q
د. منى حسين عبيد

 

ان أزمة الهوية التي يعاني منها العراق تدعونا للتساؤل: هل الهوية الوطنية العراقية هوية متكاملة ام انها تعرضت للتشرذم لاسيما بعد الاحتلال الامريكي للعراق وماذا تعني الهوية الوطنية هل هي مجموعة القيم والأخلاق والعادات والممارسات والمعتقدات التي تؤمن بها جماعة بشرية تجمعها أرض جغرافية مستقلة لا تخضع لأي نوع من أنواع الهيمنة وتعكس أفعالها التقيّد بنُظم وأعراف المجتمع واحترام سيادة القانون فيه أم لا؟ وإذا كان الأمر كذلك هل يستطيع المجتمع العراقي الحفاظ على هويته الوطنية وفق هيمنة معايير وقيم الدول والتكتلات العظمى على مختلف مناحي الحياة؟

من وجهة نظري أن الهوية الوطنية تعني الانتظام العام غير المشروط في الحفاظ على كل مكونات ومكتسبات ومصالح وقيم وعادات وتقاليد ونظم مجتمع يحمل أفراده الجنسية نفسها في دولة ما وفق مبدأ أخلاقي في إطار مجتمعي متماسك والالتزام بما ينص عليه الدستور والقوانين المحلية والدولية واحترام المبادئ الإنسانية المشتركة والسماح بالاختلاف وتنوع الأفكار والرأي الآخر ومعتقده ووجهة نظره إن لم يمس الاختلاف والقيم والآراء والأفكار سيادة ووحدة الوطن مع الاعتراف المطلق بأن تربية الأجيال على حب الوطن وحبها له وطاعتها لولاة الأمر والتضحية للحفاظ على مكتسباته وهويته والدفاع عن أراضيه وحدوده هي مسلمات لا تقبل التفاوض وتقديم التنازلات.

من جانب آخر أن الهوية الوطنية منظومة مركبة معقدة ليس بالسهولة أن يتم تجاهل معطيات التشابك فيها، فهي تحتوي بصورة طبيعية على مقومات وممارسات الولاء والانتماء واتّباع عادات وتقاليد وقيم معينة يتحكم بها علاقة الفرد بخالقه والنفس والأسرة ومحيطه العائلي والقبلي والمجتمعي في القرية، أو الحي والمدينة ومن ثم الدولة ككل في ما يطلق عليه بصورة كلية مجتمع الهوية الوطنية، ولذلك، فإنه لنجاح أي خطة توضع لحل مشكلة الهوية الوطنية والانتماء يجب أن لا يغفل أي عنصر من عناصر مكونات التفاعل للبناء والمحافظة على الهوية الوطنية بصورة فردية ومجتمعية لا سيما في ما يخص العامل المشترك الأكبر، ألا وهي اللغة وأهمية الحفاظ عليها كوسيلة تُخاطب لفظي وخطي وموروث أزلي.

وفي الواقع، قد تبتعد الهوية عن مجتمع ما وفي ظروف زمنية محـددة، ولكنهـا سرعان ما تعاود لبناء نفسها، فالمجتمعات المأزومة تعاني خللا" تركيبيـا" في بنائها يقودها في بعض الأحيان إلى التفكك والتشرذم تحـت عنـاوين وهويات فرعية (ثانوية) لا تقوى على الصمود والاستمرار لوحدها نتيجة للتزاحم المفترض فيما بينها، أو مع محيطها الإقليمي والدولي. فالعراق بعد 2003 /4/9 ومن خلال تعرضه للاحتلال والتدمير في بناه التحتية جميعا، وتعرض مؤسساته القانونية والشرعية للتدمير، قد دخل مرحلة الخطـر، وأصبحت وحدته الوطنية مهددة بالشظية وغابت هويته الوطنيـة، تحـت عناوين الهويات الفرعية القومية والدينية والطائفية ودخـل فـي مرحلـة مقدمات الحرب الأهلية الطائفية. ولقد ساهمت القوى السياسـية بمختلـف اتجاهاتها على تفتيت الهوية الوطنية، اذ ان السياسيين الطائفيين هم سبب هذا التصدع الحاصل في الهوية لذا لا نعول على السياسيين في المعالجة فهم جميعا مسؤولون عن هذا التصدع في الهوية الوطنية.

وفي الحقيقة، ان الهوية لم تكن ضائعة في العراق وان العراقيين لا يختلفون عن اي بلد عربي مثلا ولكن الروح الوطنية وتداخل الدين والعشيرة وضعف القانون وهبوط المستوى السياسي ادت الى ذلك اضف الى ان الطائفية إذا كانت هي واحدة من اسباب غياب الهوية الوطنية فأنها لم تكن وليدة اليوم والصراع المذهبي الحالي لانها موجودة منذ بداية تاسيس الدولة العراقية

ولا بد لنا من أن نقول أن الهوية الوطنية لدى الفرد العراقي كانت قد تعرضت للكثير من التشويه من جراء ما مارسه المجتمع السياسي من خلال فهم أن الهوية الوطنية يعني إلغاء (الذات) وتقمص ذات أخرى تفرض قسرا، وبهذا فإن الهوية الوطنية العراقية لم تنبع من ذات الأفراد بشكل تلقائي بل تمت هذه العملية من خلال ما مارسته الدولة ونخبها المؤطرة بأيديولوجيا قومية اقصائية من عمليات الصهر والدمج القسري لجميع مكونات الشعب العراقي على اختلاف أطيافه الأثنية والدينية والمذهبية.

إن التناشز الذي حصل في علاقة الدولة والمجتمع سببه، إن الدولة دائما لديها مشروع سياسي بعيد عن تطلعات وثقافة المجتمع، أو يتقاطع مع الخلفية الثقافية لبعض المكونات، مما يفضي بالدولة إلى أن تمارس القسر والإكراه لفرض مشروعها السياسي.

ان تجربة سنوات ما بعد الاحتلال الأمريكي وحتى اليوم تبرهن على أن المشاريع الأجنبية تبقى غريبة مهما كانت نواياها وغاياتها. كما أن القوى الجزئية من أقليات قومية أو طائفية أو هامشية اجتماعية وسياسية، لا تصنع غير التجزئة والعيش بمعاييرها. فهو أسلوب “ازدهارها” الوحيد. لكنه “ازدهار” سريع الزوال لأنه يتعارض مع حقيقة الهوية العراقية بوصفها هوية تاريخية ثقافية وليست قومية أو عرقية أو طائفية أو جهوية. وهي الحصيلة التي ينبغي وضعها في صلب الفكرة القائلة، بان نجاح أي مشروع كبير هو أولا وقبل كل شيء نتاج لتراكم الرؤية الواقعية عن طبيعة وحجم الإشكاليات التي تواجهها الأمة والدولة. وفي الحالة المعنية يفترض “العيش المشترك” في العراق تفعيل الهوية الوطنية العراقية بوصفها مرجعية العيش المشترك، أي تحقيقها العملي من خلال صياغة الأوزان الضرورية للهوية العراقية العامة والهويات الجزئية، للدولة الشرعية والسلطة الديمقراطية.

ان بناء دولة عصرية يتطلب كخطوة أولى تجاوز أطر الجماعات الاثنية والمحلية لصالح بناء مؤسسات وأطر وطنية شاملة. أي إقامة جهاز سياسي وإداري على مستوى الوحدة السياسية للدولة ككل، وهذا لا يعني في كل الأحوال القضاء على خصوصية الجماعات الاثنية الفرعية ضمن إطار الجماعة الوطنية الشاملة التي تضم عموم الجماعات الوطنية.

فالمواطنون العراقيون يجب أن يشعروا كأفراد بهويتهم الشخصية، محددًة بانتمائهم إلى وطنهم المحدد إقليميًا، وأن يتم ذلك من خلال تحقيق الحرية والمساواة وإعطاء الشعب دوره في المشاركة السياسية وبناء دولة دستورية شرعية تمثل كل مكونات المجتمع العراقي، وأن توزع الثروات

دون إهمال أو تناسي، وعلى المؤسسة السياسية بسلطاتها الثلاث أن تعالج الفقر وأن تشيع المساواة، وأن ترسخ العدالة، وأن تحد من القهر السلطوي، حتى تكون الدولة ممثلة للقوى الاجتماعية كافة، وبذلك يمكن التغلب على نوع من الصراع الاثني الذي يحدث بين أبناء الجماع.

فضلا عن كل ما تقدم، فان تكوين وبناء الهوية الوطنية العراقية ليس بالعملية الشاقة، وبغض النظر عن المشاكل والصعوبات، فإن المسألة بحاجة إلى إعادة نظر بترتيب مكونات الهوية الوطنية، وأمر كهذا لا يمكن الوصول إليه إ لا من خلال الحوار الوطني بين المكونات الأساسية

من أجل رفع هواجس الخوف والخشية وعدم الثقة التي تراكمت خلال الفترة الزمنية المنصرمة. فالحوار يجب أن يتجه نحو الشعور بالذات بدلا من نحن والآخر، ويقبل الآخر والاختلاف عنه، لذا فان إشاعة الحوار بالتعرف على الآخر داخل الوطن هو بداية تكوين الهوية الوطنية، وإذا

كان هناك إصرار على أن لا جماعة بلا أيديولوجية ولا فرد بلا رأي، فإن الضرورة تقتضي أن يكون الوطن هو الأيديولوجية التي تجمعنا.

فضلا عن فتح جميع الآفاق في التوافق والاختلاف في حدود روح المواطنة الحقة، أي ان تتعدد الرؤى، ولكن لا تتعدى سقف مصلحة الوطن والمحافظة عليه، من خلال التأكيد على أسس الشراكة ونبذ المركز والأطراف أو حكم الأقلية والأغلبية، وإنهاء التميز غير العادل في توزيع

الثروات في ظل الإيمان بضرورة التوازن العام في حركة القيم المختزنة في المجتمع وإدارته على قواعد إنسانية تضمن العدالة الاجتماعية.

لكن الوضع الحالي في العراق جعل الأمور تبدو أكثر تعقيدًا، وينعكس سلبًا على صعيد إعطاء هوية وطنية واحدة تعلو فوق كل الولاءات والانتماءات الضيقة لهذه الجماعات المتباينة ومن أجل تجاوز هذه الإشكاليات لابد من تصحيح المسارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العراق، عليه نقدم المقترحات والتوصيات الخاصة بتماسك الهوية الوطنية العراقية:

1-الحد من التدخلات السياسية الإقليمية التي ساهمت من خلال تدخلها في تعقيد الهوية الوطنية العراقية وزيادة إشكالياتها.

2- قيام نظام سياسي يؤمن بالتعددية، ويحفظ الحقوق والحريات العامة لكل أفراد الشعب من دون تمييز، ويضمن مساهمة الجميع في صنع القرار العراقي، وحصول أبناء الجماعات الوطنية على نصيب عادل من السلطة يتناسب مع وزنها السكاني.

3- العمل على تجاوز السلبيات التي حدثت داخل المجتمع العراقي بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 ، من خلال تعزيز ثقافة التسامح وترسيخ روح المحبة بين المواطنين والابتعاد عن تصفية الحسابات.

4- نبذ العنصرية والطائفية ورفع مصلحة الوطن فوق الانتماءات الفرعية.

5- إقامة حوار وطني لبناء قواعد ثقة متبادلة بين مكونات المجتمع العراقي، إذ سبق وأن تعرض العراق إلى الاحتلال البريطاني في بدايات القرن الماضي ونتج عنه تحديات كبيرة على الوحدة الوطنية،الا ان ائتلاف كافة القوميات والمذاهب أفشل سياسة الاحتلال البريطاني في تنفيذ سياسة )فرق تسد( واستطاعت الإرادة الوطنية أن تؤطر الوحدة الوطنية وتنهي الاحتلال آنذاك.

6- في الجانب الاقتصادي، من الضروري توزيع الثروات بصورة عادلة، والعمل على تحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في مناطق العراق بما يعزز صهر المكونات الاجتماعية المختلفة في بوتقة واحدة، انطلاقًا من اعتبار الوطن جسدًا واحدًا وكيانًا متكاملا ينبغي أن يكون صحيًا وصلبًا من أصغر مواطن إلى أعلى مركز تنفيذي كي يمارس كل فرد دوره بكفاءة واقتدار ويتناغم مع منظومة المجتمع العراقي.

7-اما في المجال الثقافي، فان التعددية الثقافية في حد ذاتها ليست مشكلة، فمن حق كل فرد وكل جماعة أن يكون لها من الطرائق الفكرية والمذهبية ما تريد، شريطة أن تكون كل المرجعيات الثقافية قائمة على أساس المصالح الوطنية العليا، لذا يجب أن تأخذ الدولة بالحسبان الخصوصية الثقافية لأبناء الجماعات الوطنية، على أن لا تشكل تلك الخصوصية خرقًا لمسلمات الوطن، والهوية الوطنية يجب أن تحتوي التعددية مع ضرورة التلاقي الثقافي، وضرورة رفع مستوى التعليم في كل أنحاء العراق،لان انخفاضه يساهم في تنامي النزعة الانقسامية والانفصالية في المجتمع العراقي مع ضعف الإحساس الوطني.

8- أن على أي حكومة وطنية أن تمتنع عن دعم الأحزاب والشخصيات والهيئات المؤيدة لتوجهاتها وخصها بالامتيازات والمنافع والظهور لها كممثل شرعي ووحيد، كذلك الامتناع عن ضرب العناصر المناوئة لسياساتها، وهذا يتطلب إيجاد آلية تساهم في ترسيخ اندماجها الوطني

من أجل تكريس الوحدة الوطنية، وعن طريق اللجوء إلى الأساليب المبنية على أسس التحاور في إيجاد مخرج للجوانب العالقة، والإيفاء بالوعود والالتزامات، وعدم الاحتكام إلى لغة العنف والسلاح.

9- على صناع القرار السياسي العراقي إيلاء قضية حقوق الإنسان (كتطبيق وممارسة)مزيدًا من الاهتمام والرعاية بعيدًا عن الشعارات والكلام، والاهتمام بحقوق الإنسان قولا وفعلا يعكس السلوك الحضاري للدولة، كما يزيد من ارتباط الشعب بالوطن.

10- العمل على إعادة النظر في بعض مواد الدستور العراقي لعام 2005 ، بما يعزز مفردات الوحدة الوطنية، والابتعاد عن المواد الدستورية الخلافية،لأن الدستور يعد من أهم عوامل تكريس الوحدة الوطنية.

11-استحداث مجلس خاص يعني بالوحدة الوطنية، ويضم جميع التيارات الفكرية والقوى السياسية والزعامات المحلية التي تمثل كل أطياف المجتمع العراقي، فضلا عن الاستعانة بخبراء متخصصين في كل المجالات الواجب الاستشارة فيها وطرح برنامج وطني لبناء العراق يستند إلى فكرة المواطنة الصادقة والنقية بغض النظر عن الجنس والعرق والطائفة، واعتبار رابطة المواطنة هي المعيار المشترك ومن أجل الخروج من هذه الأزمة لابد أن يكون هناك حوار صريح وهادف وجدي بين مكونات الشعب العراقي لإرساء أسس وطنية تستند إلى الموروث الثقافي والحضاري والتاريخي للعراق وتكون قادرة على إعادة اللحمة إلى المجتمع العراقي.

12-إعادة تشكيل العديد من الأحزاب والحركات السياسية العراقية على أسس المواطنة وليس الطائفة أوالقومية أو الدين ، وضرورة أن تتخلى هذه الأحزاب والحركات عن صيغتها المناطقية كأن تكون الأحزاب الفلانية ممثلة للمناطق الشمالية وأخرى للمناطق الجنوبية والوسطى وثالثة للمناطق الغربية

13- ضرورة أن يكون خطاب الرموز السياسية والدينية العراقية خطاباً وطنياً موحداً وليس خطاباً ضيقاً نظراً لما يمكن أن يتركه الخطاب الأخير من انعكاسات سلبية تؤدي إلى توليد المزيد من حالةالاحتقان الطائفي والحقد بين أبناء الشعب الواحد .

14-حاجة العراق إلى شخصيات أو زعامات سياسية يوحد الإجماع عليها كبداية لبناء اللحمة الوطنية غائبة حالياً عن الساحة السياسية أو يتم التضييق عليها.

15-أن الغاء الحدود والتمايزات ما بين الطوائف والأقليات العرقية والدينية والطائفية يبدو صعباً على المديين القريب والمتوسط اذ ان لكل طرف خصوصيته ، لكن يمكن على المدى البعيد إضعاف هذه الحدود والتمايزات دون إلغائها(والتي عادة ما يكون لها غلاة في كل طائفة أو قومية يدافعون عنها) من خلال خلق قاعدة للتعاون المشترك تعتمد إقامة شبكة من الروابط المعقدة والمتشابكة، ووضع كوابح وعوائق قانونية أو عرفية تمنع تفكيك هذه الروابط وفصم عراها مما سيسهل من مهمة القائمين على تشكيل هوية عراقية مشتركة وإقامة ثقافة سياسية مشاركة تقوم على قاعدة رصينة وقوية.

بصريح العبارة إن اليقظة المتأخرة بعض الشيء لجميع اللاعبين السياسيين، وشعورهم بحافة الهاوية، إزاء نزيف هائل من الدماء العراقية، جعلهم يتراجعـون بعض الشيء، لان الخسارة سوف تعم الجميع، ومن هنا تحديداً تراجـع العنف ومعه تراجع شبح الحرب الأهلية، وعـاد الجميـع للبحـث عـن المشتركات مع الآخر لتجسير الهوة التي خلفها الاحتلال، وأنانية رجـال السياسة لقد عاد الجميع للبحث عن الهوية العراقية بعـد أن ضـاعت أحلام القوميين قبلهم في أحلال القوميـة العربيـة الواحـدة، وأصـبحت معطيات الواقع هي أقرب لتبني الهوية المحلية (الهوية الوطنية العراقيـة) وهي هوية المواطنة المستقبلية.

........................................
* بحث مقدم لمؤتمر الاستقرار الأمني والمجتمعي في العراق لمرحلة ما بعد داعش، الذي عقد من قبل مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية جامعة بغداد، وبالتعاون مع مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام بتاريخ 23/10/2017.

اضف تعليق