تدفعه إلى تعرف المعلومات الثانوية عمن ينقده مدعياً ان ذلك كله فيه مايلقي الاضواء على حقيقة الشخصية المنقودة "(12)، وفي هذا دلالة على ان المنهج التأريخي في النقد شأنه شان أي منهج حساس "اذا فقد فيه صاحبه توازنه زلّت به قدمه واختلّ ميزانه وصار مؤرخاً او جمّاعة وحكمه العصر بمقياسه وصار النص الادبي لديه مادة للتاريخ ولم يعد التاريخ مادة للنقد "(13)، فيستوي عنده الشعر وسائر الكلام ليتخذ منه شاهداً تأريخياً، بل يصبح الشاعر الضعيف أهم لديه من الكبير لأنه يقرر الحوادث تقريراً ويسردها سرداً تعليمياً دون ان تتدخل موهبة او عاطفة او خيال "ومن هؤلاء التأريخيين من يستهويه الماضي فيعيش فيه اكثر مما يعيش في عصره ويستحيل الماضي حباً وهواية واعتزازاً بالموروث كائناً ما كان هذا الموروث وكثيراً ما يقترن ذلك بالركض وراء المصادر وكأنها غاية في نفسها وينتج عن ذلك ان يأتي عملهم مجموعة من الروايات والاسانيد في اسفلها ذيل طويل من الحواشي والاحالات. وقد يكون هذا من التاريخ الا انه لن يكون نقداً او من النقد "(14).

وفي كل هذا غمط لحق الاديب الموهوب وصاحب العبقرية الفذة التي يعجز هذا المنهج عن وصفها او تعليلها وكل ما تمدنا به دراسة الوسط في الادب هو معرفة لون العبقرية واتجاهها لا طبيعتها ولا اسبابها، ومن الواجب ان ندرس كل عبقرية دراسة مستقلة وان لا نجعل للظروف المحيطة اكثر من قيمتها. وليس هذا ضرورياً في العبقريات الضخمة فحسب، فربما كان لازماً في دراسة أي شخصية ادبية.

نقد المنهج الاجتماعي:

مسألة "ان الادب تصوير للبيئة قد تكون صحيحة اذا نحن راعينا لون الادب وشكله، اما طبيعته وحقيقته الفنية فهي خاضعة اكثر للعنصر الشخصي والمزاج الفردي. ودراسة هذا المزاج الخاص تجدي علينا في فهم الادب اكثر مما تجدي دراسة الوسط "(15)، ورغم هذا فقد بالغ المنهج الاجتماعي في الاهتمام بذلك الوسط فطغت المادة الاجتماعية بالقياس إلى المادة الجمالية، بينما يتعين على الناقد ان يتوسل بالاضاءة بقدر انعكاساتها على النص، وجرى تحميل النص اكثر مما يحتمله أي استنطاقه بيئياً بما لا واقع له كالتعسف الذي طبع النقد الماركسي مثلاً في عقد الصلة الموهومة بن النص وبين بنيته التحتية (الاقتصاد) (16) إذ" اتخذت الواقعية ومن ثم النقد الاجتماعي الذي يمثلها بعداً فلسفياً على يد كارل ماركس وانجلز من خلال نظريتهما في تفسير التاريخ والتطور البشري والاجتماعي على اساس العامل الاقتصادي ووسائل الانتاج. لقد عدت هذه النظرية كل نشاط انساني في المجتمع بما فيه الادب والفن بنية فوقية تحركها البنية التحتية التي هي العامل الاقتصادي وحركة الانتاج المادي... وهكذا انتهى الادب إلى كونه مؤسسة اجتماعية شأنها شأن المؤسسات الاخرى.

من هنا يكمن الخلل في المنهج الاجتماعي النقدي في مفهوم الماركسية اللينينية او المادية الديالكتيكية وهو المنهج الذي اصطلح على تسميته بـ(الواقعية الاشتراكية) فيما بعد حين اقره اتحاد الكتاب السوفيت عام 1934"(17). وقد لبس المنهج الاجتماعي في النقد لباس العلم والموضوعية بعد ان رأى تين ان الآثار الانسانية خاصة كوقائع ونتاجات "يجب ان تحدد سماتها وتبحث اسبابها لا أكثر. ان العلم حسب هذا المفهوم لا يدين ولا يعفو. انه يتحرى ويشرح، انه يعمل مثل عالم النبات الذي يدرس باهتمام متساوٍ شجرة البرتقال وشجرة الصنوبر وشجرة الغار وشجرة البتولة. ان هذا المنهج نفسه ضرب من علم النبات لا يطبق على علم النبات وانما على المؤلفات الانسانية"(18).

ومن هذا المنطلق اقام تين منهجه النقدي على العوامل الثلاثة: الجنس (العِرق)، البيئة، الزمان، "فهو يزعم ان العِرق له دوره في توريث بعض الخصائص الجماعية ومنه يستنتج اختلاف صور الادب واختلاف خصائصه عند شعراء كل امة على حدة، فهو يزعم مثلاً ان الشعراء الساميين ينقصهم الخيال الواسع والتعمق في الحكم على الاشياء وان السامية تعوزها الفلسفة والآثار الادبية الممتازة بخلاف الآرية التي تمتاز بالشرائع والقوانين الاجتماعية والفلسفة. ولا شك ان هذه النظرية خاطئة لاعتمادها العرق أساساً متجاهلة عبقريات الافراد وتقاليد الامم والشعوب في تنظيم اساليب الحياة وفق متطلبات يفرضها الزمان والمكان في الغالب "(19). ونجد نظرية الجنس هذه لدى ارنست رينان ايضاً في الاجناس الآرية والسامية، وقد تاثر بها بعض الدارسين للأدب العربي " فانتهوا إلى تعليل كثير من الظواهر الادبية واللغوية بهذه (السامية)، فخلوّ الادب العربي من القصة والمسرحية وعدم توفر الوحدة العضوية في شعره وفقر خياله وحسيته وميل لغته إلى الايجاز، كل ذلك من مخلفات العقلية السامية التي تميل إلى التركيب وتنظر إلى الامور مجزأة على انفراد بخلاف العقلية (الآرية) التي تميل إلى التحليل والنظرة الكلية للوجود، فتخلصت – بناء على هذا – من هذه العيوب التي علقت بالادب العربي في عصوره كلها كما يزعمون.

ومن الصور التطبيقية لنظرية الجنس في الدراسة الادبية الدراسات التي عالجت شعر بشار بن برد وابي نؤاس بالرجوع إلى نسبهما الفارسي، وكأنها وجدت المفتاح السحري لفهم اسرار فن الشاعرين وفهم نفسيتهما، والدراسات التي عالجت شعر ابي تمام وابن الرومي على انهما شاعران من اصل يوناني"(20). والحق انه "ما من سبيل إلى اقامة التاريخ الادبي على نظرية الجنس من الوجهة الفكرية النظرية، وما من سبيل إلى ذلك ايضاً من الوجهة التطبيقية العملية فقد اختلطت الاجناس في الوطن الإسلامي اختلاطاً هائلاً مروعاً وتمازجت الدماء تمازجاً واسعاً عريضاً، فكان من العبث ان تظفر بالدم الصافي والسلالة النقية، فقد اقبل المسلمون يتصاهرون على أنهم أمة واحدة ويتزاوجون على انهم دين واحد فاتصلت الانساب بين اعماق الصحراء واطراف المدن وبين اصحاب الخيام وسكان القصوروبين العرب والفرس وبين العرب والروم والاتراك والهنود والبرابرة وبين هؤلاء جميعاً "(21).

نقد المنهج الأنثروبولوجي:

ومما يتصل بنظرية الجنس هذه ما عرف بالدراسات الانثروبولوجية التي تعنى بالأجناس البشرية القديمة واديانها واساطيرها وعاداتها وتقاليدها،"وهي دراسات – على الرغم من جدتها واهميتها – لا نستطيع ان نعطيها الصفة العلمية الحقيقية لانها نشأت في مرحلة سيطرة اوربا على العالم وشعورها بالتفوق على الاجناس والبيئات الاخرى. اذ السمة الغالبة على هذه الدراسات هي انها تدرس شعوباً (بدائية) بالنسبة للشعوب الاوربية المتحضرة. وهذه البدائية ليست محددة بتاريخ معين لكنها شملت شعوباً واجناساً ذات حضارات قديمة ولكن الاوربيين لا ينظرون لها الا من عين التفوق عليها، بل ان هذه النظرة اعتبرت مسوغاً لا ستعمار هذه الشعوب واذلالها تحت شعار (تحضيرها) وإلحاقها بروح العصر الحديث الذي يعني مادية اوربا "(22) وقد عني هذا المنهج الانثروبولوجي عناية مركزة بالاساطير والرموز القديمة والتصورات الوثنية البدائية وانعكاسها في الادب.

وقد حاول بعض الباحثين تطبيق هذا المنهج في دراسة الأدب العربي وتمحّل في تفسير النصوص من اجل اخضاعها لهذا المنهج " ففي هذا البيت تظهر عبادة الشمس وفي ذاك عبادة الأم وفي غيرهما عبادة الثور الوحشي او عبادة الاعضاء الجنسية للمرأة وهكذا. وربما تكون خطورة هذا المنهج في مده وسحبه على الادب في العصر الإسلامي باعتبار ان الصور الوثنية قد انتقلت عبر الشعراء المخضرمين ثم صارت صوراً تقليدية دون ان يلحظ اصلها الأسطوري الوثني "(23).

نقد المنهج الإقليمي:

أما عامل البيئة في نظرية تين، فيقصد به " الوسط الجغرافي الذي ينشأ فيه الاديب مع امته ليشترك معها في العادات والاخلاق والروح الاجتماعية. ولاشك ان للمكان دوره في التأثير في الادب ولكن ينبغي النظر إلى قدرة الانسان على التأثر بما يقرأ من اشعار للأمم الاخرى فيتأثر بها ويحاكيها فتتميز اعماله بعض التميز عن غيره كما حدث في الشعر الحديث حيث مسخت شخصيات بعض الشعراء مسخاً نتيجة تأثرهم بشعراء الغرب مع انهم لم يغادروا مجتمعاتهم جسدياً بل غادروها روحياً ومع ذلك غرقوا في التغريب "(24) وفي هذا دلالة على ما وقع فيه تين من المبالغة في تقدير اثر البيئة في الادب معتقداً " أن الانسان ما هو الاّ أثر من آثار البيئة بمعناها الاجتماعي الواسع وانه لايكاد يفترق عن النبات والحيوان في انتفاء الحول وانعدام الارادة، وما يتصل بهذا من ان الفضيلة ليست إلى حد كبير الا نتاجاً لعملية تلقائية مثل الاحماض والقلويات"(25)، وكان لهذا المنهج اثره في انتشار النظرية الاقليمية التي تبناها بعض النقاد الباحثين في الادب العربي مثل امين الخولي وطه حسين وغيرهما.

وكان الاستعمار الاوربي يشجع ويساعد على التوجه الاقليمي في الحياة السياسية حيث قسم العالم العربي إلى اقطار بعضها تحت الحماية الانجليزية وبعضها الآخر تحت الحماية الفرنسية، وكان لذلك اثره في مظاهر الحياة الاخرى: الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والادبية "وهكذا اصبحت الدراسات الادبية توجه إلى دراسة كل قطر عربي وتتوفر على الحديث عن ظروفه الطبيعية والاجتماعية والسياسية، ليكون الادب حصيلة لهذه الظروف مجتمعة... والحق ان المنهج الاقليمي ربما انطبق على الاداب الاوربية اكثر من انطباقه على الادب الإسلامي او الادب العربي خاصة، لما في تلك الآداب من عوامل تشتت واختلاف في اكثر من مجال بينما عوامل الوحدة والتشابه هي العوامل الغالبة في الادب الإسلامي والعربي "(26)، وبشكل عام" فليس من الجائز ان يكون اختلاف الاقاليم سبباً لاختلاف اصول الأدب وقواعده ولاسبباً لتعويق الوحدة العامة التي تتجه اليها الآداب والفنون... وفحوى هذا كله للادب العربي في العصر الحاضر ان يكون أدباً واحداً كيفما تعددت الأقاليم لأن توحيد الأدب في اللغة الواحدة والى الوجهة الواحدة ومن ينبوع الثقافة الواحدة هو حقيقة اثبت من حقيقة الأقاليم"(27) وبهذا تتبين خطورة هذا المنهج من حيث اهماله لنفسية الاديب واخضاعه لحتمية البيئة وجبريتها وتجاوزه للعوامل الحضارية والدينية الواحدة بين البيئات المتعددة.

ويتصل بهذا خطر عامل الزمان في نظرية تين وما يتضمنه من اثر التقلبات السياسية والاجتماعية والثقافية "كما الحال في الفرق بين الزمان الذي نشأ فيه شعراء الجاهلية والزمان الذي عاشه الشعراء بعد مجيء الإسلام. ولكن من زاوية اخرى ينبغي الانتباه إلى ان الغربة الزمانية قائمة كذلك قيام المكانية اذ نجد بعض الشعراء الذين يتمسكون بالقديم ويتعبدونه بالقراءة ولا ينصرفون إلى حوادث زمانهم الفنية والاجتماعيةكشعراء عصرهم، فإنهم يظلون غرباء ويعيشون خارج زمانهم "(28). وهكذا لم يكن تين موفقاً كل التوفيق في نظريته القائمة على العوامل الثلاثة اذ لم تكن لديه الموهبة الادبية الصافية ولم يستطع ان يتفهم الجليل والرائع في الادب " ولم يكن يستطيع أن يفهم أن سر الادب انما يختبيء في الكلمات المتلألئة المضيئة. أو هو كانت لديه نواة هذا الفهم ولكنه لم ينمها ولم يفسح لها المجال للظهور بما اتبع من نظرية صارمة في نقده "(29) كانت سبباً في فشل النظريات والمناهج المتفرعة عنها والمتأثرة بها، والمنضوية جميعها تحت شعار المنهج الاجتماعي في النقد الادبي متذرعة بما قرره (علم الاجتماع) من قواعد ونتائج اصطبغت بصبغة العلم والموضوعية.

والحق ان هذا العلم كغيره من العلوم الانسانية لم يكن يقينياً في قواعده ونتائجه ولم يخلُ من اهداف ســياسـية وعنصـرية وطبقـية، فهــو" علـم قــائم علــى اختلافــات حضــارية فــي الفهــم لطـبيعة الحــركة الاجتمــاعية للانســان وبالتالــي فـان اخضـاع الادب وتفســيره علــى ضــوء قواعد هذا العلم وحده فيه تضييق لدائرة الفهم الادبي ومصادرة لقيمة العمل الفني نفسه... والملاحظ على الدراسات الادبية التي خضعت لعلم الاجتماع واطلق عليها بعلم الاجتماع الادبي انها تحتشد بالحديث عن الانتاج والسوق والبيع والشراء والجمهور وسوسيولوجية القراء وهكذا.

وقد ضاع العمل الادبي نفسه، والجدير بالدارس الادبي ان يجعل العمل الادبي نصب عينيه مستعيناً بالعلوم الاخرى لفهمه ما وسعته هذه الاستعانة ولا يكون هو والعمل الذي بين يديه وسيلة لتطبيق نظريات خارجة عن العمل نفسه "(30) ولا ضير في المنهج الاجتماعي اذا استخدم "بالحدود التي تفهم الصلة بين الاديب ومجتمعه وتستعين بفهم المجتمع وتياراته على فهم الظاهرة الادبية ولكنه حين يشتط ويتعسف ويصبح وسيلة دعائية سياسية او حزبية ويقسر الادب على ان يكون صدى لعملية الانتاج والقوى الاقتصادية فانه يضر بالادب والنقد وينتهي بهما إلى (اكليشهات) تقال في نقد كل اديب فيفقد النقد روعته واصالته وفنيته "(31).

نقد المنهج الثقافي:

ولعل اهم ما يستعين به الناقد من اثر المجتمع في دراسة العمل الادبي هو الجانب الثقافي الغالب على ذلك المجتمع في مرحلة من مراحل التاريخ، فلهذا العنصر الثقافي اهميته الكبيرة في طبع الاديب بطابعه وتلوين فنه وتوجيهه بحيث يمكننا ان نعرف خصائص ادبه من خلال خصائص تلك الثقافة التي طبعت شخصيته وفكره منذ نشأته وتعامله مع مجتمعه الذي هو خلاصة تلك الثقافة التي اصبحت منهجاً لدراسة الادب فيما سمي بنظرية الثقافات التي جرى تطبيقها على دراسة الادب العربي تطبيقاً معيباً لتركيزه على المؤثرات الخارجية في الادب العربي وتضخيمها على حساب القيم الذاتية النابعة من حضارة الامة وعقيدتها الاسلامية. ونجد مصداق هذا التطبيق المنحرف لدى الدكتور طه حسين في دراسة البيان العربي من الجاحظ إلى عبد القاهر في مقدمته لكتاب (نقد النثر) المنسوب لقدامة بن جعفر حيث راح الدكتور "يضفي على اثر الثقافة الهلينية اليونانية هالة من السحر ويضخم من تشبع الكتّاب والشعراء والنقاد والبلاغيين بها وينتهي إلى النتيجة التي رسمها مسبقاً او قل رسمت له وهي ان الثقافة اليونانية قد طبعت العصر العباسي كله بطابعها وتركت آثارها واضحة على اغلب الادباء "(32)، وبهذا الاسلوب يُغفل اثر الثقافة الاسلامية في ادب المجتمع الإسلامي ويتخذ بديلاً عنها ثقافة اليونان الوثنية جرياً على منهج رسمه الغرب الاوربي لمستشرقيه وتلامذتهم بأن يطبعوا الشرق الإسلامي بطابع الغرب وان يردّوا كل فضل ومزية فيه إلى الاصل الاوربي المبدع! ولو وجه هذا المنهج "لدراسة اثر الإسلام وكتابه الاكبر في صياغة العقل الإسلامي والادب الإسلامي لوجدنا آثاراً دراسية غير التي رأينا ولرأينا نتائج غير النتائج التي رأينا خاصة على ضوء منهج النظرية الثقافية التي تتسق في كثير من خطوطها مع وجهة النظر الاسلامية في رصد الروح الحضارية الاسلامية في كل ما ينتج في المجتمع الإسلامي من فكر وادب وفن وعلم"(33) وإن قصّر العديد من الدراسات في الميدان التطبيقي لهذا المنهج حيث عني بالجانب العقلي واثره في الادب واهملت الناحية النفسية والشخصية لدى الاديب المبدع وانتهى الامر إلى ان يساق الادباء كلهم في طريق واحد تحت تأثير الثقافة الموحدة دون اهتمام بالاثر الفردي في التعامل مع تلك الثقافة وتطويعها لاسلوب الاديب الخاص وقدراته الفنية المتميزة. وهذا الاهمال للجانب الفني من العمل الادبي هو شأن معظم المناهج النقدية(العلمية) التي يصعب بل يستحيل تحقيقها في مجال الادب لانها تقتضي تحكيم منهج من ميدان خاص بمنهج من ميدان آخر.

نقد المنهج النفسي:

وتتجلى صعوبات هذا التحكيم على الصعيدين النظري والتطبيقي فيما سمي بالنقد النفسي او المنهج النفساني في نقد الأدب، اذ" ان النقاد النفسيين قلما استطاعوا ان يهضموا أو يتمثلوا السيكولوجيا بنحو ذكي، ومن ثم فإن الباحثين ذوي المعرفة المتخصصة قلما اتجهوا إلى التعامل النقدي مع النص بحس فني، بل اتجهوا بحسهم العلمي الذي ينهى عن التفاعل مع النص بما انه يتطلب الباحث الادبي لا العالم"(34) ولذلك تحولت النصوص الادبية بين ايديهم إلى وثائق نفسية تعنى باقتناص السمات العصابية لأصحاب هذه النصوص بعد ان يتحولوا إلى مجموعة من المرضى الخاضعين لنظرة سوداوية تحملها الاتجاهات التحليلية في ذهابها إلى ان العصاب وليس الاستواء هو الطابع الغالب للبشرية وان الفرق بين العصابي والسوي من الناس ليس اكثر من اختلاف بالدرجة لا بالنوع.

وعلى هذا فإن عملية الربط بين النص وكاتبه – في هذا الاتجاه – لاتتجاوز اظهار السمات العصابية للكاتب (35) اذ ان "المحلل النفسي لايهمه في النص جانبه الادبي وإنما هو يبحث عن أمور التحليل فقط. فهو اذاً محلل وليس بناقد ادبي، ولا أدلّ على ذلك من انه قد يقف الوقفة الطويلة عند اثر أدبي لايستحق الاهتمام يمرّ به الناقد الأدبي مرّ الكرام إن لم يفضح ضعفه "(36) ومن ثم تستوي الاعمال الفنية جيدة ورديئة من حيث دلالتها النفسية في إطار المنهج النفسي الذي يُعنى بعملية الابداع أو شخصية الاديب أو نفسية المتلقي ولكنه يظل غير قريب من الاثر الفني نفسه، بل يتخذ النتاج الأدبي والفني وسيلة لغاية اخرى بعد أن يخضعه إلى قواعد وقوانين علم النفس أو العلوم الطبيعية والبيولوجية (37). والحق أن عدم الحياد بفرض الحقائق الخارجية على الادب يشكل خطورة على طبيعة الادب وسرّ تكوينه وطريقة إحساس الاديب بعمله.

وعملية التفسير النفسي ليست عملية آلية يقدر عليها كل ناقد بمجرد أن يعرف ما عقدة أوديب مثلاً أو ما مركب أورست. وان العناصر السيكولوجية ليس لها إلاّ دخل جزئي في الأثر الادبي، ومما ينتقص تذوقنا للأدب مغالاتنا في اعتماد الاصداء النفسية حتى تصبح اكثر إيغالاً في الحقيقة من سائر عناصر الفن (38)، ولهذا يواجه منهج التحليل النفسي للأدب انتقادات كثيرة تكشف عن آثاره السلبية في ميدان النقد "ذلك أن دراسة عملية معقدة غامضة كعملية الابداع الفني بوسائل تجريدية وفرضيات تخمينية يكون مآلها التعقيد والغموض ايضاً. ثم إن هذا المنهج سلب أهم حق للأعمال الادبية والفنية وهو الحق الجمالي والاجتماعي حين حصر اهتمامه في دراسة شخصيات الفنانين على حساب الاثر الفني، فكانت المعالجة في النهاية معالجة كلينيكية أو عيادية لأن الاساس الذي انطلق منه اساس طبي "(39). والأنكى من هذا أن ترتكز الدراسات النفسية على الشخصيات الشاذة والمصابة بالأمراض النفسية والعقد "ومن عجب أنها تعترف أن هذا المنهج لايصلح لدراسة الأسوياء من الشعراء والفنانين. ووراء هذا ما وراءه من اعتبار هؤلاء الشاذين قدوة الفن وقبلة المبدعين.

ويحق لنا هنا ان نتساءل عن هذا العلم الذي لايصلح إلاّ للحالات (العيادية) وتضيق فروعه وقوانينه عن تفسير الاستقامة والاستواء في الطبيعة البشرية"(40)، وأساس هذا الانحياز إلى الحالات الشاذة هو ما رآه فرويد أن الفنان شخص عصابي يمارس احلام اليقظة معتمداً على خيالاته العائدة إلى تجارب الطفولة وعقدها الجنسية المكبوتة في اللاوعي ويتخذ هذا الفنان من الابداع وسيلة لحماية نفسه من الانهيار النفسي سالكاً طريق التسامي الاخلاقي ليكتسب عمله الفني شرعيته الاجتماعية، وعلى هذا فمن وظيفة النقد الادبي أن يقف على مكبوتات الاديب وصور تجليها في عمله الفني وذلك عن طريق التحليل النفسي(41). ولكن آراء فرويد في هذا المجال لم تكن صحيحة صحة مطلقة ولذلك لم يسر تلامذته على نهجه تماماً "بل ذهب بعضهم إلى مخالفته صراحة ففي سنة 1908 ظهر كتاب لتلميذه اوتورانك الذي تناول مسألة الابداع الفني مؤكداً ان الفنان له نشاط معين وهو ليس بحالم ولا عصابي ونشاطه هذا يبعد به عن أن يكون مريضاً مرضاً نفسياً مثلما ظن فرويد. فالمريض او العصابي يؤثر العزلة باعتبارها تهرباً من مواجهة الواقع بينما نجد الاديب والفنان كليهما يرغبان في الاندماج بمحيطهما الاجتماعي عن طريق النتاج الادبي والفني، ساعيين فوق ذلك إلى احراز النجاح والتفوق وكل ابداع أدبي أوفني في رأي اوتورانك يصاحبه الجهد الذهني وتصاحبه المعاناة والعصابي لا يستطيع ابتكار الاعمال الفنية الخالدة التي تحتاج إلى مثل هذا "(42)، وخالف يونج آراء استاذه فرويد ايضاً فرأى ان الفنان " ليس امرءاً مريض الاعصاب بل هو في الحقيقة بكونه فناناً اهم بكثير من المريض في اعصابه.

بل ان يونج يعلي من شأن الشاعر عرضاً في مقالته (السيكولوجيا والشعر) التي نشرت في مجلة (فترة الانتقال) حين يقول انه انسان جماعي، انه الحامل المشكّل للنفس الانسانية الحيوية لا شعورياً، ومع هذه الفكرة تتمشى فكرة اخرى وهي ان الفن في الجملة فعالية مستقلة ذاتياً لا نعرف عن اصلها شيئاً أي هو تعبير يعيا على براعة العلم تفسيره، وكل ما يستطيعه التحليل النفسي ان يدرس المقدمات ويصف عملية الخلق وصفاً دون ان يفسرها "(43). والحق ان "فرويد نفسه يعترف بأن التحليل لا يستطيع أن يقول الكلمة الاكيدة إزاء نصوص الفن والادب وازاء عملية الخلق الادبي وانه يلقي السلاح ازاء المواهب الضخمة "(44) وقد عدّ الادباء الكبار محللين نفسيين قبل وجود التحليل النفسي. وصرح بأنه يفيد منهم في علمه ونظريته وانه منهم بموقف التلميذ من استاذه. وفي هذا الشأن يؤكد فرويد تفوق الشعراء المبدعين بقوله: انهم معلمونا في معرفة النفس لانهم ينهلون من ينابيع لم نتوصل بعد إلى تمهيدها امام العلم (45). ورغم هذا الاحتراس فقد وقع فرويد في مطب المبالغة في تقدير اثر اللاشعور والدافع الجنسي في الفن إلى درجة دفعت بألمع تلاميذه إلى مخالفته "فهذا الفرد آدلر صاحب مدرسة علم النفس الفردي يخالف استاذه فرويد في ان تكون الغريزة الجنسية السبب الوحيد لظهور الامراض العصابية والباعث الاول على الفن. ويرى ان الشعور بالنقص هو السبب الرئيسي في نشأة العصاب وان الباعث الاساسي على الفن هو غريزة حب الظهور او حب السيطرة والتملك.

على ان آدلر مع هذا لم يتعمق السياق الاجتماعي بتناقضاته وبقي عنده محصوراً في غريزة حب السيطرة والظهور والتعويض والرغبات اللاشعورية والطابع البيولوجي الوراثي. ومن هنا لم يُحدث اهتمامه بالجانب الاجتماعي انقلاباً في حركة التحليل النفسي"(46). وكذلك كان يونج "يأخذ على فرويد مبالغته في ان تكون الطبيعة الجنسية العامل المطلق في اللبيدو، وشعر ان تفسيره للاحلام والرمز كان ضعيفاً جداً "(47) فاتجه إلى القول بنظريته المعروفة في اللاوعي الجماعي والنماذج العليا والتي انتقدها ستانلي هايمن بقوله: "ان الطبيعة الجماعية التقريرية لسيكولوجية يونج هي اعظم شيء فائدة للنقد الادبي ولكنها ايضاً تتضمن أعظم الاخطار عليه. اعني ما فيها من ميل لإعلاء شأن اللاعقلانية والتصوف وذاكرة الجنس، أي تلك الاشياء التي جعلت يونج جذاباً لدى المفكرين النازيين والفاشيين "(48)، كما انتقدت مود بودكين نظريته في (النماذج العليا) فقالت:"منطوق نظرية يونج يصرح مؤكداً ان هذه النماذج تورث في انسجة الدماغ. ولكن ليس لدينا هنا أي برهان على هذا التقدير، أما يونج نفسه فيعتقد انه وجد البرهان على الانبعاث التلقائي لهذه النماذج القديمة في الاحلام والاوهام عند افراد لم يجدوا طريقهم إلى المادة الثقافية التي تتجسم فيها هذه النماذج. غير انه من العسير تقويم هذا البرهان وبخاصة اذا تذكرنا ان كثيراً من المادة القديمة يتشكل وينبعث بصورة مدهشة في حالات الغيبوبة فاذا رددته إلى اصوله وجدته انطباعات حسية حدثت في حياة هذا الفرد او ذاك ثم نسيها "(49). وهكذا بقيت آراء فرويد بين أخذ وردّ من اتباعه وخصومه وأصبح " لدى كل مذهب من مذاهب علم النفس الحديثة مايقوله عن الأحوال النفسية التي ينشأ فيها الفن. اما الفرويديون فيعتقدون بقيام العلاقة بين الفن والمرض العصبي، واما اتباع يونج فقد وجدوا في الآثار الادبية صوراً عليا وأصداء لأساطير عريقة تتردد في حياة البشر. وقد الحق بهاتين النظريتين ما لايحصر من التعديلات والزيادات.

وقد شاعت الفكرة التي تقول ان الفنان مريض مصاب بالعصاب مختل الاتزان وان الفن نتاج جانبي لهذا المرض والاختلال وراجت تلك الفكرة كثيراً خلال المائة والخمسين سنة الماضية. ويبدو ان علم النفس الحديث قد مدها بالمسوغات "(50). والواقع ان هذا العلم يواجه مشاكل كبيرة تتعلق بمصداقية بعض النتائج المقررة فيه والتي وصفت بأنها علمية، والحق انها لم تكن علمية يقينية " خاصة ذلك الاتجاه الذي يضخم من اثر الغريزة الجنسية ويعد عنصر اللاشعور في النفس الانسانية يشكل تسعة اعشار النفس الانسانية، بينما لا يشكل الشعور او العقل الا عشراً وبهذا تخضع النفس الانسانية إلى نوع من الجبرية او الحتمية بما يقربها من السلوك الحيواني غير المسؤول لان الانسان – والحال هذه – مسوق او مجبر بدافع من هذه الغريزة حسب ما تقرره النظرية الفرويدية "(51) التي هي في موضع ردّ من قبل علماء نفس آخرين "وربما تعرضت إلى نقض تام فيما يلي من الأيام.

ومن المعروف أن ما قيل عنه انه (حقائق) علمية في ميدان النفس الإنساني، كان وراءه (هوى) الإنسان وميوله وأغراضه، وهذا شأن ما سمي بالعلوم الانسانية كلها وهي العلوم التي لم ترق إلى مستوى العلوم البحتة في مصداقيتها وإلزام البشر في الأخذ بها "(52) والذي نطمئن إليه "هو أن النفس الانسانية أعم وأشمل وأضخم من علم النفس ومما توصل إليه حتى الآن، بل من المؤسف أن الوجهة التي سار عليها هذا العلم كانت وجهة في غير الاتجاه الصحيح، وجهة تبتعد بهذه النفس عن بارئها ومنشئها من جهة وعن حقيقته التكوينية من جهة أخرى "(53) ورغم ذلك فقد" فهم بعضهم أن علم النفس قد أحاط بالنفس الانسانية خبراً من جميع جهاتها وان فروضه وتعليلاته قد صارت حقائق مسلماً بها ويمكن تطبيقها على كل شخصية فردية، وهذا وهم كبير.

كما أن بعضهم لم يتنبه إلى أن عمل الاديب غالباً مضاد في طريقته لعمل المحلل النفسي، فالمحلل النفسي يميل لتحليل الشخصية إلى عناصر متفرقة ليسهل عليه فهمها وتحليلها، والأديب ميال إلى تركيب العناصر المفردة ليكوّن منها شخصية،والشخصية دائماً اكبر من مجموعة العناصر المفردة المكونة لها لما يقع بين هذه العناصر من التفاعل ولأن المحلل النفسي لا يستطيع أطلاقاً أن يصل إلى جميع العناصر المكونة للشخصية... فالاديب يدرك الشخصية الانسانية كلاً مجتمعاً لا تفاريق مجزأة وتنطبع في حسه وحدة تتصرف بكامل قواها في كل حركة من حركاتها. والاعتماد على التحليل النفسي وحده يخلق مضحكات في بعض الاحيان لانه يجرد الشخصيات من اللحم والدم ويحيلها افكاراً وعقداً "(54).

ولهذا فان التحليل النفسي للادب ليس مجرد تطبيق للمنهج الطبي وانما ينبغي ان يكون بمثابة إضاءة للمنافذ نحو فهم الاعمال الادبية وتوسيع دائرة الاتصال بها. ففهم النص الادبي يجب ان يتم على انه اثر من آثار الادب وليس مجموعة من الاعراض المرضية حتى وان كانت هذه الاعراض تشكل العصاب أو النرجسية ذلك ان الفنان "ككل شخص آخر قد يعاني من حالة مرضية وقد يتألم بسبب أو بغيره، لكنه ليس مجنوناً. حتى عندما يكون الفنان عصابياً لايكون لعصابه أي دخل في قدرته على الابداع الفني لأنه حين يبدع يكون في حالة من الصحة واليقظة النفسية الواعية بكل ما في الواقع من حقيقة "(55) بل يكون في حالة من التوازن والهدوء لايستطيع الانسان العادي الوصول اليها كما قرر ذلك ريتشاردز متجنباً ما وقع فيه السابقون من اقطاب التحليل النفسي للادب "بإشارته إلى حرص الفنان على تحقيق التوازن بين دوافعه هو ودوافع القاريء الممكنة أو المحتملة وبغير هذا التوازن يتعذّر التوصيل مثلما يتعذر التفاهم بين اثنين يتكلمان لغتين مختلفتين.

ويؤكد ريتشاردز أن المهم في عملية التوصيل هو قدرة المبدع على استرجاع الحالة الشعورية الخاصة بالتجربة التي يريد التعبير عنها. ويقظة الشعور هي التي تساعده على استعادة الحالة الشعورية للتعبير عنها بقوة. اي ان الانسان العادي لايستطيع استعادة تجربته مع المحافظة على توازنه وهدوئه أما الفنان او الاديب فإنه قادر على ذلك لما تتسم به شخصيته من توازن "(56) وبناء على هذا فقد حذر ريتشاردز من الاعتماد الكلي على العنصر النفسي في نقد العمل الادبي، وقد "جعل من اعمال فرويد عن دافنشي واعمال يونج عن غوتة وامثالهما، جعل منها اعمالاً تبدو وكأنها متسمة بالسخافة حقاً اذا عدت اعمالاً نقدية"(57). ورغم كل الانتقادات التي وجهت لآراء فرويد ويونج وغيرهما وما ادخله عليها العلماء والنقاد من تعديلات وبدائل، فقد شاعت تلك الآراء القديمة تحت شعار علم النفس الحديث وخضع لها العديد من الدراسات في ادبنا العربي "حتى كاد باحثون يصفون أي اديب أو فنان بأنه مريض نفسياً وإلاً لما اصبح أديباً او فناناً ويدعمون آراءهم بسلوك الادباء والفنانين عامة الذي يختلف عن سلوك الآخرين لأنهم في اكثر الاحيان لايعترفون بالتقاليد الاجتماعية السائدة حتى كان الناقد أو الباحث يتعسف ليبرهن ان هذا الاديب كان مبتلىً بمرض عصبي او بشعور بالنقص أو الدونية أو اضطهاد الذات أو التشفي والسعادة بتعذيب الآخرين "(58).

ومن امثلة هذه المبالغات في تطبيق التحليل النفسي على الادباء، ما وجدناه من دراسة النويهي لأبي نواس، اذ "تم تحوله النهائي إلى الفرويديين في كتابه الذي اصدره سنة1953 بعنوان (نفسية ابي نواس) حيث عمد إلى تحليل شخصية ذلك الشاعر الماجن على المنهج النفساني الحديث مرجحاً ان خصائص النفس ومظاهر السلوك التي استنبطها من اشعاره واخباره هي في جوهرها تفسيرات لرابطة الام "(59). وقد سلك العقاد مسلك النويهي في دراسته لأبي نواس أيضاً، ولكنه اختلف عنه باتخاذ النرجسية في التفسير، "مما يدل على أن علم النفس التحليلي لايقطع بشيء من ناحية ومن ناحية اخرى ليس لأبحاثه في الادب نصيب كبير من الاقناع. ولعل هذا هو ما حدا بطه حسين إلى ان يعلن أسفه لما فعل بالشاعر المسكين وأنه آخذ الاثنين – العقاد والنويهي – بالحساب العسير "(60) وهكذا يبدو الانسياق وراء التحليل النفسي محاطاً بالمزالق حين يفتقد الضوابط " واذا كان هذا التحليل سلاحاً من اسلحة النقد الادبي الحديث فان ما يجب توخيه هو الحذر عند اللجوء اليه لأن الانسان ليس من السهل ان نوجزه في مجموعة من النوازع. لذا فإن الذين بالغوا في تطبيقه من امثال العقاد والنويهي وغيرهما حوّلوا دراسة الادب إلى دراسة للغدد والجينات وتركوا الادب نفسه على الهامش "(61). واذا استحال النقد الادبي إلى دراسة تحليلية نفسية، "فلا تبين قيمة الجودة الفنية الكاملة لأن المجال لايتسع للانتباه اليها وفرزها وتقدير قيمتها – كما في المنهج الفني – وذلك خطر غير مباشر وقد لايلتفت اليه في أول الامر ولكنه يؤدي إلى تواري القيم الفنية وانغمارها في لجة التحليلات النفسية "(62).

ويتفاقم هذا الخطر النقدي حين يتناول الناقد عملاً ادبياً استطاع صاحبه ان يفيد من السيكولوجيا في ابداعه اذ "ان كثافة ثقافته تدفعه إلى اصطناع مواقف واحداث وشخصيات تمتلك ناحية القاريء عن طريق اثارة دوافعه النفسية. إن اسلوب صياغة الفقرة وانتقاء الصورة وتكثيف الرمز والممكنات الايحائية جميعاً، من الممكن أن تحكم بمهارة الكاتب المبدع وفقاً لشخصيته الثقافية لا شخصيته السيكولوجية ومن هنا نقول: إن هذه الصياغة ليست مهارة منعكسة من خلال الشخصية بقدر ما هي منعكسة من خلال الذهن، ومن ثم فإن الناقد حينما ينهض بتقويم النص على انه انعكاس لسلوك سيكولوجي تكون افادته من المعطى السيكولوجي ضئيلة الصلة بالنص على عكس المبدع فيما افاد من العنصر المذكور فعلاً.

ويترتب على ذلك ان الناقد عبر اعتماده معلومات نفسية منظمة يكون قد جار على النص اولاً ويكون قد قدم معلومات تدلنا على القدرات الفنية لكنه لم يستطع ان يدلنا على مصادرها والعلاقة السببية بينها وبين مادتها. إنه – من ثم – فصل بين السلوك وبين الفن دون ان يحس بهذا الفصل من خلال الربط غير الذكي بينهما"(63). وعلى هذا فإن النصوص لاتعدّ في الحالات جميعاً (وثيقة) مفصحة عن نفسية كاتبها بقدر ماتعد عملاً موضوعياً ينفصم فيه الشخص عن نتاجه الفني.

فقد نقرأ قصيدة مثلاً تتحدث عن الشجاعة إلاّ ان صاحبها موسوم بالجبن وقد يتحدث الخطيب عن اهمية الصدق إلاّ انه يمارس الكذب..الخ مما يعني ان الباحث ليس بمقدوره أن يستخلص من النص المدروس حقيقة السلوك الذي يصدر عن كاتبه مادام النص غير مفصح بالضرورة عن كونه وثيقة حقيقية عن نفسية صاحبه "(64)، فمن المعلوم أن للنص قوانينه الذاتية الخاصة التي لاتخضع بالضرورة للجانب النفسي او الشخصي فضلاً عن ان كثيراً من النصوص لايمكن للباحث دراستها في ضوء الصلة بمبدعها "وهذا من نحو دراسته للنصوص القرآنية الكريمة مثلاً أو دراسته للنصوص الواردة عن أهل البيت (ع) نظراً لتنزه الله تعالى عن ذلك وعصمة اهل البيت عن الخطأ وسائر الفعاليات التي تصدر عن البشر العادي.

إنه من الممكن – فيما يتصل بالنصوص الواردة عن اهل البيت (ع) – أن يصل الباحث بينها وبين نفسيتهم(ع) من حيث استخلاص السلوك السوي الصادر عنهم وانعكاساته على النص، إلاّ ان ذلك يظل في مجالات محددة بخاصة اذا عرفنا أن وصل النص بكاتبه يقترن – في غالبية الدراسات– باستخلاص الظواهر السلبية، وهم عليهم السلام معصومون من ذلك دون أدنى شك"(65) لذلك فان النقد النفسي لهذه النصوص ينحصر في عقد الصلة بين النص وبين المتلقي.

وبغض النظر عن هذا الامر فان هناك صعوبة رصد العلاقة اساساً بين النصوص وبين مبدعيها اذ ان العمليات النفسية من التشابك لدرجة ان الاختصاصيين يمكن ان يفشلوا في التقاط الخيط الرابط بين الظاهرة وكاتبها، فكيف بالناقد وهو لايملك تخصصاً كافياً مما يجعل استخلاصه هشاً لاغناء فيه (66).

ويتضح هذا الفشل النقدي في معظم الدراسات النفسية التي تناولت الادب العربي، فرغم انها تشكل اضافات فكرية إلى تراثنا الإنساني " إلاّ انها في مجموعها – والحق يقال – لاتزيد معرفتنا بالنص الأدبي ولاتقفنا على سرّ تكوينه فضلاً عن انها تجعل من ذلك النص مجرد وثيقة نفسية لامكان فيها لذكر القيم الجمالية الخالصة"(67). وبالرغم من ان "بعض الاتجاه الجشطالتي استطاع ان يقدم جانباً من التفسير والتقويم الجماليين بالنسبة لمبنى النص وقيمه الصوتية والتراكيب البنائية بنحو عام، بالرغم من ذلك فإن المدرسة النفسية بعامة تظل محلّلة ومفسرة ولن تملك التقويم الجمالي، إنها تستطيع فقط ان تدلنا على القدرات الفنية ولكنها لن تستطيع ان تدلنا على مصادرها"(68)

ومع كل ماتقدم من المؤآخذات فإن منهج النقد الإسلامي لايعادي علم النفس الحديث أو الطب العقلي (النفسي) "ولكنه يتحفظ ازاء بعض شطحاته وينكر بالضرورة ما يتعارض منه وقيم الإسلام وتصوراته، وهي نقائص في علم النفس لانتوهمها او ندعيها ولكنها نقائص أقرّ بها الكثيرون من علماء النفس في حياة فرويد وبعده، وهي لاتخرج عن كونها وجهات نظر قد تخطئ وقد تصيب ولاترقى إلى مستوى الحقائق العلمية المؤكدة ولذلك فلا يظنن ظان اننا ننتهك الاصول العلمية أو نفتري على النظريات الموثقة ولنذكر دائماً ان ماتم انجازه في مجال النفس الانسانية يعتبر حيزاً ضئيلاً لايفي بالغرض المطلوب "(69) وأن تطبيق نتائج هذا العلم في دراسة الأدب خلق كثيراً من المعوّقات لما سمّي بالمنهج النفسي في النقد، رغم ضرورة الملاحظة النفسية والحساسية الشعورية في الأدب، اللتين كثيراً ما تسبقان وتفوقان (علم النفس) المحدود في كشف عوالم النفس والاهتداء إلى السمات والطبائع والنماذج البشرية.

لذلك ينبغي التمييز بين صحة الاعتماد على الملاحظة النفسية في تقويم الادب، وبين خطأ الركون في هذا التقويم إلى الاتجاهات النفسية المعروفة والمنضوية تحت شعار المنهج النفسي في النقد الادبي بعد ما عرفنا ما ينطوي عليه هذا المنهج من نقائص وأخطاء تضرّ بالعمل الادبي والنقدي على حد سواء.

نقد المنهج الفني:

ولعل اقرب المناهج النقدية إلى روح الادب والنقد الادبي هو المنهج الفني او الجمالي الذي يواجه العمل الادبي بالقواعد والاصول الفنية المباشرة وينظر في نوعه الفني وقيمه الشعورية والتعبيرية ومدى انطباقها على الاصول الفنية لهذا النوع وقد يلخص خصائص الادب الفنية من خلال اعماله " ويعتمد هذا المنهج أولاّ على التأثر الذاتي للناقد ولكنه يعتمد ثانية على عناصر موضوعية وعلى اصول فنية لها حظ من الاستقرار فهو منهج ذاتي موضوعي وهو اقرب المناهج إلى طبيعة الادب وطبيعة الفنون على وجه العموم "(70).

وان الجانب التأثري من هذا المنهج هو اقدم طرائق النقد التي عرفها الانسان منذ ان وعى وجوده إذ كان التأثر مدار مواقفه من الفنون عامة، ولكن "محض التأثرية أي ابداء الاستجابة الذاتية الخالصة وإحلالها محل التقدير النقدي، ليس على وجه اليقين طريقة نقدية ذات قيمة... واذا استخدم الناقد استجابته للأثر الادبي استخداماً صحيحاً فهل هناك مجال لأن نعد ذلك الاستخدام وسيلة تعينه على تقويمه نقدياً؟"(71). هذا التساؤل يدفع بالنقد التأثري خطوة إلى الامام في طريق المنهج الفني القائم على الادراك الجمالي لبعض الاصول والقواعد الفنية الضرورية في تقويم الاثر الادبي من حيث قيمه الشعورية والتعبيرية بعد ان يكون تأثر الناقد مسبوقاً بذوق فني يعتمد على الموهبة اللدنية والتجارب الشعورية الذاتية والاطلاع الواسع على مأثور الادب والنقد، ولابد له من خبرة لغوية وفنية وموهبة خاصة في تطبيق القواعد النظرية على النموذج، فلهذه الموهبة دورها الفاعل في ابعاد الناقد عن الخطأ في التطبيق أو الانحراف عن الأصول الفنية عند مواجهة النموذج.

ولابد لهذا الناقد كذلك من فسحة نفسية تسمح له بتملي مختلف التجارب الشعورية ولو لم تكن من مذهبه الخاص في الشعور، "وقبل كل شيء لابد من مرونة على تقبل الانماط الجديدة التي قد لاتكون لها نظائر يقاس عليها ويكون من شأنها ان تبدل في القواعد المقررة والاصول المعروفة لتوسع آفاقها وتضيف اليها. وهذا ما عبرنا عنه بالفسحة النفسية الشعورية. هذه المرونة هي التي كانت تنقص كثيرين من النقاد العرب في العصر القديم فتقف بهم عند النماذج المأثورة من انماط الشعور والتعبير، فما كان متفقاً معها فهو جيد مقبول وما شذ عنها فهو معيب مرفوض... وهذا هو الخطأ في منهج النقد ذاته. وقد وقع فيه حتى الذين شاؤوا التحرر منه كالآمدي وأبي الحسن الجرجاني ذلك انهم لم يملكوا التخلص من اذواقهم الخاصة المتأثرة بالقديم تأثراً في الصميم "(72).

اما في العصر الحديث فلم يسلم هذا المنهج للأدب العربي حين تناوله الباحثون المعاصرون "فقد أصبح – في جانب كبير منه – حديثاً عن المذاهب الادبية الاوربية الحديثة. وصرت ترى الدراسات الادبية ذات المنهج الفني تدرس لك الكلاسيكية أو الرمزية أو الرومانسية أو السريالية وأثرها ومظاهرها في الادب العربي، أو تمثلها في هذا الشاعر أو ذاك الاديب سواء في العصور القديمة أو العصر الحديث. علماً بأن هذه المذاهب أوربية المنشأ والتكوين بمعنى انها مرتبطة بتطور الادب الاوربي القديم والحديث وعاكسة لظروف المجتمعات الاوربية ولغاتها وخصائص فنونها، فضلاً عن ذلك فإنها نشأت في فترات زمنية ليس بينها وبين الادب العربي القديم أو الحديث صلة وارتباط "(73) ويصل الانحراف بالمنهج الفني غايته القصوى في الاتجاهات النقدية التي تتعامل مع النص الأدبي تعاملاً جمالياً صرفاً "أي بما ان النص بنية مكتفية بذاتها، مغلقة لاتخترق نافذتها اية اضاءات خارجية من السيرة او البيئة.. الخ بحيث يحصر النقد تعامله مع اللغة الجمالية "(74) ويُعبر عن هذا النوع من النقد بثلاث كلمات أو اربع هي: شكلي، فني، جمالي. اسلوبي " صارت مصطلحات – او كالمصطلحات – للدلالة في اقل الدلالات على اضفاء الاهمية في النص الأدبي على الجانب الشكلي الخارجي وتهوين اهمية المحتوى.

نقد المنهج الشكلي:

فهنا ينصرف عمل الناقد إلى الشكل اولاً اذ الأدب كل الادب في الشكل "وغاية الادب في ذاته وليس له غاية تعليمية اجتماعية اخلاقية اصلاحية، وينصرف عمل الناقد في هذه الحال إلى الشكل والى الشكل وحده. وفي الشكل اللغة والبناء العام والصورة والموسيقى وما اشتق من ذلك واتصل بسبب "(75)، وهذا المنهج الشكلي هو ما انتهجه معظم النقد في العصر الحديث " حيث نجد ان احدث الاتجاهات المعاصرة واكثرها فاعلية في الساحة الادبية متمثلة بخاصة في مدرسة الشكلانية والنقد الجديد والبنيوية في غالبية اجنحتها، تتعامل مع الخصائص الداخلية للنص، والمسوّغ الذي ترتكن اليه هذه الاتجاهات هو أدبية الادب بصفة ان الادب يتميز عن اللغة العلمية والعادية بكونه لغة جمالية فيتعين التعامل جمالياً ايضاً "(76) دون الاهتمام بأي وظيفة للأدب غير المتعة الناجمة من جمال الشكل الادبي او ما سمي بالأدبية، "وفي الحقيقة لايمكن انكار دور الأدب في الحياة ونحن نعرف مثلاً أن رواية (كوخ العم توم) كانت احد مسببات الحرب بين الولايات الامريكية، كما ان رواية (عناقيد الغضب) فيما بعد احدثت ردود فعل اجتماعية عنيفة.

ولعل الفعالية القوية لتأثيرات الاعمال الادبية كانت الامور الحيوية التي انشغل بها افلاطون الذي نفى من جمهوريته كل الشعراء ماعدا الذين يهزجون بالترانيم للآلهة وبالمدائح للرجال المشهورين"(77). ومن وجهة النظر الاسلامية "ينبغي ان نضع في الاعتبار وسيلية اللغة الجمالية وليس غائيتها اي ان التناول الجمالي للنص ينبغي ان ينظر اليه من زاوية مدى نجاح اللغة الجمالية في الافصاح عن الرؤية الفكرية وترتيب دلالاتها (المعنى). أما الذهاب إلى أن المعنى منعزل عن النص أو ان النص لايهدف إلى نقل الرؤية أو المعنى أو أن المعنى ظاهرة نفعية تتقاطع مع النص او انه خرافة.. الخ فأمر لايتسق البتة – ليس مع التصور الإسلامي فحسب – بل مع الرؤية الانسانية بعامة وهو أمر قد تصدّى الأرضيون أنفسهم لإنكاره بل نجد حتى الجماليين أنفسهم قد انكر بعضهم هذا الاتجاه الشكلاني ومنهم الاتجاه التوليدي من البنيوية حيث ألمح إلى ضرورة البعد الدلالي بصفته رؤية العالم "(78) وهكذا يُنتقد المنهج الجمالي او الشكلي "باكتفائه في البحث في طبيعة الادب متجاهلاً وظيفته على الرغم من أن الثانية هي التي تضمن استمرار قيمة الاولى"(79) ولاينبغي التطرف بإحداهما على حساب الاخرى، كما اشار الى ذلك نورمان فورستر بقوله: "إنني اشعر بحرية اكثر في الهجوم على الهرطقة التي يميل اليها نقادنا الجماليون، تلك الهرطقة التي اسهم فيها على سبيل المثال ادجار آلان بو. والهرطقة الجمالية كالهرطقة التعليمية كلتاهما شيء رديء فكل منهما تجاهد في جعل الحقيقة الجزئية تقوم مقام الحقيقة الكلية، وكل منهما تميل إلى جذبنا بعيداً عن الأدب، اولاهما إلى مشكلات الاخلاق وأخراهما إلى مشكلات الجمال "(80) وبقوله ايضاً: "إن الناحية الجمالية أو الفلسفية للأدب ليست مشروعة فحسب وإنما تعتبر الهدف الذي لامفر منه بالنسبة للناقد الأدبي، وأعتقد ان أرسطو كان على حق في التفكير في الأدب الخيالي لا كفن يسبب السرور او المتعة فحسب وإنما كمحاكاة معقولة للحياة أي الفعل الإنساني والطبيعة الانسانية"(81) وكان بابيت يقول: "الجمال كما نعرفه في هذا العالم ليس كما يزعم السيد سبينجارن، مظهراً في الفراغ ولكن له أصوله الاجتماعية والسياسية بل والخلقية "(82)، وأخذ العديد من النقاد على المنهج الجمالي عجزه عن التمييز بين الانواع الادبية بسبب تركيزه على الجانب الشكلي من العمل الأدبي اذ يقوم النقد الشكلي بدراسة القصيدة كلها دونما اعتبار صحيح للأجناس الادبية التي تعتبر القصيدة مثلاً لواحد منها ومن ثم يفشل في التمييز بين الاجناس الادبية الرئيسية كالدراما والرواية والشعر الغنائي والملحمي(83) وبالاضافة إلى هذه الانتقادات الموجهة إلى الاتجاه الجمالي في النقد بوجه عام، فإن النقاد الجماليين يمكن شطرهم إلى نمطين، احدهما وهو الاتجاه المنتسب إلى البنيوية بخاصة لايعنى بالرؤية ولا بالدلالة بقدر مايعنى بكيفية اداء الدوال لوظائفها النحوية. والآخر يعنى بالخصائص الجمالية في نطاق تحقيقها للمعنى دون العناية بالرؤية. ويجمعهما طابع مشترك هو تناول النص من الزاوية الجمالية بغض النظر عن اية اضاءة خارجية تتصل بالكاتب والمتلقي والسياق الاجتماعي" (84). ومن الواضح أن الاتجاه البنيوي الأول لا يعير اهتماماً للمعنى بالاضافة الى عدم اهتمامه بالرؤية الفكرية اذ يحصر اهتمامه بالبنى أو الأنساق اللغوية داخل النص مما يؤدي الى عدم التفريق بين النصوص الجيدة والرديئة.

وأما الاتجاه الثاني فيبدو أقل مفارقة من الأول بمحاولته الوصول الى معنى النص من خلال كشفه عن خصائصه الجمالية كالتحام العناصر في البناء العضوي للنص والمؤدي الى تحقيق المعنى بغض النظر عن طبيعة الرؤية الفكرية إن كانت سوية أو منحرفة، وهكذا تتساوى النصوص الجيدة والرديئة في هذا الاتجاه أيضاً.

وعلى هذا فإن الاتجاه الجمالي الصرف في المقاربة النقدية ينطوي على جملة نقاط سلبية منها"تجاهله للرؤية أو تجاهله للمعنى، قصوره عن الاضاءة المطلوبة للكشف عن العناصر المساهمة في عملية الابداع من حيث صلتها – في حالات سياقية خاصة – بكاتب النص وببيئته الاجتماعية "(85).

نقد المنهج البنيوي:

مع إبعاد النص عن دلالاته الانسانية تتحول عملية النقد إلى عمل عابث، وهذا هو المميّز الكبير لمناهج النقد الحداثية المعاصرة التي نبتت جذورها في تربة العالم الغربي وتغذت من الفكر الفلسفي الغربي، وأَبين دليل على هذا الارتباط الحميم بين الحداثة النقدية وجذورها الفلسفية هو التحول الذي وقع في المنظومة المصطلحية للنقد الادبي في القرن العشرين اذ يمكن القول "إن المصطلحات التي يستخدمها النقاد مثل: الداخل والخارج، الشك واليقين، التأويل، الظاهراتية، الميتانقد، الميتالغة، اللغة الواصفة، الذات والموضوع، النصية، التناص، الهوة، الانتشار، الخطاب، المكتوب، المنطوق.. مأخوذة من حقل الفلسفة لاسابق عهد للناقد بها.

فقد كان المتداول مثلاً: المضمون، الشكل، الوحدة العضوية، المعادل الموضوعي، الذاتية، الموضوعية، المحاكاة، التقليد، الواقعية، الرمزية، السيرة الذاتية، التفسير الاجتماعي النفسي.." (86) بل اصبح من السهل ان يربط الدارس بين ما أقرته الفلسفة الغربية من آراء حول الحقيقة/ المعنى، وصراع الثنائيات، ثنائية الداخل / الخارج، اليقين / الشك، الذات / الموضوع، المادية / المثالية، وبين المقولات التي يقوم على أساسها خطاب نقد الحداثة في الغرب. وأهمها مقولة انفصال اللغة عن الاشياء بعد ان لم تعد اللغة – عند الحداثيين – مجرد وسيط بين الانسان وتجربته الابداعية تمثل الاشياء وتعبر عنها ليس غير، بل اصبحت اللغة مستقلة بذاتها معبرة عن نفسها، بل إن الاشياء وحتى الانسان نفسه، تخرج إلى الوجود من اللغة، كما"يقول هيدغر: (اللغة بيت الوجود في بيتها يقيم الانسان وهؤلاء الذين يفكرون بالكلمات ويخلقون بها هم حراس ذلك البيت وحراستهم تحقق الكشف عن الوجود). يعد هذا القول بمثابة الاعلان الرسمي لاستقلالية اللغة عن الاشياء وتأكيداً على مدى وفاء الفكر الغربي لماضيه، إذ بانفصال اللغة عن عالم الاشياء تغيب الحقيقة / المعنى من الواقع (الخارج) وتتحول إلى اللغة (الداخل) باعتبارها حاملة للحقيقة / المعنى في مستودعها"(87).

وإن الصراع القائم بين هذه الثنائية يعد بمثابة المدخل الرئيس إلى الفكر الفلسفي الغربي وأساس علاقته بمشاريع الحداثة النقدية في الغرب والتي تعد امتداداً للنقد الجديد في المدرستين الانجليزية والامريكية اذ كان النقاد الجدد ينظرون إلى النص الادبي بمعزل عما يحيط به من مؤثرات خارجية وقد اعتبروا النقد عملاً موضوعياً يجعل هدفه فحص النص الشعري والنظر إليه على انه كيان جديد مختلف عن كل مادة اولية يمكن أن تسهم في تكوينه وهذا هو ما طوره البنيويون فيما بعد واقاموا على اساسه نظرتهم إلى اللغة الشعرية والسياق الشعري الذي اهتم به من قبلُ الفيلسوف الجمالي كروتشه واتخذه اساساً في تحديد الشعري من غير الشعري والجميل من غير الجميل بغض النظر عن كلمات اللغة والفاظها المفردة (88). ويرى بعض الباحثين ان لفلسفة كانت أثرها كذلك في المنهج البنيوي من جانب بحثه عن الاساس الشامل اللازماني الذي ترتكز عليه مظاهر التجربة حيث اكّد البنيويون على وجود نسق اساسي ترتكز عليه كل المظاهر الخارجية وهو سابق على الانظمة البشرية بحيث تستند اليه تلك الانظمة زمانياً ومكانياً، أي ان هذا النسق قبلي بمعنى مشابه لما نجده عند كانت.

كما تدعو البنيوية إلى نوع من الثورة الكبرنيكية مماثل لما دعا اليه كانت اذ تؤكد أهمية العلاقات الداخلية والنسق الكافي في كل معرفة علمية وتسعى إلى تجاوز المظهر الذي تبدو عليه المعرفة من اجل النفاذ إلى تركيبها الباطن، وهي بدورها تستهدف أن تجعل من دراسة الانسان موضوعاً لعلم دقيق وتحاول ان تهتدي إلى السر الذي جعل العلوم الاخرى تسير في طريق العلم الراسخ لكي تطبقه على العلوم الانسانية والاجتماعية، وإن كان التركيز عند كانت ينصب على العلوم الرياضية والطبيعية على حين انه كان في حالة البنيويين ينصب على علوم اخرى أهمها علم اللغة.

لكن تطبيق النموذج اللغوي لديهم واجه مصاعب جمة كالتي نجدها عند ليفي شتراوس الذي انهض الانثروبولوجيا البنيوية على النموذج اللغوي محاولاً تطبيقه على مجتمعات بدائية لا تملك تاريخاً فعلياً مستنتجاً من ذلك ان البنية تكرر نفسها، اذ لا يمكن الاطمئنان الى صحة منهج شتراوس والتسليم بنتائجه التي لا يتحقق الوصول اليها اذا ما طبق هذا المنهج على المجتمعات المتطورة لأن تطبيق هذا المنهج ستعترضه مشكلات عديدة ناشئة عن التعارض الفعلي بين البنية والتاريخ(89). ومن الواضح ان البنيوية تتجاهل التاريخ تجاهلاً تاماً،" وقد يكون ذلك مقبولاً اذا تعلق الامر بالوصف القائم على التعامل مع الثوابت والسواكن اما في التعامل مع الظواهر ذات الطبيعة المتغيرة مع الزمن فلا"(90). وقد حاول بعض النقاد الماركسيين ترقيع البنيوية بإخفاء ما في ردائها من ثقوب. فانْ كان قد اخذ عليها إقصاء التاريخ واهمال البعد الاجتماعي للنص الادبي، فان البنيوية التكوينية (الماركسية) التي اسهم فيها كل من باختين والتوسير وغولدمان ولوكاتش وماشري، تسعى الى تلافي هذا النقص عن طريق الجمع بين النقد الماركسي والنقد الشكلي بالابقاء على اهتمامهم بالبنية اللغوية للأعمال الادبية مع عدم عزل هذه البنية عن الايديولوجيا التي يعدونها جزءاً لا يتجزأ من اللغة(91). وتأتي محاولات غولدمان في هذا المجال لتؤكد ان " أي بنية ثقافية أو أدبية لابد من ان تتخذ لها موقعاً في بنية اجتماعية وثقافية سائدة، ومن خلال هذا الموقع تنهض هذه البنية بدورها الوظيفي. وإما وظيفة البنية الادبية فتتلخص عنده في تقديم رؤية الكاتب أو الأديب للحياة.

ولكن هذه الرؤية لا يمكن ان تكون من اختراع الفرد أو ابتكاره وإنما هي رؤية تصوغها فئة اجتماعية يشكل الكاتب أو الأديب احد الأفراد المنضوين في صفوفها وتحت لوائها. وعلى الناقد الذي يريد دراسة الأعمال الادبية في حقبة ما ان يدرسها متجاوزاً بناءها الذاتي الى التكوين المعرفي الذي ينطلق منه الكاتب ويحدد المنظور الذي يتطلع منه الى العالم "(92). والحق ان تطبيق هذا المنهج يغدو أمراً صعباً بل مستحيلاً مع ما يتسم به من طابع شمولي او كلي وما يفرضه من حتمية بين شكل البنية الادبية والتكوين المعرفي لشريحة الكاتب الاجتماعية، "فكيف يمكن التثبت من صحة قراءتنا لكاتب معين؟ وما الذي يمكن فعله اذا تعذر على الباحث ان يعرف بوضوح السياق التاريخي المطلوب الذي يمكننا من معرفة التكوين المعرفي للكاتب وطبقته الاجتماعية؟ وكيف يمكن اجراء تحليل بنيوي تكويني لاعمال قليلة فردية هي كل ما تبقى من عصر سابق نجهل الكثير عنه "(93). وهكذا تتجدد مشكلة التحليل البنيوي في تجاوز الذات او الوعي الفردي من حيث هما مصدر المعنى وتحول بؤرة الاهتمام نحو النسق بالتركيز "على انظمة الشفرات النسقية التي تنزاح فيها الذات عن المركز، وعلى نحو لا تغدو معه للذات أي فاعلية في تشكيل النسق الذي تنتمي اليه، بل تغدو محض اداة او وسيط من وسائطه أو ادواته، ولذلك يرتبط مفهوم النسق ارتباطاً وثيقاً في البنيوية بمفهوم الذات المزاحة عن المركز "(94). واذا كان من المشروع تماماً دراسة الأنظمة اللغوية وأنظمة الصنائع والمؤسسات والمعتقدات بحد ذاتها وبصرف النظر مؤقتاً عن مشروطيتها وتاريخها فانه من غير المشروع استبدال دراسة الممارسة الانسانية في مجملها وفي تطورها بدراسة النتائج المتموضعة لهذه الممارسة الانسانية.

وينطلق هذا الاستبدال من أرضية فلسفية يتقرر فيها ان المقولة الاساسية في المنظور البنيوي ليست مقولة الكينونة بل مقولة العلاقة. والاطروحة المركزية للبنيوية تؤكد أسبقية العلاقة على الكينونة وأولية الكل على الاجزاء، فالعنصر لا معنى له ولا قوام إلا بعقدة العلاقات المكونة له ولا سبيل الى تعريف الوحدات إلاّ بعلاقاتها فهي أشكال لا جواهر (95). ورغم ذلك يؤكد رواد البنيوية انها ليست فلسفة لكنها طريقة في الرؤية ومنهج في معاينة الوجود "ولأنها كذلك تصبح ثالث حركات ثلاث في تاريخ الفكر الحديث يستحيل بعدها ان نرى العالم ونعاينه كما كان الفكر السابق علينا يرى العالم ويعاينه... مع البنيوية ومفاهيم التزامن والثنائيات الضدية والاصرار على ان العلاقات بين العلامات لا العلامات نفسها، هي التي تعني، اصبح محالاً ان نرى الوجود – الانسان والثقافة والطبيعة – كما كان يعاينه الذين سبقوا البنيوية "(96) وتظهر المبالغة وعدم الموضوعية في تعميم هذه الرؤية اذا فهمنا ان البنيوية في ميدان اللغة "قد اعادت فكرة (سجن النسق) من جديد اذ جعلت اللغة غاية في حد ذاتها بل ان الانسان يولد فيها، فهي بيت الوجود كما يقول هيدغر وان الانسان - كاتباً او حتى قارئاً- لا يملك الا انْ يستجيب لأنساقها الداخلية الثابتة فليس له الحق ان يأتي بشيء من عندياته، ليجد نفسه في سجن اللغة بعد ما فر من سجن القوى الاقتصادية الماركسية "(97) وفي ميدان النقد الادبي "لن يكون مشروع النقد البنيوي محض تحليل لعمل معين يكون الهدف منه اكتشاف معناه، بل على العكس من ذلك سيقوم البنيوي بتشريح العمل ليكشف بنيته. وعلى العكس من التحليل النحوي الذي من الممكن ان ترتبط الجملة فيه ببنية معينة في النسق النحوي، فإن النقد البنيوي لا يستطيع ربط أي عمل ببنية معينة في النسق الادبي طالما ليس ثمة بنية او نسق معرّف على نحو وافٍ.

وربما كان بمقدورنا ان نطلق على هذا الموقف تسمية (المعضلة البنيوية) التي تفسر السبب الذي دفع النقد البنيوي الى القيام بوظيفة ثنائية فهو أولاً يقوم بتحليل العمل الفني. ويسعى ثانياً الى اكتشاف البنى الادبية الكامنة او تعريفها"(98). ومع ذلك " لم يكتشف الى الآن او لم يُفهم الى الان ما المقصود بالبنى في الادب او ما المقصود ببنية الادب حقيقة، ولهذا السبب مازالت البنيوية في مراحلها الاولى في الادب على الرغم من بعض الانجازات الكبرى التي قدمت في هذا الحقل"(99) بل حتى في حقول المعرفة الاخرى، يشكك العديد من الباحثين والنقاد بإمكانات المنهج البنيوي ويرى بعضهم ان البنيوية تعيش حالة انقسام بين ما تعد به وبين ما انجزته او حققته "وفيما اذا تعلق الامر بعلم الاحياء او باللسانيات او بالادب فإن السؤال الذي يظل قائماً هو: هل بالامكان تحقيق كلية منظمة دون الاخذ بالاعتبار ما تهدف اليه او دون افتراض معرفة ذلك الهدف على الاقل؟ واذا كان المعنى لا ينطوي على خاصيته المعنوية إلاّ ضمن اُطر تلك الكلية، فكيف يتشكل هذا المعنى اذا لم تتجه الكلية الى قصد او هدف تريد تحقيقه. والاكثر من كل هذا كيف يتكرس الانتباه حول وجود علاقة ترابط ضرورية بالوعي "(100) مع إهمال البنيوية للمعنى في خصوص النص الادبي رغم تسليمها بتعدد المعاني فيه، مما يعني ان "البنيوية تمنح بصيرة عميقة بأساس الفهم وسيرورته، إلاّ انها حينما تواجه الادب تخفق في تقديم اجابات مقنعة.

ويمكن القول ان مواجهة الادب تعني مواجهة الذهن الانساني المعقد، و لذا يكون الفشل مفهوماً"(101). وفضلاً عن ذلك فإن التحليل البنيوي للادب" ليس هو التحليل القادر على ربط الادب بالقارئ وإنما هو أقرب الى تحليل المختبرات الرياضية التي يعنيها النص بحد ذاته كجسم لغوي صوتي او دلالي... النقد هنا هو نص معملي وليس خطاباً.

هذا الاتجاه في الغرب هو حصيلة دراسات مستمرة منذ عشرات السنين في مجالات اللغة واللسان والاصوات والانثروبولوجيا البنيوية. وقد تفرعت عنها علوم اخرى كعلم الدلالات وعلم الاجتماع الادبي "(102) ولكن حصيلة كل ذلك بالنسبة للمنهج البنيوي في النقد، هو عزل النص عن الخارج. وقد يصحّ العزل المؤقت لبنية النص الادبي عن الخارج "ولكن هل يمكننا ان نبقي النص في عزلته؟ وهل ان النص حقاً هو معزول؟ وهل ان استقلالية النص تعني اقامة الحدود بينه وبين ما هو خارج او قطعه عن هذا الخارج؟ ان النص الادبي على تميزه واستقلاله، يتكون او ينهض وينبني في مجال ثقافي هو نفسه – أي هذا المجال الثقافي – موجود في مجال اجتماعي.

وان ما هو داخل في النص الأدبي هو – وفي معنى من معانيه –خارج، كما ان ما هو خارج هو ايضاً – وفي معنى من معانيه – داخل... النص أو النصوص الادبية التي يمكننا ان ننظر فيها، في استقلالها كبنية، هي ومن حيث وجودها في المجتمع، عنصر في بنية هذا المجتمع. وإذا كان المنهج البنيوي لا يمكنه ان ينظر بحكم عامل العزل الى هذه الصفة المزدوجة لموضوعه، أي الى كونه بنية وفي الوقت نفسه عنصراً في بنية، فانه أي المنهج البنيوي يتحدد كمنهج يقتصر على دراسة العنصر"(103) ويعجز عن إدراك العلاقة بين داخل النص وخارجه. وقد انتقل هذا المنهج النقدي الى بلادنا بنتائجه وحدها دون المقدمات أو السياق الذي لم يتوافر لتطورنا الأدبي، "هذا الاتجاه في وهم البعض يعيد للأدب كينونته المستقلة ذات السيادة والمستلبة منذ أمد بعيد من جانب مختلف الأيديولوجيات. هذا الاتجاه أخيراً ينقذ النقد من الانحياز الفكري الاجتماعي فيصير وكأنه دولة فوق الطبقات يلوذ به الهاربون من الالتزام والمواجهة فينعقد لهم الصلح التاريخي مع اهل اليمين الذين يتسترون بجمال الفن لحماية القبح في الحياة "(104) وأول هؤلاء هم دعاة الحداثة العربية المفتونون بصرعات الغرب وهرطقاته وحذلقاته العابثة فقد" سعت المدارس النقدية الحديثة التي نقلت الينا على انها طفلة غريرة بعد ان هرمت وشاخت في الغرب، سعت الى اقناعنا وما زال اتباعها عندنا يسعون الى اقناعنا بان دراسة النص بنيوياً هي الوسيلة الأحدث، بمعنى انها الوسيلة الافضل والاشمل لدراسته.

واذا سألناهم: الافضل لماذا؟ سكتوا. فإذا قلنا: أهي الافضل لفهم النص؟ صاحوا مستنكرين: لا... ليس الفهم او الافهام غايتنا، واذا قلنا لهم: وكيف يكون الجزئي هو الاشمل؟ تمادوا وسخروا من سذاجتنا، ونصدق اتهامهم لنا بالسذاجة، فنحن فعلاً لا نفهمهم جيداً وكثيراً ما نعزي عدم فهمنا لهم الى نقص فينا لا فيهم ونعكف على دراستهم جيداً، نقرأ صابرين اهم ما يصدرونه من دراسات، ونجد ان مدرستهم صارت مدارس وان بنيتهم صارت بنى، وصارت بنيويتهم بنيويات كثيرة"(105) يسودها الاضطراب والتناقض وتداخل مناهج النقد الحداثية " فهذه المناهج مازالت بدورها محاولات رغم الخطوات الكبرى والهامة التي خطتها وهذا ما يضع نقدنا الحديث المستفيد من هذه المناهج موضع القلق والاضطراب الدائمين ويفرض عليه العمل لتأسيس فكر علمي يستحيل ان يتحقق مقتصراً على ميدان من الميادين بل لابد من تحقيقه ككل وفي مختلف الميادين وخاصة ما كان منها متصلاً بالنقد الادبي كعلوم اللسانيات من فنولوجيا وتركيب ودلالة"(106). ولكن واقع حال النقد العربي المعاصر هو اتخاذه شكل المراجعات السطحية التي تكتب للصحف والبرامج الاذاعية، او شكل الدراسات الاكاديمية التي تتخذ من الحذلقة اسلوباً ومن التعالم هدفاً.

وهذه الدراسات نجحت فقط في صرف القارئ عن الشعر والنقد معاً حين اضافت الى غموض النص الشعري غموض التعالم ورطانة الحذلقة (107). وراح نقاد الحداثة العربية يشكو بعضهم لبعض سوء فهم المنقول الحضاري عن الغرب والعجز عن تمثله والتباس المصطلح واغواء الحداثة في بعدها الشكلي فقط والوقوع في دائرة المتشابه وانتفاء الخصوصية بالاضافة الى افتقاد الاصول وغير ذلك من نقائص المنهج البنيوي الذي يدعي كل منهم انه الأحق بتبنيه والاكثر صواباً في تطبيقه، وتعالت صيحات الادباء والشعراء بحاجتهم الى الحركة النقدية المواكبة لهم وبأن الموجودين الآن هم إما صحفيون وإما اولئك الذين يكتبون نصوصاً عمياء من البنيوية التي تصلنا في اردأ صور الترجمة العربية، وراحوا يطالبون بالخروج من هذا المأزق وعودة النقد (108). ونجد ان معظم النقد الموجه الى المنهج البنيوي لدى العرب هو من اتباع هذا المنهج انفسهم وذلك من خلال نقد بعضهم لبعض وبيان اخطائه في الفهم او التطبيق، فنسمع بعضهم ينقد الاتجاهات والمقاربات النقدية الحديثة بأنها " بانهماكها الكبير بفحص آليات النص الشكلية والبنيوية، نسيت او تناست المستوى الدلالي للنص الادبي عموماً والنص الشعري بشكل اخص واكتفى بعضها بملامسة المستوى الدلالي ملامسة محدودة وجزئية وشكلية او لغوية في الغالب، فيما احجمت مقاربات اخرى عن الاقتراب من تحليل المعنى والدلالة بشكل ملفت للنظر انطلاقاً من فكرة ان النص الادبي والشعري خاصة هو بنية السنية (لغوية) مكتفية بذاتها، وليست بحاجة الى الاحالة الى أي مرجع خارجي او وقوف امام دلالة او معنى"(109) ثم يرى هذا الناقد الحداثي بأن الحاجة أصبحت ماسة لضمان تأسيس مقاربة او مجموعة من المقاربات الدلالية التي تهدف الى ردم هذه الثغرة والاتجاه صوب استنطاق المعنى والدلالة في الخطاب الادبي عموماً، والخطاب الشعري بشكل اخص.

ويدافع بعضهم الآخر عن القارئ والجمهور وحركة التاريخ بوجه هذا النقد البنيوي الحداثي فيقول: "وكما يعزل هذا النمط من النقد النص عن كل ما هو خارج النص، دون ان يسمح لنفسه – منهجياً – ان يرى هذا الخارج في الداخل أي في حركة البناء الداخلي للنص نفسه، كذلك فقد اتى هذا النقد الينا حاملاً اسواره العازلة عن القارئ والجمهور وحركة التاريخ وبهذا لم يسمح للقارئ ان يتفاعل مع منجزات هذا النقد ويتخذ منها ضوءاً للتفاعل الأعمق مع نصوص الشعر العربي الحديث، كما لم يسمح لنفسه ان يفك بعض فعاليته الاكاديمية ليتفاعل هو مع الناس وحركة التاريخ فظل منغلقاً في عليائه بين عدد محدود ومحدد من الباحثين الاكاديميين يسبح ذاته بذاته"(110). وفي مجال التطبيق يعيب هذا الناقد على معظم الآخذين بهذا المنهج الحديث" أن الناقد منهم يتعامل مع النص كأنه – مسبقاً – بنية مكتملة وعمل فني كامل، ويحلله على هذا الاساس فتصير الدراسة وصفاً للعمل وتحليلاً حيادياً له وتبتعد عن كونهاً نقداً.

فتتساوى بهذا كل البنى! وهي غير متساوية لا في اكتمالها ولا في نقصانها او خللها، ولا خاصة في قيمتها الفنية المعرفية ولا في قولها "(111). ومن ثم يطالب الناقد امثاله الحداثيين بالاجتهاد والتطوير والتطويع لهذه المناهج الحديثة لغرض التوصل الى ذلك المعادل النقدي المنهجي الذي يسمح بدراسة النص واكتشاف دلالته وجماله.

ومن الجدير بالذكر ان نقاد العرب الحداثيين المطالبين بتطوير المنهج البنيوي بعدم عزل العمل الفني عن مهاده الاجتماعي وعدم حصر الدراسة داخل بنية النص وضرورة اعتبارها عنصراً في بنية اشمل اجتماعية وثقافية، هؤلاء النقاد ليسوا مجددين في دعوتهم هذه، بل هم مقلدون للغرب ايضاً يجترون ما هضموه من افكار دعاة البنيوية التكوينية (الماركسية) التي مر ذكرها في هذا المبحث، وليس ادلّ على تقليد هؤلاء النقاد من ان معظمهم ذوو توجه ماركسي، وهم يواجهون نفس المشاكل التي واجهها قبلهم دعاة البنيوية التكوينية، من صعوبة بل استحالة تطبيق هذا المنهج لما يتصف به من طابع الشمول والكلية، وما يفرضه من حتمية العلاقة بين بنية النص وبنية المجتمع، وتجاوزه ذات الاديب ووعيه الفردي كمصدر للمعنى، وتركيز الاهتمام نحو النسق الذي تنزاح فيه الذات عن المركز.

ولذلك فلا يمكن لهذا المنهج ان يحقق التوازن المطلوب في دراسة النص الادبي وتحليله وتحديد قيمته الفنية. وهكذا يشترك البنيويون – على اختلاف توجهاتهم – بجملة نقائص ومآخذ تقدح في صحة المنهج البنيوي وتشير الى ضعفه في مجال النقد الادبي رغم مارأه بعضهم في البنيوية من ميزات ايجابية اهمها تحرير ذات الانسان من سطوة الفلسفات العقلية السائدة كما يرى ذلك الدكتور عبد السلام المسدي حيث يقول: "لكن اهم مميز يمكن لنا اليوم ان نستنبطه من خصوصيات البنيوية على صعيد القراءة النظرية هو الموقع الجديد الذي احتله الانسان ضمنها، فالفلسفات المألوفة كانت دائماً حسب تقديرنا تنطلق من شيء ما هو خارج الانسان لتنتهي الى شيء ما يتجاوز حدود الانسان بعد ان تكون قد غاصت في عالم الوجود عبر الكائن البشري، فالانسان من حيث هو بذاته قد كان دوماً واسطة العقد في القلق الفلسفي ولكنه لم يكن في حد نفسه علة وجوده ولا غاية مطافه"(112).

ولكن البنيوية التي حررت الانسان من عبودية الفلسفات العقلية – على رأي المسدي – هي التي جعلته حبيس انساق النص خاضعاً لبناه مزاحاً عن مركزه اللائق به في هذا العالم، فليست حريته – مع البنيوية – الا ضرباً من الوهم والسراب الخادع الذي يبحث عنه في متاهات النص من غير ان يدرك له بداية او نهاية كمثال رولان بارت الذي "شبه فيه النص بفصّ البصل حيث لا لب ولا نواة ولا قلب ولكن هناك بصلة تتكون من أغشية متتالية بعضها فوق بعض. ونزع الغشاء يكشف عن غشاء مماثل حتى النهاية حيث لانهاية ولابداية فكلها اغشية وكل الاغشية لب "(113). ويزجّ هذا المثال بالناقد البنيوي في بيداء النص المظلمة ويبعثر جهده في عالمه المجهول بعد أن يقنعه بأن وجود النص الادبي ذاتي فيه وليس لشيء مخبوء فيه، وبهذا يرجع الناقد القهقرى الى نظرية الفن للفن وما دعا اليه لوكنت دوليل وجوتيه من ان الادب لاغاية له لانه غاية في حد ذاته حيث لا اخلاق ولا خير ولا شر في المذهب البرناسي. ولكن الناقد البنيوي لا يعترف بهذا التراجع الى مذهب قديم ونظرية عتيقة، بل يلبس دعوته رداء الحداثة والتقدم العلمي في بحث اللغة وتطور الدراسات اللسانية في القرن العشرين بدءاً من العالم اللغوي دي سوسير الذي تجاوز النظرة التاريخية في دراسة اللغة وأحل مكانها النظرة الآنية التي ترى في اللغة نظاماً من العلامات لا تربطها بالعالم الخارجي عنها رابطة لأن لها قوانينها الداخلية التي تجعلها متفردة عن الأشياء بل هي بيت الوجود الذي تولد فيه الأشياء وليست مجرد تعبير عنها، ولذلك قال سوسير بأن المدلول صورة ذهنية وليس شيئاً خارجياً يمثله الدال.

ونمت هذه الفكرة في مدرسة الشكلانيين الروس الذين قادهم الاهتمام بالجانب الفني في دراسة النص الى أن يعاملوا الأدب بوصفه استعمالاً خاصاً للغة يحقق لها التمييز بانحرافه عن اللغة العملية المشوهة أو كما يرى ياكوبسون أن هذا "يحدث من خلاله حركة ارتدادية ترتدّ فيه الرسالة الى نفسها. فالرسالة – كقول لغوي – تتجه بحركة سريعة من باعثها الى متلقّيها وغايتها هي نقل الفكرة، واذا ما فهم المتلقي ذلك إنتهى دور المقولة عندئذ. ولكن في حالة (القول الأدبي) تنحرف الرسالة عن خطها المستطيل وتعكس توجه حركتها وتثنيها اليها، الى داخلها بحيث لا يصبح المرسل باعثاً، والمرسل اليه متلقياً، وإنما يتحول الاثنان معاً الى فارسين متنافسين على مضمار واحد يضمهما ويحتويهما هو القول أي (النص) ويتحول القول اللغوي من رسالة الى نص ولا يصبح هدفها نقل الأفكار أو المعاني بين طرفي الرسالة، ولكنها تتحول لتصبح هي غاية نفسها وهدفها هو غرس وجودها الذاتي في عالمها الخاص بها وهو جنسها الأدبي الذي يحتويها "(114). ورغم أن دي سوسير لم يستعمل كلمة (بنية) أبداً لأن المفهوم الجوهري في نظره هو مفهوم النسق أو النظام، الاّ أن رولان بارت أوضح صلة البنيوية بمفهوم النسق من خلال اشارته الى: أن البنيوية في معناها الأخص هي محاولة نقل النموذج اللغوي الى حقول ثقافية اخرى.

وعرفت أمريكا تياراً عرف باسم (علم اللغة البنيوي) وقد شهد هذا التيار ازدهاراً على يد عالمين أمريكيين هما سابير وبلومفيلد، كما دخلت البنيوية حقل الانثروبولوجيا على يد شتراوس. وقد واجهت البنيوية في الغرب نقداً فلسفياً من قبل ثلاثة تيارات رئيسة هي: النقد الوجودي، والنقد التاريخي، والنقد التفكيكي. وفي العالم العربي ظهرت اولى محاولات البنيوية في وسط المآخذ التي سجلت على جماعة مجلة (شعر) والمتعلقة باستعارتهم عمراً ثقافياً لا يناسب العمر الثقافي العربي، بل إن (شعر) نفسها صرحت في آخر اعدادها أنها اصطدمت بجدار اللغة. ولم تكن الأذرع مفتوحة دائماً للبنيوية، وواجهت إنتقادات كثيرة لافتقاد اصحابها النموذج اللغوي المطلوب في النص العربي، وعدم اطلاعهم على مفاهيم البنيوية في مصادرها الأصيلة مما أوقعهم في الاضطراب وعدم التمكن من استخدام الجهاز المفاهيمي الذي تتحرك فيه البنيوية (115). فكثر لديهم التخبط في استخدام المنهج البنيوي لتنفيذ مطالب الحداثة كرؤية للحياة والكون وعدم الاقتصار على الأدب، وكمحاولة لإلغاء القديم والثابت ورفض الدين والتراث المرتبط به، وتحطيم اللغة بنحوها وصرفها وبلاغتها شعراً ونثراً، والاعتماد على الثنائيات المتضادة وشبكة العلاقات في تقييم الاشياء بعد الغاء وجودها الجوهري، وكثرت لديهم المصطلحات الدالة على حالة التيه وعدم التصور العلمي الدقيق لموضوع البحث فضلاً عن افتقاد الغاية والهدف لهذا المنهج، فمن مصطلحاتهم: اللامحدود واللانهائي، اللاحقيقة، اللاواقع،الانعتاق من كل القيود، الثنائيات الضدية(116) وغير ذلك من الالفاظ والعبارات الدائرة في تصوراتهم عن الادب وضرورة تحقق (الشاعرية) فيه، اذ" يعتمد النص الادبي – على شاعريته،على الرغم من ان النص يتضمن عناصر اخرى ولكن الشاعرية هي ابرز سماته واخطرها"(117).

ولا تتحقق الشاعرية لديهم الا بانتهاك قوانين اللغة المألوفة وتحويلها الى سحر ينتهك بدوره الواقع المعتاد ويحوله الى خيال، كما نجد هذا التصور لدى الغذامي حيث يقول: "فان الشاعرية انتهاك لقوانين العادة ينتج عنه تحويل اللغة من كونها انعكاسات للعالم او تعبيراً عنه او موقفاً منه، الى ان تكون هي نفسها عالماً اخر ربما بديلاً عن ذلك العالم. فهي اذن (سحر البيان) الذي اشار اليه الاثر النبوي الشريف. وما السحر الا تحويل للواقع وانتهاك له بقلبه الى لاواقع او هو تخييل على لغة القرطاجني أي تحويل العالم الى خيال"(118). ويلاحظ هنا ان الناقد يستدل على نظرية (الشاعرية) بالحديث النبوي المشهور: (ان من البيان لسحرا وان من الشعر لحكمة) مستغلاً الشطر الاول من هذا الحديث لدعم نظريته،غافلاً او متغافلاً عن الشطر الثاني الذي يجعل من الشعر حكمة، ومن الواضح ان الحكمة لاتكون بانتهاك الواقع وتحويل حقائقه الى خيال، بل شرط الحكمة أن تكشف عن الحق الثابت الذي يقره العقل السليم والمنطق المستقيم، اما اوهام الخيال التي تقلب حقائق الواقع، فليست من الحكمة في شيء وبالنسبة لسحر البيان المذكور في هذا الحديث، فقد جاء في سياق قصة الزبرقان وعمرو بن الاهتم وهما عند رسول الله (ص) "والذي عناه رسول الله (ص) قوة الحجة المقنعة وسلامة المنطق وبيان المعنى وبلوغ الغاية "(119)، فهو ليس السحر العادي كما تصور ذلك الغذامي رغم اصراره على ان "الشاعر يحرر الكلمة من معانيها، مما علق بها من غبار السنين فيطهرها ويغسلها ويطلقها حرة تحلّق... وهو بحساسيته المفرطة يرتقي فوق كل قيود الواقع... وهذا هو سحرالبيان"(120) ولا يتفق هذا التأويل مع وضوح المعنى المقصود من البيان في كلام العرب، وفي الحديث النبوي الجاري على اسلوب العرب في كلامهم.

ونجد هذا النوع من التأويل القسري الخاطيء عند الغذامي ايضاً في استشهاده بآيات القرآن الكريم كقوله تعالى: {وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ. أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ}(121) اذ حاول ان يستدل به على نظرية الشاعرية فقال: "الشعر تحرر للغة والانسان وانعتاق من كل القيود، والشاعر ليس الا هائماً منطلقاً خارج نفسه وخارج واقعه... وكل محاولة لتقييد الشعر فهي تآمر ضده وهي مخالفة لأصوله، ولذلك فان حالة الوعي تصبح اسوأ حالات التلقي للشعر"(122). ومرة اخرى يتغافل هذا الناقد بل يتجاهل الآية التي تستثني فريق الشعراء المؤمنين في قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا..} (123) ويصر على التمسك بالآيات السابقة عليها ليتخذ منها دليلاً على ضرورة الهيام وفقدان الوعي في الشعر، ورغم ان هذا النوع من الشعر ورد في تلك الآيات مورد الذم والرفض لفساده وغوايته، ولكن نقاد البنيوية يتخذون من هذا الشعر أساساً لمفهوم الشاعرية أو الشعرية كما يسميها كمال ابو ديب ويجعلها تفيض من أغوار عميقة في الذات الانسانية "وتفسر جوانب منها الدراسات التي تربط بين الشعرية والطقوس والاسطورة والموسيقى كما تفسر جوانب منها الدراسات الفرويدية واليونغية التي تربط بين الشعر وعقد القمع والجنسية أو اللاوعي الجماعي والنماذج العليا"(124).

والملاحظ أن جميع هذه الدراسات تعنى بالحالات البدائية والوثنية والمرضية والشاذة، التي اعتورت الانسان منذ عصوره القديمة وحتى عصرنا الحالي، اما الحالات السوية التي يظهر فيها وعي هذا الانسان وصحته النفسية وتقدمه الحضاري، فليست موضع عناية في تلك الدراسات التي اعتمدها نقاد البنيوية في ميدان تطبيقاتهم للشعرية رغم ادعائهم – على الصعيد النظري – بأن الشِعرية محصورة في مجال البنى اللغوية مما يؤدي بهم الى الوقوع في الاضطراب والتناقض بين تصورات المنهج البنيوي وتطبيقاتهم لهذا المنهج في ما يخص نظرية الشعرية، كما نلمس هذا التناقض لدى ابو ديب في تطبيقاته حيث يؤكد أن مكونات الشعرية "كما يمكن أن تكون عناصر لغوية، يمكن أن تكون كذلك مواقف فكرية او بنى شعورية او تصورية مرتبطة باللغة او بالتجربة او بالبنية العقائدية (الايديولوجية) او برؤيا العالم بشكل عام"(125). وهذا التأكيد الأخير" يضعنا بإزاء شعرية غير لغوية. وعلى الرغم من انها تعاين عبر لغة النص نفسه فان جميع البنى التي تتعلق برؤيا العالم تعد زيادات نصية غير متعلقة بخصوصية النص اللغوية، وربما تكون قد اوقعت ابوديب في تناقض محير بين اجتزائية مخلة بمفهوم الشعرية وشمولية لهث وراءها ابوديب ولم يطوّعها.

ويكمن التناقض في الاعتداد بالنص فقط بوصفه المادة الوحيدة التي تمكّن من تجلية الشعرية عبر اللغة التي تتركب في النص على نحو خاص، ومن ثم ضعْف هذا الاعتداد، والتحول الى معالجة بنى رؤيوية وصولاً الى شمولية كانت المطمح الكبير لأبوديب في ان يضفيها على مفهومه ولو استدعى ذلك تشابكاً غير منظم لمفاهيم مستمدة وخلطاً للغوي بالرؤيوي أي خلطاً للفيزيقي بالميتافيريقي على الرغم من أنه يؤكد أن الشعرية خصيصة نصية لاميتافيزيقية"(126) ومن هنا يفتقد ابو ديب التماسك النظري، وتتهاوى دعوى علمية النقد لديه بالنظر الى كونه " من اكثر النقاد المعروفين خطابية وتعلقاً بالشعارات والمبالغة الايديولوجية في حديثه عن نفسه ومنهجه.

ففي مقابلة اجريت معه في البحرين ونشرتها مجلة ثقافات البحرينية في عددها الثالث ذكر ابو ديب بكثير من الثقة بالنفس أنه استوعب مختلف العلوم المعاصرة من اللسانيات إلى علم النفس اللغوي إلى علم الانسان (الانثروبولوجيا) إلى الاقتصاد وعلم الاجتماع إلى الفلسفة ثم إلى النقد الثقافي والأدبي قديمه وحديثه، ليشير بعد ذلك إلى اعتقاده: أن ما كنت اسعى اليه بولهٍ مشبوب قد تحقق إلى حد لابأس به، وفيما بعد اثبت أنه – دونما مبالغة في التواضع وأنا لا أحب فضيلة التواضع في هذه الامور ولا أدعي أنني امتلكها اطلاقاً – كان مفتاحاً على مستويات كثيرة في الثقافة العربية والدراسات الاخرى ايضاً. وكان جزءاً منه السعي إلى موضعة التراث النقدي العربي في سياق عالمي "(127) ويعلّق الدكتور سعد البازعي على كلام أبي ديب قائلاً:"كلنا نتمنى لوأن أبا ديب قد وفق فعلاً في موضعة التراث النقدي العربي عالمياً، لكن الشواهد بكل أسف تقول غير ذلك، فالذي يعرف موروثنا النقدي في الغرب هم المستعربون أو المستشرقون، أما النتاج النقدي المعاصر فما زال بعيداً عن العالمية المنشودة أو المتحققة حسب دعوى الناقد العربي.

ما تحقق هو الاستهلاك الواسع وغير الناقد غالباً للمناهج والنظريات والمفاهيم ومن ذلك مفهوم العلم الذي يوظفه أبو ديب كما يوظفه غيره لوصف النقد الأدبي دونما وعي كافٍ "(128) وذلك حين لجأ أبو ديب وغيره من البنيويين إلى إستخدام المصادر (العلمية) في تحليل النصوص الحافلة في تصورهم بالثنائيات الضدية وعلاقات التضاد بالاضافة إلى العقد الجنسية وغير ذلك من مظاهر التنافر والاختلال واللاوعي الضروري – في نظرهم – لشعرية النص الأدبي، كما نلمس ذلك في تحليل كمال أبو ديب لابيات ابن الرومي التالية (129):

حـيّتـكِ عنا شــمال طـاف طائفـهـا-----بـجنّة نـفحـت ريـحاً وريحـانــا

هبت سحيراً فناجى الغصن صاحبه-----موسوساً وتداعى الطير إعلانــا

وُرْق تـغنـي علـى خـضر مهـدلـةٍ-----تسمو بها وتمسّ الارض احيانا

تـخـال طائـرها نـشوان من طـرب-----والغصنَ من هزّه عطفيه نشوانا

يقول ابوديب في تحليل هذه الابيات: "تبدأ القصيدة بتشكل ثنائية اساسية هي الأنا/الأنت تسود بين طرفيها علاقة بعد مكاني تشير اليه التحية التي تحمّل للريح. عدا البعد المكاني ليس للعلاقة بين الأنا والأنت من طبيعة محددة، لكن البعد المكاني نفسه يجسد انفصاماً فعلياً قائماً وتلعب الريح دوراً توسطياً في هذا الموقف بين الأنا والأنت "(130) ويستمر ابوديب بهذا الأسلوب من التحليل مستخدماً الأحرف الاجنبية كحرف (A) في الترميز للبنية الاساسية للجملة الأولى، وحرف(B) رمزاً للبنية الاساسية للقصيدة، وهكذا خلال تسع صفحات من الرموز والعبارات المعقدة التي ننسى في خضمها الشاعر وشعره لننتهي الى قوله:" أخيراً تتلاقى في القصيدة حركتان ضديتان يجسد تلاقيهما النهائي توحد التصورات، هاتان الحركتان هما الحركة الافقية ثم الحركة الشاقولية، تنضحان بشهوة جنسية تنبع من حركة الاتصال الافقية والاهتزاز الشاقولي الصاعد الهابط "(131). وهكذا ينتهي بنا هذا الناقد البنيوي وقد فقد الذوق الفني والشعور بالجمال والفهم المعنوي للحياة والاحساس الخلقي بها، رغم تناوله نصاً يزخر بالقيم الشعورية والتعبيرية الجميلة (132)، اذ تنسحق هذه القيم تحت قلم هذا الناقد (العلمي) وتتحول الى هبوط في المشاعر وتعقيد في التعبير عنها.

في حين نراه يتناول نصاً هابطاً لأدونيس فيعلي من شأنه ويرى فيه معرضاً لأوجه البلاغة والعبقرية، فيقول عن النص: "لكن صورة ادونيس الرائعة تعيد خلق (الأب) في سياق جديد، يتحول فيه إلى (أب أخضر)! هذا ما يقوله الدكتور كمال ابو ديب ! ثم يورد لنا نص ادونيس الرائع ! على النحو التالي:

لأب مات أخضراً كالسحابة-----وعلى وجهه شراع..!

ويبدأ يحلل في عبقرية هذا النص الذي لو سمعه عبد القاهر الجرجاني لرماه في وجه صاحبه ومحلله (أب مات أخضراً كالسحابة) ثم (على وجهه شراع). ولماذا وضع الالف بعد (أخضر) أهي خطأ مطبعي ام اسلوب لقتل قواعد اللغة. هكذا اذن تقتل اللغة وتموت الكلمات وترمى في تيه. ويستعين في تحليله بنص آخر لخليل الحاوي في (بيادر الجوع). ثم يقول: فجأة تأتي الصورة المجسدة لهذا اللاوعي المصعوق الذي تنقل فيه اشياء العالم. يقول خليل الحاوي:... تخضر فيه لحية، فخذ، وأمعاء تطول

إن سماع مثل هذه النصوص لا يحتاج الى دراسة في الادب لرفضها. إن الفطرة ترفضها وتشمئز منها، إن السجية النقية تلفظها وترميها "(133). وهناك مثال آخر لهذا الضرب من التحليل عند ابو ديب نجده في تحليله قصيدة (كيمياء النرجس – حلم) لادونيس ايضاً حيث" يعطي كمال ابو ديب لكل سطر حرفاً بالانكليزية او حرفاً ورقماً F-N-2A-3A، ثم يبدأ التحليل ليحاول أن يوجد شيئاً يستخرجه من الاسطر، وانّى له الاّ حين يخاطب سكارى ومخدّرين. ويستغرق هذا بحدود خمس واربعين صفحة. وهو يضع لها مخططات ثم جداول مع أحرف انكليزية ويحاول أن يبحث عن معنى وعن ايقاع، فلا تجد معنى ولا ايقاعاً "(134). وامثلة هذه الحذلقة والتعمية في التحليل البنيوي عامة كثيرة لا يجني منها القاريء غير صداع الرأس دون فائدة تذكر للأدب أو للنقد، "فأن نحصي عدد الافعال والاسماء في هذا النص أو ذاك، أو أن نحصي الفواصل والنقط وعلامات التعجب والاستفهام وصيغ الافعال الماضية والمضارعة ثم نسمي ذلك مدرسة في النقد الأدبي وفي دراسة الأدب – كما يفعل بعض الذين يكتبون في الروايات الثقافية عندنا – فهذا اضاعة للوقت وللحبر والورق، وقد يفيد من ذلك علم الاحصاء الادبي إن وجد مثل هذا الاحصاء أو قد يتسلى به اولئك الذين ليس لديهم عمل جاد يعملونه، اما أن يقال إنه مفيد للأدب وتطوره فتلك اعجوبة من اعاجيب هذا الزمان الأخير الذي كثرت فيه الاعاجيب حتى فاقت عدداً أعاجيب كل الازمنة الغابرة "(135) ذلك لأن البنيوية" تخبرنا برطانة غريبة ورسوم بيانية وجداول معقدة بأشياء نعرفها مسبقاً. ولذلك فهي ليست عديمة القيمة حسب وانما مؤذية لأنها تجرد الأدب ونقده من صفاتهما الانسانية"(136).

وبالاضافة الى ما تقدم من مآخذ على المنهج البنيوي فإنه يؤخذ عليه ايضاً احتفاله بالاساطير والخرافات واعتمادها في تحليل النصوص، إذ" يقول هنري سوسمان في كتابه (الصور البعدية للحداثة): إن كتّاب الحداثة اليوم أحيوا الأوديسا والاساطير الاخرى لتكون دليلاً لهم في جولاتهم القصصية. وأصبحت كتب هوميروس تكوّن الاطار الحقيقي للقصة والقاعدة للمنهج البنيوي. ويقول: يمكننا أن ندرك السبب الذي اصبحت الاساطير وصناعتها موضوعاً متميزاً في التحليل البنيوي، ذلك لأن الاساطير الكلاسيكية احتلت في الأدب والثقافة نفس الدور الذي احتلته الاحماض النووية في علم الوراثة في القرن العشرين "(137) ولهذه النقائص الكثيرة في المنهج البنيوي، فقد تراجع عنه العديد من دعاته ورواده، "وإن التحولات الظاهرة والملموسة في الرؤية والمنهج لأقطاب النقد البنيوي تعطينا تصوراً لمقدار المأزق الوصفي الذي رسمت البنيوية حدوده ووضعت الباحثين والمحللين والنقاد ضمنه "(138) ولذلك فقد" بدأ ينهض جيل جديد من الباحثين والنقاد الذين تمثلوا الكشوفات البنيوية جيداً، لكن كفايتها المنهجية وأطرها الضيقة لم تتح لهم الانضواء في ظلالها بل الخروج عليها ومحاولة تحرير المنهجية من القيود الصارمة. ففضلاً عن بارت الذي يعد جاكوبسن البنيوية في تحرره وانتقالاته، ظهر فيليب سولير وجوليا كرستيفا وبول ريكور وجاك دريدا. وبذا فقد انطلقت ثورة السيميولوجيا والتأويل "(139).

ورغم الضجيج الاعلامي الذي احدثته البنيوية على الساحة الادبية من حيث التنظير لمبادئها العامة وللانواع الادبية حتى اغرقت الاسواق بمؤلفاتها النظرية والتطبيقية، لكن الزمن لم يمرّ الاّ عقدين تقريباً حتى غزتها التفكيكية،"حيث إن بعض زعماء الحركة البنيوية تحولوا الى تفكيكيين وتبعاً لذلك تحول الكثير – ومنهم وفي مقدمتهم الادباء العرب تحولوا ايضاً بصورة ميكانيكية الى تفكيكيين ايضاً، وبقي قسم آخر يأخذ من المذهبين ويلفق بينهما بشكل او بآخر"(140). وحقيقة هذا التحول أن الانسان الغربي وإن أبدى ترحيباً بالبنيوية بديلاً عن الوجودية،"إلاّ أنه يعلم أنها ثمرة من ثمار العلم الذي زرع الخوف وجلب اليأس له في الحرب الكونية الثانية وليس أدل على ذلك من القنبلة الذرية في اليابان، فقط هو يريد أن يجد بديلاً يقاوم به فشله في تحقيق السعادة ولو الى حين وهذا ما يفسر المدة القصيرة التي بقيت فيها البنيوية اذ ارتد عليها اهلها بارت ودريدا وفوكو سنة 1966في جامعة هوبكنز بالولايات المتحدة الامريكية اثر المحاضرة التي ألقاها دريدا حول التفكيك، لتأتي ثورة للطلبة الفرنسيين سنة 1968 تأكيداً لأفول شمس البنيوية وكل ما يمت بصلة إلى الموضوعية "(141).

نقد المنهج التفكيكي:

لقد وجد الانسان الغربي نفسه من جديد فريسة التيه والضياع في اتون التفكيك الذي اتخذه الانسان الغربي طريقة يعبر بها عن تذمره من اليقين الموضوعي ورغبة في تجربة حياة الفوضى والحرية اللامتناهية بعد أن اكتسب من البنيوية ولعها الجنوني بالخطاطات والاحصائيات والجداول المتشابكة التي تشوه النصوص الأدبية وتضيع خطوطها تماماً. "فهذا الولع بعنفه يتحول الى ولع عند التفكيكيين الذين خلفوا البنيوية فنقلوا عدوى ذلك إليهم ولكن بإضافة جديدة هي(الفوضى) التي طبعت سلوكهم الأدبي والفكري، فمن حيث الفكر يشير المؤرخون الى الخلفية الفلسفية التي تكمن لدى التفكيكيين وهي التشكيك بالوجود والمعرفة وانعكاسات ذلك على الحقل الأدبي حيث التشكيك بمصداقية التيارات السابقة وحتى ذلك التشكيك بالمعنى الأدبي حيث عرفوا باتجاههم الى (لانهائية المعنى) واللعب بـ (الدوال) والقفز على اشارات النص وفجواته...الخ ويمكن الذهاب إلى أن الحرية شبه المطلقة للتلاعب في صياغة النصوص ونقدها، هي الطابع للاتجاه التفكيكي"(142) الذي نادى بالتمرد على كل فكر مركزي والقضاء على كل يقين موضوعي من خلال اهتمامه بنقد الخطابات النقدية والفكرية والفلسفية، ولذلك فهو أقرب ما يكون الى الفلسفة منه إلى النقد الأدبي.

ونجد أصول هذه الفلسفة عند" هيدغر الذي يعده النقاد أول من قال بمصطلح التفكيك، اذ حاول تعرية الفكر الفلسفس الغربي والنبش في أنساقه قصد الوقوف عند الجذور الاولى التي كان عليها مفهوم العقل عند الحكماء الطبيعيين قبل أن يتغير مفهومه عند أفلاطون وأرسطو، حتى يتسنى له تقويض العقل الغربي ورده الى أصوله الحقيقية. ولما كان ذلك من الصعب تحقيقه بسبب قوة احكام نسيج العقل الاوربي وانغلاقه على نفسه، لم يكن أمام هيدغر سوى زرع الشك في كل الخطابات الفلسفية من خلال فلسفته التأويلية التي حاول من خلالها فتح باب تعدد القراءات ولا نهائية التفسير، وهو اذ يفعل ذلك، يقصد نزع اليقينية الموجودة في الفكر الفلسفي وجعله مجرد خطاب قابل للتفكيك بعدد القراء المقبلين عليه "(143) ومن هنا فان البؤرة التي يتمركز فيها محور القارئ عند التفكيكيين بخاصة هي (تعدد المعنى ولانهائيته) "وهو أمر لا يحمل الجدية التي يصاحبها الضجيج الاعلامي، فتعدد المعنى قد توفرت الاتجاهات السابقة على الحداثية عليه بدءاً من الاتجاه الرمزي... بل لا نكاد نعثر على ممارسة نظرية او تطبيقية حتى بالنسبة إلى الاتجاهات التي تعتمد النقد التاريخي أو الاجتماعي أو الايدلوجي أو النقد الذي يلفق بين الاتجاهات جميعاً، عندما يتناول رموز النص وشفراته: يشير الى تعددية الدلالة بنحو اصبح له الفته وذيوعه كألفة وذيوع من يتناول عناصر الايقاع أو اللغة أو البناء، أي اصبح احد مفردات التعامل مع النص"(144).

أما لانهائية الدلالة فرغم استئثارها باهتمام النقد التفكيكي إلا أنها لا تبعد كثيراً عن تعددية الدلالة التي تعني أن علاقة ما أو دالاً او رمزاً يرشح بعدة دلالات تحددها أذواق القراء المختلفة، وحيث لا نهاية لعدد القراء فسوف يكون الدال مرشحاً بدلالات لانهائية وبهذا الردم بين مصطلحي (تعدد المعنى) و(لانهائيته) لانظفر بجديد في هذا الحقل الذي احتله اسم جاك دريدا إذ اليه يعزى الفضل في تبني مصطلح التفكيك "والبراعة في استثمار آلياته مركزاً نقده على غرار أسلافه على مركزية العقل والمعنى وفلسفة الحضور.

وقد بدا النقد التفكيكي معه مميزاً بجملة من المصطلحات التي عرف بها نحو: الاختلاف، الارجاء، التشتت، الهوة، علم الكتابة، ميتافيزيقا الحضور، المركزية الغربية، مركزية العقل، مركزية الذكر ومركزية الصوت"(145) "وتمكّن استراتيجية دريدا على العموم من تجزئة الالفاظ والفرضيات الفلسفية الاساسية ثم تطوير الابنية التناقضية والحجج التناقضية التي تنطوي عليها هذه الالفاظ والفرضيات. ويهدف دريدا من ذلك الى تفكيك تقليد الميتافيزيقية الغربية بأسره ليس الاّ، وما ينطوي عليه هذا التقليد من الزعم بوجود معنى موحد له هوية أو تطابق ذاتي يتميز من التدوين الثانوي المشتق لذلك المعنى في اللغة المكتوبة.

ويسمي دريدا هذا التقليد والاتجاه (مركزية الكلمة)"(146) داعياً من خلال تجاوزها الى لا نهاية الدلالة بجعل القارئ هو من ينتج الدلالة، محاولاً بهذه الدعوة انقاذ الحداثة من الانغلاق الذي نادت به البنيوية فما وصل اليه دريدا في استراتيجية التفكيك هو أن "المعنى مؤجل الى مالانهاية لأن الدال وهويبحث عن المدلول لا يعثر عليه لأن هذا الاخير يتحول بدوره الى دال يبحث عن مدلول وتبقــى الــدوال لــعبة دون الوصــول الــى معنى "(147)، ويســـتند دريدا فـــي هــذه اللــعبة الى اعتقاده بعدم وجود النسق البنيوي ونفيه لأية قاعدة او نظام منطقي في علاقة اللغة بالواقع، بل إنه يلقي بشكوكه حتى على اوضح البديهيات التي يعتمدها العقل الانساني في مجال الفلسفة او اللغة.

ولذلك فان التفكيك عند دريدا ينبذ الميتافيزيقا والفلسفة ويعدهما من انماط الادراك الخادعة "كما ان اللسانيات التي كانت تخفي الميتافيزيقا في نماذجها الخاصة باللغة لاتلائم التفكيك. وكذلك لايلجأ التفكيك الى البنيوية التي ترتكز بقوة على اللسانيات. قد يبدو التفكيك حقلاً تحكمه قواعد وأنظمة ولغة خاصة يصعب على المبتدئ فهمها، الاّ أن الحقيقة مختلفة، فنحن لدينا قواعد وأنظمة ولغة خاصة في النظريات النقدية اكثر مما في التفكيك"(148) الذي"لا يمنح الناقد أي نماذج ولا يطبق أي أنموذج على النصوص الادبية، بل إنه يدمر جميع النماذج الموجودة ولا يقدم أي نموذج، ولهذا تسبب الكتابة التفكيكية حيرة كبيرة. فعلى العكس من النقد البنيوي لا يؤمن النقد التفكيكي بوجود نسق يمكن فهمه "(149) لذلك يقول ليتش في كتابه (النقد التفكيكي):"إن التفكيكية باعتبارها صيغة لنظرية النص تخرّب كل شيء في التقاليد تقريباً وتشكك في الافكار الموروثة عن العلامة واللغة والنص والسياق والمؤلف والقارئ ودور التاريخ وعملية التفسير وأشكال الكتابة النقدية "(150) ويؤكد هوار فلبيرن أن التفكيكيين هم السبب الوحيد لأزمة الدراسات النقدية.

فهم يتصورون المؤسسة الادبية وقد تحولت الى كرنفال تختفي فيه التقسيمات والحدود التي تميز بين الشيء وغيره الى درجه يسود فيها الخلط، ويمنح الطلبة درجات عالية مقابل السخرية التي يتقنونها مع جهلهم بأكثر الاشياء بداهة (151). وتلجأ التفكيكية الى الاكثار من استخدام المصطلحات الغامضة لتغطي على نقائصها التقليدية المكتسبة من الاتجاهات والحركات النقدية السابقة عليها كحركة النقد الجديد وغيرها."وقد الف جون إلس كتاباً ضمّنه الكثير مما يؤخذ على التفكيكية وهو كتاب (ضد التفكيك) 1989. وفيه يثبت أن معظم التعبيرات والمقولات الاساسية للتيار التفكيكي كانت متداولة عند النقاد الجدد، ومن ذلك مقولة إحالة المعنى التي ظهرت عند دريدا بتعبير مختلف آخر هو ميتافيزيقا الحضور. أما انكار دريدا لثبوت المعنى في القراءة الاولى للنص فذلك تحوير لمقولة المغالطة القصدية التي تكلم عليها ويمزات وبيردسلي منذ العام 1954.

وأخذ على التفكيكية ايضاً شغفها باستخدام كلمات واصطلاحات غير واضحة سعياً منها لإبهار القارئ واقناعه بأن ما يقال له استثنائي وغير عادي. علاوة على أنها أعادت لبعض المقولات الفلسفية المعاصرة ولاسيما الظاهراتية وفلسفة التأويل، تحكمها بالدرس الأدبي "(152) ويتجلى هذا التحكم في افتقار التفكيكية للتفكير الحواري والتاريخي إذ "إن دريدا وأصدقاءه يظنون أنهم يميزون في كل النصوص مآزق منطقية أو آليات ولا يبدون مدركين إلى أي حدّ يُسقطون بناءات لما وراء مقالاتهم على النص المحلّل. إنهم يعيدون هكذا إنتاج بعض مساوئ اللوغو مركزية على غرار الهيغلي الذي يماثل النص مع جملته، وعلى غرار البنيوي الغريماسي الذي يماثله مع مفهوم التناظرية الخاص به، يماثله دائماً ناقد كدومان مع المأزق المنطقي الذي اخترعه هو بالذات "(153). وحين" يؤكد النقد التفكيكي أن كل النصوص مأزقية وأنها تنتهي بتفكيك نفسها بنفسها، ينزع الى الحد من البعد التاريخي والسوسيولوجي لتحليلاته. ذلك أن تنوع النصوص وسياقاتها التاريخية يجعل الفرضية التي تقول إن كل النصوص هي بنى مأزقية، غير قابلة للتصديق إطلاقاً "(154). وبتجاوز سياق النص يتأكد أن هذه الفرضية التفكيكية تتعامل مع الوهم أكثر من تعاملها مع الحقائق، ويتخذ الناقد التفكيكي من خلالها اسلوب المراوغة والمخاتلة في مطاردة الدوال دون اقتضاء من النص ذاته أو من سياقه، بل يصطنع الناقد ذلك لأستعراض مهارته التذوقية مما يحيل ممارسته الى عبث قد يحقق الامتاع الفني ولكنه امتاع زائف لا يخدم الحقيقة."إن الشخصية المنعزلة عن إدراك وظيفتها الجدية في الحياة – كما هو مناخ الحضارة الأوربية في تياراتها العابثة والمتخمة والباحثة عن الامتاع الرخيص – من الممكن أن تتساوق مع امثلة هذه المهارات التذوقية في موضوعيتها وعبثيتها، مع ملاحظة أن الجناح الآخر من الحضارة الاوربية – وهي التيارات التي تناهض العبثية – لا تتجاوب مع هذه الاتجاهات حيث نلاحظ مقاومة حادة لها من خلال شخصيات لها ثقلها الأدبي"(155) ترفض هذا النوع من النقد المسمى بالتفكيكي وترى أنه يقوم على مواقف استعراضية أو استفزازية تصادف هوى من جانب المثقف الامريكي صاحب المزاج الذاتي الخاص أكثر مما يقوم على مرتكزات نظرية يسهل تلقفها وتطبيقها مثل ما كان الأمر في النقد الجديد.

ويرى آخرون أن التفكيك يشبه الموضة التي تظهر في الوقت المناسب لإشباع حاجة مرتبطة بالذكاء التسويقي ليس غير (156). "وتركزت المناقشات المعارضة للتفكيكية في معظمها على البداهة أو اللغة الاعتيادية. وقد لعب الفيلسوف لودفيج ويتجنستون (1889-1951) دوراً كبيراً في دعمها من منطلق أن مثل هذه الفلسفات اللغوية التشككية تستند في جذورها على نظرية معرفية مموهة تدفع المرء للبحث عن تطابق منطقي بين اللغة والعالم "(157). ومن وجهة نظر هذا الفيلسوف"فهناك خطأ فكري مستمر في النظرة النصية ما بعد السوسرية التي توجد ظاهرة مروعة للفصل بن الدال والمدلول. ولننظر الى هذه الظاهرة كمشكلة او تناقض ظاهري معناه إعادة نفس الاخطاء التقليدية المتضمنة إعادة توقع ارتباط اللغة مباشرة بالأهداف أو الافكار.

وهذا استناداً لرأي ويتجنستون واتباعه هو جذر جميع الفلسفات الشكوكية حيث دفعت هذه الفلسفات الى الارتباك والتناقض الظاهري بعدم الأخذ بنظر الاعتبار تنوع احتمالات المواءمة بين اللغة،المنطق والواقع"(158) كما نجد هذا الارتباك والتناقض في العديد من مقولات التفكيكية التي تفتقد البرهان على صحتها كمقولة الكتابة التي يقدمها دريدا على الكلام مع استحالة البرهان على أولوية الكلمة المكتوبة، كما يرى ذلك إيلس حيث يقول: "حتى اذا سلمنا بأن الكلام لا يمكن أن يوجد قبل إمكانية الكتابة، فان دريدا يسلّم بأولوية الكلام المنطقية، لأن وجود الكلام هو الذي يجعل الكتابة ممكنة "(159). "ويطور ايلس نقده لفكرة الكتابة بأخذه على دريدا كونه يعامل الكلام والكتابة كمترادفين: (لايعني الكلام كتابة، واذا كنا نستخدم الكتابة كبديل من الكلام فنحن نقترف خطأ). إن الاتجاه الدريدي لاختزال مشكلات الكلام الى مشكلات كتابة – عظمى لا يشكل فقط نقطة ضعف في مقال التفكيكية، بل يشهد على القطع بين هذا المقال وعلم كالألسنية يميز بين خصوصيات اللغة المحكية وخصوصيات النص المكتوب"(160). وبالمثل تأتي مقولة (موت المؤلف) في التفكيكية كمغالطة يقصد منها جعل النص مفتوحاً لجميع الاحتمالات. وقد سجّلت هذه الفكرة حضورها" منذ ان دعا الاتجاه البنيوي الى عزل الكاتب عن نصه في مقاربة النصوص. لكن الذي طوّر الفكرة فيما بعد وأضفى عليها صبغة المشروع التأسيسي هو بارت في مشروعه التفكيكي وكذا دريدا، ومن قبلهما نيتشة بدعوته الى موت الإله وفوكو الى موت الانسان. فهي من الافكار المتجذرة في الفكر الغربي،، ومهما تلكأ هؤلاء المفكرون بأن الدعوة لاتعدو أن تكون مجرد قتل رمزي، إلاّ أنها تعبر عن حقيقة أزمة الانسان الأوربي الذي أوصله العقل الى التشكيك في كل شيء حتى ذاته"(161)، وقد قال ويتجنستون: "اذا حاولت ان تشكّ بكل شيء فلن تجد ما لايشك به. إن لعبة الشك بذاتها تفترض مسبقاً وجود الموثوقية في ما يُشك به"(162). وهذه هي المغالطة التي اعتمدتها التفكيكية في تمسكها بفكرة موت المؤلف واتخاذها مدخلاً للقارئ التفكيكي ذي المآرب اليهودية.

واذا أضفنا الى هذه الفكرة جملة المفاهيم والمصطلحات المستخدمة في تيار التفكيك، تبين ارتباط هذا التيار بالعقيدة اليهودية والتفسير الحاخامي للتوراة، وقد" سعى الدكتور عبد الوهاب المسيري – وهو الباحث المختص في التراث اليهودي – الى الإمساك بالخيط الذي يوصله الى الجذور التي تربط بين التفكيكية واليهودية، وقد تمكن استناداً على المصطلحات التي يقوم عليها التفكيك الوصول الى الصلات الموجودة بينه وبين التراث اليهودي. أول هذه الخيوط هو أن معظم دعاة الحداثة (التفكيك) من أصل يهودي (دريدا، هارولدبلوم، جابيس، كريستيفا، ليفيناس..) اما الخطوط الرئيسية فتتمثل في المناهج التي اتبعها هؤلاء والمصطلحات التي استخدموها في الترويج لفلسفتهم "(163) إذ ارتبطت بأوضاع اليهود الذين اقتلعوا من وطنهم الأصلي وتم إحلال شعب آخر محلهم، كما تم توطينهم في بلاد غريبة عنهم واليهودي يعيش في بلاد الغير وكأنه مواطن فيها مندمج في أهلها مع أنه في واقع الأمر ليس كذلك، فهو فيها وليس منها. فهو الغريب المقيم أو المقيم الغريب أو الحاضر الغائب، وهو كذلك المتجول الدائم الذي يحلم دائماً بأرض الميعاد وعلى وشك العودة دائماً ولكنه لا يعود، فهو الدال المنفصل عن المدلول أو الدال الذي له مدلولات متعددة بشكل مفرط (164). وهذه هي الدلالة المؤجلة ولا نهائية التفسير التي يقول بها دريدا وأتباعه، ومن عدم الاقرار بوجود الفرد اليهودي الذي يبقى هائماً يؤجل العودة إلى أرض الميعاد، يأتي الشك في كل قراءة تقوم على إقرار المعنى الواحد.

ومن تعدد تعريفات اليهودي وتقلبها بين المحافظ والاصلاحي والمجدد والملحد والمتهود ومن يصفه الناس بأنه يهودي ومن يشعر في قرارة نفسه أنه كذلك، يأتي تعدد القراءات إذ لا حقيقة إلاّ ما تصنعه إرادة القوة من منظورها الخاص وما تعتقد أنه حقيقة، فاليهودي/ الحقيقة اعتقاد من منظور معين يبقى قابلاً لتعدد الدلالة بتعدد قراءات الناس له (165). ومن تعدد التفاسير الحاخامية المدونة في التلمود وما تحيل عليه من تفاسير اخرى إلى مالانهاية دون الوصول إلى تفسير نهائي للكتاب المقدس الأصل (التوراة الغائبة)، يأتي غياب الدلالة وتأجيلها إلى مالانهاية لأنها تناص. "فالتفسير الحاخامي بهذا الشكل هو القاريء التفكيكي الذي اصطنعه نيتشة ودريدا، إنه إرادة القوة الذي يدخل النص من أية زاوية يشاء منصباً نفسه وصياً على النص/ التوراة بدعوى أن صاحبها قد مات (موت الإله، موت المؤلف) ولكن الاغرب في هذا أنه لايوجد قاريء واحد بل هم قراء كثيرون، أي لا يوجد تفسير حاخامي واحد بل هي تفاسير، كل واحد منهم يحيل على الآخر دون أن يكون هناك تفسير قار، فيحجب النص/ الأصل ويضيع في ظل هذه التفاسير، فتتعدد الدلالة ويصبح النص نصوصاً والمقدس مدنساً والمطلق نسبياً والحاضر غائباً والقراءة إساءة قراءة. هو اليهودي الذي يعني كل شيء ولايعني أي شيء "(166). وبالاضافة إلى ما تقدم تشير الباحثة جياتري سبفاك في ترجمتها لكتاب دريدا (في علم الكتابة) بأن هذا الفيلسوف الفرنسي يهودي سفاردي وبأن بعض مقالاته مذيلة بتوقيع حبر يهودي اسمه رابي، وقد تبنى التراث السفاردي أسلوباً في التفكير يسمى الاسلوب الماراني وهو أن تقول شيئاً وأنت تقصد غيره وأصله اخفاء اليهودية واظهار الكاثوليكية عند يهود المارانو.

وهذا ما يريده دريدا من مبدأ تعدد القراءات ولانهائية الدلالة، لأنه يؤمن بأن مايقوله النص في اصل وضعه غير ما يقول في سطحه، وقد رهن ميلاد القاريء بموت المؤلف سعياً للتمويه والمغالطة ونشراً للشك في كل النصوص بدعوى انها تقف حاجزاً أمام حرية القاريء، لكن المضمر في كلامه هو ايمانه بالتفكير الماراني الذي يبدي صاحبه عكس ما يبطن، فما يبطنه هو الشك والغاء كل يقين، وما يبديه هو الحرص على حرية القاريء ومحاربة مركزية الصوت ومركزية العقل لكي يبقى تراثه الماراني بعيداً عن الانظار ولايثار الشك فيما يدعو اليه، ولايستطيع احد ان يصل إلى المسكوت عنه في خطابه مادام النص مفتوحاً لتعدد القراءات ولانهائية الدلالة.

ورغم ذلك فإن المصطلحات الشائعة في كتابات دريدا تقوم دليلاً على ما ابقاه مستوراً، ومنها مصطلح التشتيت كرمز لتشتت اليهود في العالم وغياب أرض تؤويهم، والانتشار رمز الهجرة الابدية للفرد اليهودي الذي خرج من وطنه إلى غير رجعة، والاختلاف رمز التعدد في مفاهيم الفرد اليهودي، والهوة رمز التحول في دلالة كل قراءة وعدم ثبات المعنى المرتبط بانعدام تعريف اليهودي وانعدام اصل التفسير الحاخامي (167). وهذا هو وجه التفكيكية الحقيقي بعد ان تنزع عنه مساحيق المصطلحات الكثيفة والعبارات الغامضة. هو وجه الهارب من الحقيقة التي تصدمه واللاجئ إلى أوهام التأويل والشك والعدمية.

ورغم كل المساوئ التي احاطت بمنهج التفكيك في النقد، فقد تبناه بعض النقاد العرب في مشاريعهم الحداثية لقراءة الأدب العربي القديم والحديث وتحليله، كما نجد ذلك لدى ادونيس في قراءته للشعر الجاهلي حيث نجده متأثراً بالفكر البارتي التفكيكي، في محاولته إقرار وتثبيت مبدأ تعدد القراءات أو لانهائية الدلالة التي قال بها رولان بارت، "ولعل من ابرز العلامات التي تصل تجربة ادونيس النقدية بالناقد الفرنسي بارت مفهوم (الشهوة) أو (اللذة)، اذ كثيراً ما ورد ذكر هذين المصطلحين في مشروع قراءة امرئ القيس لأدونيس، وكما لايغيب عن الاذهان فان هذين المصطلحين كانا اساس قيام المشروع التفكيكي في النقد البارتي"(168)، فهناك كتابان لبارت في هذا المجال احدهما بعنوان (لذة النص) والآخر بعنوان (شذرات من خطاب في العشق)، يعدان اصلاً لما أسماه ادونيس (شعرية الجسد) وعرضه كمشروع قراءة للشعر الجاهلي ولاسيما شعر امرئ القيس حيث يقول عن المرأة في شعر امرئ القيس: "المسألة بالنسبة اليه ليست مسألة حب لامرأة معينة يجد فيها تكامله، وانما هي مسألة لذة وامتلاك لما يحقق هذه اللذة. المرأة هنا وسيلة، وهي اذاً شيء يمتلك أي انها شيء يستهلك... ومن هنا نرى ان علاقة امرئ القيس بالمرأة تكشف عن أن شهوته لا ترتوي. فما تكاد تنطفئ حتى تشتعل من جديد... والشاعر يقول الشعر فيما تقوله الشهوة. كأن الشهوة نسيج حياته وشعره معاً وكلامه يتفجر حراً بلا تحفظ كما تنبجس المتعة في ممارسة الشهوة. ثمة علاقة عضوية بين الانفعال الشهوي والانفعال الشعري"(169) ومثلما يعكس هذا النص تأثر ادونيس برولان بارت في نقله مفهوم اللذة والشهوة إلى عالم الشعر، فهو يعكس ايضاً تأثره بهيدغر في حديثه عن لغة الشعر واتخاذ الشاعر للغة وسيلة لإثبات ذاته وتحقيق وجوده، حيث يقول: "إن الشاعر نفسه يقف بين الاول: الآلهة، والآخر:البشر. إنه الانسان الذي تم طرده إلى منطقة الـ(بين بين) بين الآلهة والبشر، ولكن يتقرر للمرة الاولى في هذا الـ(بين بين) فقط، ما هو الانسان وأين يقيم وجوده "(170).

وقد حاول ادونيس توظيف هذا الرأي الهيدغري في حديثه عن شعرية الجسد عند امريء القيس حيث رأى ان هذا الشاعر يعيش في اللغة بين فراغين / غيابين وكأن المكان المليء والزمان المليء هما النص – اللغة. وكأنما لامعنى لأي شيء إلا اذا اتخذ من اللغة جسداً له "ومن هنا يجب ان نلحظ أهمية اللغة للانسان كأن الانسان لايسكن في اللغة وحسب، كما يعبر هيدغر، وإنما يوجد فيها وبها ايضاً "(171). ويلاحظ هنا ان ادونيس يذكر اسم هيدغرصراحة كمصدر لفكرته عن اللغة وأهميتها للانسان والشاعر بالذات. ويؤكد هذه الفكرة في حديثه عن الشاعر الجاهلي حيث يقول:"هكذا تتأرجح حياة الشاعر الجاهلي بين الشيئية ومحاولة السمو على كل شيء. وبهذا المعنى نقول ان الأنا للشاعر الجاهلي هي الكون كله.

ولاتتأسس هذه الانا إلاّ باللغة وفيها. فاللغة للجاهلي طريقة وجود ومكان افصاح عن الوجود. انها وحدها وطنه فهو مقيم في كلماته لايبرح. اللغة لذلك مجده ونشوته "(172).

وما اقرب المسافة بين هذا الكلام وكلام هيدغر حيث يقول عن لغة الشعر:"اللغة هي بيت الوجود، في بيتها يقيم الانسان. وهؤلاء الذين يفكرون بالكلمات ويخلقون بها هم حراس ذلك البيت وحراستهم تحقق الكشف عن الوجود "(173). وهكذا يبدو واضحاً تأثر أدونيس بهيدغر في مفهوم اللغة الشعرية. ومن المعلوم ان فلسفة هيدغر تعد من الاسس المهمة لمنهج النقد التفكيكي.

وفي معالجة ادونيس لشعر الشنفرى باعتباره زعيم الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي، يظهر تأثره بآراء فوكو التي ضمنها كتابه (تاريخ الجنون)، ويعد فوكو من الفلاسفة الذين تبنوا المشروع التفكيكي في قراءة الفكر الاوربي، وله كتاب (الكلمات والاشياء) الذي اثار جدلاً في الساحة الفكرية في النصف الثاني من القرن العشرين. وإن مجمل الدعاوى التي يتبناها ادونيس ويسعى إلى توظيفها في قراءة الشعر العربي القديم، تجعله اقرب ما يكون إلى الاتجاه التفكيكي الذي يتزعمه جاك دريدا. ولو أجرينا مقارنة بين ما قام به ادونيس في نقده للفكر العربي وبين ما قام به دريدا في تقويضه للعقل الغربي، لوجدنا تشابها ً بين المشروعين يصل إلى حد التطابق والتماثل، فكما حاول دريدا تقويض العقل الغربي ووجه له النقد لكونه فكراً متمركزاً حول المنطق (اللوغوس)، حاول ادونيس تفكيك العقل العربي باعتباره فكراً متمركزاً حول الوحي، وكما ادان دريدا الفكر الغربي لتمركزه على سلطة الصوت (الحضور)، اتهم ادونيس الفكر العربي بأنه يقوم على سلطة الشفاهية ممثلة في الخطابة. وكما دعا دريدا إلى اللامركزية، لامركزية العقل والصوت، دعا ادونيس إلى لامركزية النص الديني القائم على المرجعية اليقينية. وكما دعا دريدا إلى إحلال علم الكتابة بديلاً عن الخطاب الشفاهي، دعا أدونيس إلى أحلال الكتابة بدلاً من اللغة المنطوقة (الخطابة) (174) وهذا التماثل بين الناقدين يدل على مدى افتتان ادونيس بأفكار دريدا ومشروعه التفكيكي الذي عرفنا اصوله اليهودية فيما سبق. وبالاضافة إلى ما تقدم فقد ابدى خطاب ادونيس تأثراً كبيراً بآراء الفيلسوف الالماني نيتشه الأب الروحي للمشروع التفكيكي في أوربا.

تبعية النقد العربي الحداثي لمناهج النقد الغربي:

يمثل ادونيس في حقل التفكيك، وكمال ابوديب في حقل البنيوية، وغيرهما في حقول اخرى يمثل هؤلاء جميعاً مدى سقوط النقد العربي الحداثي المعاصر في احضان النقد الغربي، ومدى تشرذم نقاد الحداثة العرب وانقسامهم بين مرجعيات متعددة يناقض بعضها بعضاً، ضائعين بين هالة الكشوفات التي وصل اليها الفكر الغربي واغراءاته المتكررة لهم بتبني مشاريعه النقدية، منساقين مع نظرياته الغريبة، باحثين عن نظير لها في التراث العربي، متناسين الفروق الجوهرية بين الحضارتين، مقلدين تقليداً اعمى مشاريع الغرب النقدية مكتفين بتعريب بعض افكاره وانجازاته.

حتى اكد بعضهم ان الناقد العربي يعيش شرخاً ثقافياً نتيجة الثنائية الآتية: الانبهار بمنجزات النقد الغربي، واستصغار المنجز العربي، وأوضح أن الحداثة العربية كانت نتيجة لهذا الانبهار لا سبباً له، وأن المعادلة اصبحت تتحول من التأثر بالآخر إلى الاندماج فيه وأن الحداثيين العرب أضافوا إلى سوء الفهم والتشويه، غربة المفاهيم المستوردة ومصطلحها النقدي، أي أن الفكر الحداثي العربي في حقيقة الامر ولد محكوماً عليه بالغربة، وأن القطيعة المعرفية مع التراث ولدت فجوة وفراغاً وجاء الفكر الغربي بوصفه البديل لملء ذلك الفراغ (175) وهذا هو الفارق الحاسم بين منتجي الحداثة ومستهلكيها.

لذلك يمكن القول "ان مقولة (النقد العربي المعاصر) لاتشكّل سوى وهم منهجي أيديولوجي تأتى من (أنا) مفتعلة متضخمة لاتبصر إلاّ نفسها من خلال وهمها الميتافيزيقي، ولاتنظر إلى الآخر إلاّ من خلال تعاليها الذي لايستند على ابجديات التعالي وسماته، فليست هناك منهجية عربية معاصرة في التعامل مع النصوص الابداعية، ويرجع السبب في ذلك إلى غياب الخصوصية العربية النقدية لأنها تنظر بعين الآخر وتقرأ بأدواته، وتحليلاتها لاتحمل هوية ذات مفاهيم خاصة تسهم في بناء منهج عربي نقدي مميز"(176). أما بالنسبة للنقاد الاسلاميين المعاصرين، فقد وقفوا موقف الناقد لمناهج الغرب ونظرياته النقدية، فوجد بعضهم ان اغلب هذه المناهج المتخذة في دراسة الأدب العربي تعتمد في الاساس على نظريات العامل الواحد لتفسير الحياة وظواهر النشاط الإنساني وقد ثبت أن التفسير الواحد عاجز عن الوفاء بفهم الانسان ونشاطاته فهماً حقيقياً. وكانت تلك النظريات اوربية المنشأ، ولدت في ظروف الصراع بين العلم والكنيسة، فكانت ردة فعل مادية ضد التوجه الديني المنحرف، وهذا امر الإسلام منه بمنجى ولايمكن اخضاع الفكر الإسلامي أو الادب الإسلامي له. وكثير من المناهج النقدية الحديثة طبقت النتائج التي توصل اليها بعض العلوم الطبيعية أو الاجتماعية، ومهما يكن من أمر (علمية) هذه العلوم خاصة الانسانية منها، فان محاكاة تلك العلوم واستخدام معادلاتها قد انتهى بها إلى مسخ التاريخ الادبي وتشويهه.

ومن الواضح ان هذه المناهج استعيرت من مناهج الدراسات الاوربية وطبقت على الادب العربي في مرحلة الضمور والتبعية والاستلاب، والفرق كبير بين التأثر بآداب الامم الاخرى في مرحلة التفوق الحضاري للامة كما حدث إبان رقي الحضارة الاسلامية وازدهارها، وبين تأثرنا في العصر الحديث بالحضارة الاوربية وآدابها في ظل التبعية والاعجاب والشعور بالقزمية والضآلة أمامها. وكان من نتائج هذه المناهج أن ألحق الادب العربي بمفاهيم غريبة عنه ودُرس على ضوء مفاهيم مستوردة طارئة شوهت هذا الأدب ومسخته مسخاً (177) و"لم نجد في النظريات والاتجاهات المختلفة التي تعاقبت على الادب العربي النظرية التي تفي بحاجة هذا الادب وتقنع في درسه وتاريخه، فقد كانت هذه النظريات جميعاً، المفترضة منها والمطبقة سواء في اللفت إلى نحو من انحاء الدراسة والقصور عما عداه، والنظر إلى الادب من جانب واهمال الجوانب الاخرى وبدت كلها وعليها هذه الجوانب من النقص"(178) وكان من نتائجها ايضاً ما وقع من الفوضى والاضطراب في المفاهيم النقدية واختلاط المصطلحات، حتى قال بعضهم:"اتحدّى أي قارئ أن يخرج من مؤلفات الحداثة في العالم العربي، بالفارق بين البنيوية والحداثة وما بعد الحداثة والسميولوجية والتشريحية والاسلوبية والألسنية أو يعرف الفروق الدقيقة بين مناهج كل من كافكا وبيكيت وسارتر ويونسكو وفولكنر والان روب جرييه.

إن القارئ لايعرف ذلك لسبب بسيط وهو أن المؤلف نفسه لايعرف مايقرأ، هو فقط مأخوذ بالحداثة يسرع إلى تقديم المصطلحات الاعجمية والاعلام الاجنبية ويكتسب بذلك منزلة عند القارئ، وتتسابق الصحف واجهزة الاعلام إلى التقاط همهمته، فهو يعرف مالايعرف الغير وهو يجيد ثقافة العالم الغربي اكثر مما يجيدها الآخرون، وهو يرطن بلغاتهم ويتحمس لأفكارهم اكثر مما هم متحمسون "(179). ولذلك فقد تشدّد بعض النقاد الاسلاميين بإزاء المناهج والنظريات النقدية الحديثة وواجهها بالرفض لما رآه في أصحابها من حرص على هدفهم البعيد في محاربة الدين وافساد الاخلاق، والانسلاخ من أي معنى من معاني الايمان، وإحلال مذهبهم المادي الذي يؤثر المنفعة ويرفض كل امر غيبي، عاملين على تشويه الصورة الرائعة التي رسخت في اعماق المسلمين عن دينهم، بإثارة الشبهات حول تاريخ المسلمين وعقيدتهم، هذا فضلاً عما في مناهجهم النقدية الحديثة من تباعد وتناقض وتجافٍ مع روح الأدب العربي الإسلامي ومع حقيقة العصور التي يحاولون درسها وتقويمها، لذلك جاءت احكامهم متضاربة وبعيدة عن الموضوعية تتحكم فيها المناهج الحديثة وتفرض عليها هذه النتائج (180).

حدود التعامل مع مناهج النقد الغربي:

هناك بعض آخر من النقاد الاسلاميين يرى أن التعامل مع هذه المناهج المادية ضرورة عصرية لفهم الواقع واعتماد خطابه من اجل أن يكون التأثير أشد، اضافة إلى ثبوت التفوق الغربي في الخبرة الأدبية نقداً وإبداعاً مما يهئ لمزيد من إفادة الأديب المسلم بتعميق خبراته لانتقاد سيول الأدب المادي المتدفق من الغرب ولإخضاعه للمنظور الإسلامي.

وعند احالة المسألة إلى الاصول الفقهية والشرعية، فإن الأسس الشرعية للتعامل مع الموروث الجاهلي يمكن اتخاذها اساساً في التعامل مع المناهج المادية الحديثة، إضافة إلى المبدأ الفقهي الشهير الذي يقضي بأن الاصل في الامور هو الاباحة مالم يرد نص بالتقييد، فهذا المبدأ كفيل بدفع أدنى شبهة اعتراض أو توجس حول التعامل مع هذه المناهج مادام هذا التعامل يتم من خلال اصول ومعايير اسلامية إذ إن النصوص الواردة بهذا الصدد لاتلغي هذا التعامل ولاتشجبه بل تدعو اليه وتحبذه، ومن هنا ينتقل الامر من دائرة الاباحة إلى الطلب في حدود الضوابط والضرورات الشرعية والعملية، واذا كان (الفعل يعتبر شرعاً بما يكون عنه من المصالح أو المفاسد) فان التعامل الإسلامي مع المناهج المادية بما يحققه من درء للمفاسد وجلب للمصالح يمثل ضرورة شرعية (181).

وإن"عدم التعامل الإسلامي مع هذا الوافد لايمنع سيوله المتدفقة إلى سائر بلدان العالم الإسلامي واضراره الناجمة عن ذلك في محيط الشعوب الاسلامية، تلك التي يعدّ من أبرزها طمس معالم الذاتية الاسلامية ومحوها تماماً وملء الفراغ العقلي بالقيم والمبادئ المادية، وصياغة العقلية الاسلامية صياغة غربية خالصة أو على الاقل صياغة هشة غير ذات ارتباط بالأصول الاسلامية بقدر ارتباطها بالغرب وقيمه ومبادئه ونزعاته، وذلك عين الضرر والحرج الذي تأثم به الامة جمعاء. وعلى هذا فإن الضرر والفساد في الحقيقة إنما يقع بالتخلي عن التعامل الإسلامي مع الموروث المادي لابتسويغه وممارسته. ثم إنه مادام هذا التعامل يقوم على المعيار الإسلامي ويضع هذا النتاج في أطره الصحيحة فكيف يؤدي إلى التقبل والانبهار؟ وكيف يخشى منه على ضياع الخصوصية الاسلامية؟ ثم إن الأمر قبل هذا وبعده هو دعم للخبرة الذاتية التي لايمكن الاكتفاء فيها بتجربة الذات – أياً كانت – بمقتضى التسليم المبدئي بالقصور البشري ومحدودية الذات "(182). وقال من يناصر هذا الموقف من النقاد الاسلاميين:"إننا لاننكر في الأدب الإسلامي المذاهب الادبية والمناهج المختلفة وما اكثرها، بل نأخذ منها ما يوافق ثوابتنا وتصورنا الإسلامي. أما ما اثارته الحداثة في هذا المجال من البنيوية إلى التفكيكية فهي تعبر عن اتجاهاتها الغربية الخاصة، ونحن لانقرها ونختلف كثيراً معها مثل قضية (موت المؤلف) اذ اننا نهتم بكل عناصر العمل الأدبي فكيف نلغي المؤلف وله تأثيره في العمل الأدبي بل هو صورة له.

وكذلك كيف نقر هذه القضية في القرآن الكريم والحديث الشريف؟ وهل هذا يقوله مسلم عاقل؟! كما نرى أن التفكيكية مثلاً تدعو إلى لانهائية المعنى وهذا خطر عظيم على الفكر والأدب. إننا لانصادر الرأي الآخر، لكن ندعو إلى دراسته بما يوافق ثوابتنا الاسلامية وتصورات ديننا للانسان والكون والحياة"(183). وبهذا يتضح أن منهج النقد الأدبي الإسلامي ليس منغلقاً على نفسه أو منقطعاً عن المناهج الاخرى، بل هو يفيد مما في هذه المناهج من نظرات صائبة ويتلافى مافيها من نقائص بعد دراسة دقيقة لأصولها الفلسفية وما تنطوي عليه مفاهيمها ومصطلحاتها من حقائق دفينة تغطيها الكلمات والعبارات البراقة الزائفة التي ينخدع بها المنبهرون بالغرب وانجازاته الفكرية.

* جامعة الكوفة-كلية الفقه/ قسم اللغة العربية

........................................
هوامش البحث
(1) الادب والصراع الحضاري /68
(2) ماثيوآرنولد، مقالات في النقد /28
(3) في الادب الاسلامي المعاصر /69
(4) الادب والصراع الحضاري /67
(5) في الادب الاسلامي المعاصر /70
(6) الادب والصراع الحضاري/68
(7) النقد الادبي. اصوله ومناهجه /164
(8) آرنولد، مقالات في النقد /23
(9) النقد الادبي. اصوله ومناهجه /165
(10) المصدر السابق /167
(11) ينظر: مقدمة في النقد الادبي /403
(12) احمد امين، النقد الادبي2/366
(13) مقدمة في النقد الادبي /398
(14) المصدر السابق /401
(15) النقد الادبي. اصوله ومناهجه /167
(16) الاسلام والادب/313
(17) د. شلتاغ عبود، مدخل الى النقد الادبي الحديث /234
(18) كارلوني وفيللو، تطور النقد الادبي في العصر الحديث /48
(19) د. احمد رحماني، نظريات نقدية وتطبيقاتها /120
(20) الادب والصراع الحضاري /72
(21) د. شكري فيصل، مناهج الدراسة الادبية /93
(22) الادب والصراع الحضاري / 83
(23) المصدر السابق /83
(24) نظريات نقدية وتطبيقاتها /121
(25) الادب والصراع الحضاري /75
(26) المصدر السابق /77
(27) المصدر السابق /77
(28) نظريات نقدية وتطبيقاتها /121
(29) احمد امين، النقد الادبي2/403
(30) الملامح العامة لنظرية الادب الاسلامي /167-168
(31) مدخل الى النقد الادبي الحديث /235
(32) الادب والصراع الحضاري /74
(33) المصدر السابق /75
(34) محمود البستاني، في النظرية النقدية /129
(35) ينظر: الاسلام والادب/305
(36) مقدمة في النقد الادبي /428
(37) الملامح العامة لنظرية الادب الاسلامي /165
(38) ينظر: د. عز الدين إسماعيل، التفسير النفسي للأدب /217
(39) زين الدين المختاري، المدخل الى نظرية النقد النفسي/16
(40) الملامح العامة لنظرية الادب الاسلامي /166
(41) ينظر: رنيه ويلك، اتجاهات النقد الرئيسية في القرن العشرين. ضمن كتاب: مقالات في النقد الادبي/155-159
(42) د. ابراهيم محمود خليل، النقد الادبي من المحاكاة الى التفكيك /58-59
(43) ستانلي هايمن، النقد الادبي ومدارسه الحديثة 1/246-247
(44) مقدمة في النقد الادبي/428
(45) مجموعة من الباحثين، مدخل الى مناهج النقد الادبي /71
(46) المدخل الى نظرية النقد النفسي/14
(47) مقدمة في النقد الادبي/429
(48) النقد الادبي ومدارسة الحديثة 1/249
(49) المصدر السابق 1/254
(50) ديفيد ديتش، مناهج النقد الادبي بين النظرية والتطبيق/537
(51) مدخل الى النقد الادبي الحديث/240
(52) الملامح العامة لنظرية الادب الاسلامي/166
(53) الادب والصراع الحضاري /80
(54) النقد الادبي. اصوله ومناهجه/214
(55) التفسير النفسي للادب/32
(56) النقد الادبي الحديث. من المحاكاة الى التفكيك/61
(57) في النظرية النقدية /128
(58) د. داود سلوم وآخران، تاريخ النقد الادبي/221
(59) د. احمد كمال زكي، النقد الادبي الحديث. اصوله واتجاهاته /184
(60) المصدر السابق/186
(61) النقد الادبي الحديث. من المحاكاة الى التفكيك /58
(62) النقد الادبي. اصوله ومناهجه/213
(63) في النظرية النقدية /128
(64) الاسلام والفن /76
(65) المصدر السابق /77
(66) ينظر: الاسلام والادب/306
(67) النقد الادبي الحديث. اصوله واتجاهاته /173
(68) في النظرية النقدية/127
(69) مدخل الى الادب الاسلامي/139
(70) النقد الادبي. اصوله ومناهجه /129
(71) مناهج النقد الادبي بين النظرية والتطبيق /413
(72) النقد الادبي. اصوله ومناهجه/130
(73) الادب والصراع الحضاري/69
(74) الاسلام والادب/293
(75) مقدمة في النقد الادبي/434
(76) الاسلام والادب/293
(77) نظريات نقدية وتطبيقاتها/22
(78) الاسلام والادب/294
(79) نظريات نقدية وتطبيقاتها/55
(80) نورمان فورستر، الحكم الجمالي والحكم الاخلاقي في النقد. ضمن كتاب:مقالات في النقد الادبي/141
(81) المصدر السابق /154
(82) نظريات نقدية وتطبيقاته/22
(83) ينظر: ويلبرس سكوت، خمسة مداخل الى النقد الادبي/197- 198
(84) الاسلام والادب/294
(85) المصدر السابق/297
(86) عبد الغني باره، إشكالية تأصيل الحداثة /65
(87) المصدر السابق /24
(88) ينظر: د.عبد العزيز حمودة،المرايا المحدبة /141
(89) ينظر: روجيه جارودي، البنيوية فلسفة موت الانسان /34
(90) النقد الادبي الحديث. من المحاكاة الى التفكيك /103
(91) ينظر: اشكالية تأصيل الحداثة /74
(92) النقد الادبي الحديث. من المحاكاة الى التفكيك /104
(93) المصدر السابق /104
(94) اديث كيرزويل، عصر البنيوية /291
(95) البنيوية فلسفة موت الانسان /33
(96) د. كمال أبو ديب، جدلية الخفاء والتجلي/7- 8
(97) إشكالية تأصيل الحداثة /98
(98) س. رافيندران، البنيوية والتفكيك /28
(99) المصدر السابق /17
(100) عبد الله ابراهيم وآخران، معرفة الاخر/27
(101) البنيوية والتفكيك /61
(102) غالي شكري، برج بابل. النقد والحداثة الشريدة /101
(103) يمنى العيد،في معرفة النص/38
(104) برج بابل. النقد والحداثة الشريدة /102
(105) اسئلة الحداثة بين الواقع والشطح /14
(106) في معرفة النص/121
(107) ينظر: محمد دكروب، تساؤلات امام الحداثة والواقعية /58
(108) ينظر: برج بابل. النقد والحداثة الشريدة /47
(109) تساؤلات امام الحداثة والواقعية /61
(110) المصدر السابق /56
(111) المصدر السابق/18
(112) د.عبد السلام المسدي، قضية البنيوية /28
(113) د.عبد الله محمد الغذامي، الخطيئة والتكفير/15
(114) المصدر السابق/8
(115) ينظر: معرفة الآخر/39-72
(116) ينظر: الحداثة في منظور ايماني /251
(117) الخطيئة والتكفير/22
(118) المصدر السابق/26
(119) تقويم نظرية الحداثة /173
(120) الخطيئة والتكفير/27
(121) سورة الشعراء،الآيتان(224-225)
(122) الخطيئة والتكفير/262
(123) سورة الشعراء،الآية(227)
(124) د.كمال ابو ديب، في الشعرية/14
(125) المصدر السابق /22
(126) حسن ناظم، مفاهيم الشعرية/183
(127) د.سعد البازعي،استقبال الغرب في النقد الادبي،المجلة الثقافية العدد(15) السنة2003م.ص14
(128) المصدر السابق/3
(129) ديوان ابن الرومي 3 / 396
(130) جدلية الخفاء والتجلي/96
(131) المصدر السابق/96
(132) يلاحظ تحليل سيد قطب لهذه الابيات في: النقد الادبي. اصوله ومناهجه/68
(133) الحداثة في منظور ايماني /134
(134) المصدر السابق /145
(135) اسئلة الحداثة بين الواقع والشطح /14
(136) النقد الادبي الحديث. من المحاكاة الى التفكيك /103
(137) د.عدنان علي رضا النحوي، النقد الادبي المعاصر بين الهدم والبناء/38
(138) معرفة الآخر/24
(139) المصدر السابق/25
(140) الاسلام والادب/35
(141) اشكالية تأصيل الحداثة /97-98
(142) الاسلام والادب/36
(143) إشكالية تأصيل الحداثة /108
(144) الاسلام والادب/317
(145) إشكالية تأصيل الحداثة /109
(146) وليم راي، المعنى الادبي. من الظاهراتية الى التفكيكية /162
(147) اشكالية تأصيل الحداثة /111
(148) البنيوية والتفكيك/163
(149) المصدر السابق/162
(150) المرايا المحدبة/291
(151) المصدر السابق/292
(152) النقد الادبي الحديث. من المحاكاة الى التفكيك /116
(153) بيير. ف. زيما، التفكيكية دراسة نقدية /158-159
(154) المصدر السابق/159
(155) الاسلام والادب / 319
(156) ينظر: المرايا المحدبة /259
(157) كريستوفر نورس، التفكيكية. النظرية والتطبيق /131
(158) المصدر السابق /132
(159) زيما، التفكيكية. دراسة نقدية /164
(160) المصدر السابق /165
(161) اشكالية تاصيل الحداثة /221
(162) نورس، التفكيكية. النظرية والتطبيق /134
(163) اشكالية تأصيل الحداثة /114
(164) المصدر السابق/114
(165) المصدر السابق/115
(166) المصدر السابق/116
(167) ينظر: المصدر السابق/117 – 118
(168) المصدر السابق/176
(169) أدونيس، كلام البدايات /47-48
(170) المرايا المحدبة /154
(171) كلام البدايات /46
(172) المصدر السابق /77
(173) المرايا المحدبة /153
(174) اشكالية تاصيل الحداثة /187
(175) ينظر: د.عبد العزيز حمودة، المرايا المقعرة /195،190،13
(176) د. محمد سالم سعد الله، التطابق والاختلاف.. حول اعادة كتابة النقد الاسلامي المعاصر. رابطة ادباء الشام– لندن. نت. تحديث 2005.ص3
(177) ينظر: الادب والصراع الحضاري/85
(178) مناهج الدراسة الادبية /221
(179) د. عبد الحميد ابراهيم، المصادر الغربية لنقاد الحداثة، موقع الاسلام اليوم. نت. تحديث 2006م. ص5
(180) ينظر: في الادب الاسلامي المعاصر/41
(181) ينظر: المنهج الاسلامي في النقد الادبي /129
(182) المصدر السابق/131
(183) من حديث الدكتور سعد ابو الرضا في: حوار مفتوح حول الادب الاسلامي، مجلة الدعوة الاسلامية، العدد(63) السنة2003م.ص24
.................................................
المصادر والمراجع
أ- الكتب:
1- القرآن الكريم، كتاب الله العظيم.
2- الأدب والصراع الحضاري، د. شلتاغ عبود شراد، دار المعرفة – دمشق 1995م.
3- أسئلة الحداثة بين الواقع والشطح، ميخائيل عيد، منشورات إتحاد الكتّاب العرب 1998م.
4- الإسلام والأدب، د. محمود البستاني، ستارة – قم /ايران 1422 هـ.
5- الإسلام والفن، د.محمود البستاني، مؤسسة الطبع والنشر في الآستانة الرضوية المقدسة / ايران 1409 هـ.
6- إشكالية تأصيل الحداثة، عبد الغني باره، الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة 2005م.
7- برج بابل. النقد والحداثة الشريدة، غالي شكري، دار رياض الريّس – لندن 1989م.
8- البنيوية فلسفة موت الانسان، روجيه جارودي، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة – بيروت 1979م.
9- البنيوية والتفكيك. تطورات النقد الأدبي، س. رافيندران، ترجمة خالدة حامد، دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد 2002م.
10- تاريخ النقد الأدبي،د.داود سلوم وآخران،مطبعة التعليم العالي والبحث العلمي– بغداد 1988م.
11- تساؤلات أمام الحداثة والواقعية، محمد دكروب، دار المدى – دمشق 2001م.
12- تطور النقد الأدبي في العصر الحديث، كارلوني و فيللو، ترجمة جورج سعد يونس، دار مكتبة الحياة – بيروت 1963م.
13- التفسير النفسي للأدب، د. عز الدين اسماعيل، دار المعارف – مصر 1963م.
14- التفكيكية. دراسة نقدية، بيير. ف. زيما، تعريب أسامة الحاج، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر – بيروت 1996م.
15- التفكيكية. النظرية والتطبيق، كريستوفر نورس، ترجمة رعد عبد الجليل جواد، دار الحوار– اللاذقية / سوريا 1996م ط2.
16- تقويم نظرية الحداثة وموقف الأدب الاسلامي منها، د. عدنان علي رضا النحوي، دار النحوي للنشر والتوزيع – الرياض 1994م ط2.
17- جدلية الخفاء والتجلي، د. كمال ابو ديب، دار العلم للملايين – بيروت 1984م.ط3.
18- الحداثة في منظور إيماني، د.عدنان علي رضا النحوي، دار النحوي لنشر والتوزيع – الرياض 1993م هـ4.
19- الخطيئة والتكفير، د.عبد الله محمد الغذامي، النادي الأدبي الثقافي – جدة /السعودية 1985م.
20- خمسة مداخل الى النقد الأدبي، ويلبرس سكوت. ترجمة د. عناد غزوان و جعفر صادق الخليل، بغداد 1986م ط2.
21- ديوان ابن الرومي، شرح الأستاذ أحمد حسن بسج، دار الكتب العلمية – بيروت 2002م.
22- عصر البنيوية، أديث كيرزويل. ترجمة جابر عصفور، دار آفاق عربية 1985م.
23- في الأدب الاسلامي المعاصر. دراسة وتطبيق، محمد حسن بريغش،مكتبة المنار – الزرقاء/ الأردن 1985م ط2.
24- في الشعرية، د. كمال أبو ديب، مؤسسة الأبحاث العربية – بيروت. د.ت.
25- في معرفة النص، د. يمنى العيد، دار الآفاق الجديدة – بيروت 1985م.
26- في النظرية النقدية، محمود البستاني، وزارة الاعلام – مديرية الثقافة العامة 1971م.
27- قضية البنيوية، د. عبد السلام المسدي، دار الجنوب للنشر – تونس 1995م.
28- كلام البدايات، أدونيس، دار الآداب – بيروت 1989م.
29- مدخل إلى الأدب الإسلامي، د. نجيب الكيلاني، دار ابن حزم للطباعة – بيروت 1992م.
30- مدخل إلى مناهج النقد الأدبي، مجموعة من الباحثين ترجمة د.رضوان ظاظا،سلسلة عالم المعرفة (221)، الكويت 1997م.
31- المدخل الى نظرية النقد النفسي، زين الدين المختاري، منشورات اتحاد الكتاب العرب – دمشق 1998م.
32- مدخل الى النقد الادبي الحديث، د. شلتاغ عبود، دار مجدلاوي للنشر – عمان /المصدر 1998م.
33- المرايا المحدبة، د. عبد العزيز حمودة، عالم المعرفة – الكويت 1998 م.
34- المرايا المقعرة، د. عبد العزيز حمودة، عالم المعرفة – الكويت 2001م.
35- معرفة الآخر. مدخل إلى المناهج النقدية الحديثة، عبد الله ابراهيم وآخران، المركز الثقافي العربي – بيروت 1996م. ط2.
36- المعنى الادبي. من الظاهراتية الى التفكيكية، وليم راي،ترجمة د. يوئيل يوسف عزيز، دار المأمون لترجم والنشر – بغداد 1987م.
37- مفاهيم الشعرية، حسن ناظم، المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت 2003م.
38- مقالات في النقد، ماثيوآرنولد، ترجمة علي جمال الدين عزت، الدارالمصرية للتأليف والترجمة – القاهرة. د.ت.
39- مقالات في النقد الأدبي، د. إبراهيم حمادة، دارالمعارف – مصر. د.ت.
40- مقدمة في النقد الادبي، د.علي جواد الطاهر، المؤسسة العربية للدراسات والنشر– بيروت 1983م. ط2.
41- الملامح العامة لنظرية الأدب الإسلامي، د. شلتاغ عبود، دار المعرفة – دمشق 1992م.
42- مناهج الدراسة الأدبية، د. شكري فيصل، دار العلم للملايين – بيروت 1982م. ط5.
43- مناهج النقد الادبي بين النظرية والتطبيق، ديفيد ديتش. ترجمة د. محمد يوسف نجم، دار صادر– بيروت 1967م.
44- المنهج الاسلامي في النقد الأدبي، د. سيد سيد عبد الرازق، دار الفكر – دمشق 2002م.
45- نظريات نقدية وتطبيقاتها، د. أحمد رحماني، مكتبة وهبة للطباعة والنشر – القاهرة 2004م.
46- النقد الأدبي، أحمد أمين، دار الكتاب العربي – بيروت 1967م ط4.
47- النقد الأدبي. أصوله ومناهجه، سيد قطب، د.ت.
48- النقد الأدبي الحديث. أصوله واتجاهاته، د. أحمد كمال زكي، الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة 1972م.
49- النقد الأدبي الحديث. من المحاكاة الى التفكيك، د. ابراهيم محمود خليل، دار المسيرة – عمان / الأردن 2003م.
50- النقد الأدبي المعاصر بين الهدم والبناء، د. عدنان علي رضا النحوي، دار النحوي للنشر والتوزيع – الرياض / السعودية 1995م.
51- النقد الأدبي ومدارسه الحديثة، ستانلي هايمن. ترجمة د. إحسان عباس و د. محمد يوسف نجم، دار الثقافة – بيروت 1958م.
ب- مقالات وأبحاث من المجلات والمواقع الالكترونية:
1- استقبال الغرب في النقد الأدبي، د. سعد البازعي، المجلة الثقافية العدد (15)السنة 2003م.
2- التطابق والاختلاف.. حول اعادة كتابة النقد الاسلامي المعاصر، د. محمد سالم سعد الله،.
رابطة ادباء الشام– لندن. نت. تحديث 2005
3- حوار مفتوح حول الادب الاسلامي، من حديث الدكتور سعد ابو الرضا، مجلة الدعوة الاسلامية
– 2003م.
4- المصادر الغربية لنقاد الحداثة، د. عبد الحميد ابراهيم، موقع الاسلام اليوم.نت. تحديث 2006م.

اضف تعليق