q
لم يتمكن العراق حتى الآن من إيجاد وتطبيق سياسيات وآليات وسبل ناجعة لمواجهة المشكلات المائية مع دول المنبع والمجرى، بما أثر بشكل سلبي مباشر على الواقع المائي والبيئي. ولهذا سنتناول المشكلات المائية مع هذه الدول الثلاثة، وما هي البدائل والخيارات المتاحة لمواجهة تلك الآثار...

يعاني قطاع الموارد المائية العديد من الأزمات والمشكلات ذات البعد الخارجي؛ لوقوع منابع أغلب نهر دجلة وكل منابع نهر الفرات خارج العراق، بالإضافة إلى أن العراق دولة المصب الأخير للنهرين، مما يثير العديد من القضايا الخلافية بين العراق ودول المجرى (تركيا، سوريا، إيران) خاصة في ظل عدم توصل القانون الدولي لإيجاد معاهدات واتفاقيات ملزمة للدول التعاون في مجالات إنشاء المشاريع المائية على المجرى المائي الدولي بما يحقق عدالة في تقاسم المياه.

لم يتمكن العراق حتى الآن من إيجاد وتطبيق سياسيات وآليات وسبل ناجعة لمواجهة المشكلات المائية مع دول المنبع والمجرى، بما أثر بشكل سلبي مباشر على الواقع المائي والبيئي. ولهذا سنتناول المشكلات المائية مع هذه الدول الثلاثة، وما هي البدائل والخيارات المتاحة لمواجهة تلك الآثار.

أولا: الآثار السلبية للسياسات المائية التركية على العراق:

رغم وجود عدة اتفاقيات ومعاهدات بين العراق وتركيا تشير في بنودها إلى مشكلة المياه المشتركة إلا أن تركيا ترفض الالتزام بها وتعتبر أن النهرين نهر واحد من الأنهار التركية العابرة للحدود وليست أنهارا دولية كما يعدها العراق، ولهذا تمارس سياسة الاستخدام الأمثل للمياه وليس تقسيم المياه وفقا للاحتياجات المشتركة، فمنذ أول اتفاق عقد بين الطرفين عام ١٩٢٠ ثم عام ١٩٢٣ وأهمها اتفاقية الصداقة وحسن الجوار عام ١٩٤٦، وبرتوكول التعاون الاقتصادي والفني عام ١٩٧١ و١٩٨٠ وآخرها مذكرة عام ٢٠٠٩، التي تضمنت الأمور المتعلقة بتشغيل وإدارة مياه نهري دجلة والفرات.

إلا أن تركيا ترفض الالتزام والتوقيع على أي اتفاق مباشر يضمن حصة ثابتة أو حتى وفقا للاحتياجات العراقية، خاصة أنها لم توقع حتى الآن اتفاقية قانون استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية لعام ١٩٩٧، التي أقرتها الأمم المتحدة، مما أدى إلى نشوب أزمات متوالية تهدد بجفاف النهرين داخل الأراضي العراقية، ووفقا لذلك استغلت تركيا هذه الأسبقيات وضعف الجانب العراقي لإقامة مشاريع مائية على نهري دجلة والفرات أدت إلى أضرار مائية وبيئية كبيرة على العراق، بحدود ٢١ سد، ١٧ على الفرات ضمن مشروع GAP أهمها سد أتاتورك و٤ على دجلة أهمها مشروع سد اليسو، الذي سيعمل على تخفيض منسوب نهر دجلة من ٢٠ مليار م٣ إلى ٩ مليار م٣ في حال تشغيله، وهذا سيعمل على انحسار رقعة الأراضي الزراعية وزيادة رقعة المنطقة الجافة، مما يعمل على هجرة عكسية من المناطق الزراعية إلى المدن وما لهذه الهجرة من آثار اقتصادية واجتماعية سلبية نتيجة فقدان الأراضي الزراعية التي تسقى سيحا من نهر دجلة.

أيضا تقليص حصة العراق من المياه من قبل تركيا سيعمل على انخفاض مناسيب المياه في نهريه مما يعمل على إيقاف العمل في منظومات الطاقة الكهرومائية العراقية، وهذا سينعكس سلبا بشكل حتمي على بقية القطاعات الصناعية والإنتاجية التي تعتمد على هذه الطاقة.

كذلك ستتردى نوعية المياه العراقية في الأجزاء السفلى لمجرى النهرين بسبب مياه الصرف عن مشاريع الري المقامة في دول أعلى النهرين والأسمدة والأملاح، مما يؤدي إلى عدم صلاحية المياه للاستخدام البشري والزراعي.

تتفهم تركيا هذه الآثار السلبية على العراق، وتعمل على استثمار ورقة المياه سياسيا واقتصاديا وعسكريا، فهي دائما تلوح باستخدام ورقة المياه كضغط في حال ممارسة العراق أي سياسات مضادة لتركيا كإغراق أحواض الخزن العراقية أو حجب المياه عنه وتحويله لسدودها الكبيرة، كذلك تطمح تركيا للوصول إلى مرحلة مقايضة النفط بالمياه، أو توظيف ذلك لأغراض اقتصادية في ما يخص فتح الأسواق العراقية بشكل مستمر للبضائع التركية ومنح تراخيص مفتوحة للشركات الاستثمارية التركية، إضافة إلى منع أي تأثيرات أو انتقادات لسياساتها الداخلية والخارجية وتواجدها العسكري وطلعاتها الجوية شمال العراق ضد حزب العمال الكردستاني، هذه المعطيات جعلت ورقة المياه ورقة ضاغطة رابحة ضد العراق لتحقيق مكاسب على المستويات كافة.

ثانيا: الآثار السلبية للسياسات المائية السورية على العراق:

ترجع الخلافات المائية بين العراق وسوريا منذ عام ١٩٦٦ عندما أنشأت سد الطبقة وتجذر هذا الخلاف عام ١٩٧٣ بعد تشغيل السد وملئ بحيرته بالتزامن مع تشغيل سد كيبان من التركي مما تسبب بانخفاض مياه نهر الفرات إلى العراق بنسبة 75%، ورغم وجود اتفاق بين العراق وسوريا عام ١٩٨٩ ونفذ عام ١٩٩٠ لغرض تقاسم المياه إلا أن هذا الاتفاق لم يتطرق إلى إيرادات نهر الفرات من روافد الساجور والبليخ والخابور والتي تعد جزء من شبكة مياه النهر المتصلة به، وبالتالي لم يتسنى معرفة العراق حصته من مياه الفرات.

من ذات المنطلقات التي استغلتها تركيا، عملت على استغلالها سوريا مع العراق بعد أن دخلت باتفاق مع تركيا عام ١٩٨٧ مستبعدا العراق منه في تحديد حصته، شرعت سوريا بإقامة وتطوير العديد من المشاريع المائية على نهري دجلة والفرات منها سد وخزان الطبقة ومشروع سد البعث وسد تشرين الكهرومائي وأربعة سدود على نهر الخابور في الحسكة على نهر الفرات، أما دجلة فقط أنشأت سوريا محطة ضخ من النهر إلى قناة عين دوار، ومحطة الماليكة وسد الباسل.

هذه السياسات والمشاريع لها أيضا آثار وأضرار سلبية على العراق، ومنها: رفض سوريا مشاركة المعلومات المائية الحقيقية مع العراق، والمبالغة في تحديد حصة أسهامها في مياهه، وهذا ينطوي على ظلم للجانب العراقي ويحمل نتائج سلبية في صياغة سياسته المائية.

ولمشروع سحب مياه نهر دجلة إلى مدينة الحسكة ضمن مشاريع الري على الخابور تأثيرات سلبية على الواقع الاقتصادي والزراعي والبيئي العراقي، إذ سيؤدي إلى خروج آلاف الدوانم من الأراضي الزراعية عن العمل وتراجع القدرة على استصلاح أراضي جديدة.

وهذا ينطبق على مشروع سد الطبقة الذي نفذ دون التشاور أو الاتفاق مع الجانب العراقي وفقا للأعراف والقوانين الدولية المعهودة، إضافة إلى كل هذا تخطط سوريا لإرواء مساحات واسعة من الأراضي الزراعية من مياه نهر الفرات، وهذا يعمل على تردي نوعية المياه بسبب زيادة الملوحة فضلا عن الأسمدة الكيمياوية ومياه البزل، إضافة إلى الأضرار المسحوبة على محطات توليد الطاقة الكهربائية.

ثالثا: الآثار السلبية للسياسات المائية الإيرانية على العراق

من أهم الخلافات والمشكلات التي نشبت بين إيران والعراق هي الخلافات المائية، المتمثلة بالأنهار التي تنبع من إيران وتصب في العراق، إضافة إلى مشكلة شط العرب المستمرة إلى الآن.

منذ خمسينيات القرن الماضي عملت إيران بتحويل مجرى عدد من روافد نهر دجلة لداخل أراضيها وإنشاء عدد من السدود الاروائية التي حجزت خلالها كميات كبيرة من المياه الواردة إلى العراق وهو ما يتعارض مع مبادئ القانون الدولي، وأهم تلك الأنهار: الزاب الكبير، الزاب الصغير، نهر الوند، نهر كنكير، نهر قره تو، نهر وادي آب نفط، نهر الشهابي، نهر الطيب، دويريج، نهر كلال بدرة، نهر الكارون، نهر الكرخة، شط العرب، هذه المشاريع نفذت رغم وجود اتفاقيات ومعاهدات تاريخية بين الطرفين حول المياه، منها معاهدة أرضروم الثانية عام ١٨٤٧، واتفاقية شط العرب ١٩١٣، واتفاقية عام ١٩٣٧ لترسيم الحدود بين العراق وإيران، واتفاقية الجزائر عام ١٩٧٥، بعد إلغاء إيران العمل باتفاقية ١٩٣٧، وبقية التفاصيل معروفة، ولم يتوصل العراق وإيران لغاية الآن إلى أي اتفاق لتقاسم مياه الأنهار المشتركة بينهما.

واستغلت إيران هذه المعطيات بإقامة تلك المشاريع الضخمة على الأنهار المشتركة ألحقت أضرار فادحة بالعراق: إذ تسببت بهجرة العديد من المزارعين وعوائلهم من أهوار العراق مثل هور الچبايش بعد انخفاض مناسيب المياه فيه وعدم تدفق المياه إليه. وهذا تبعه تحمل العراق كلف إنشاء مشاريع نقل المياه للمناطق الحدودية مع إيران لري المزارع، مما عمل على عرقلة التوسع في استثمار الأراضي الزراعية، وأيضا تعرض العراق إلى أضرار وتغيرات مناخية بيئية وازدياد العواصف الرملية بسبب جفاف مناطق هور الحويزة وأهوار ميسان.

وتركزت الملوحة في المياه الواردة من إيران على نهر دجلة، مما تسبب بآثار سلبية على مشاريع الري نتيجة الترسبات الملحية ونقص الوارد المائي في شط العرب تسبب في اختلاف العلامات الحدودية بين البلدين، مما زاد من مساحة المياه الإقليمية لإيران على حساب العراق، أدى إلى أضرار في عمل الموانئ ومراسي السفن، فضلا عن أضرار بيئية على الأحياء المائية والثروة السمكية في شط العرب.

سبل المواجهة من الجانب العراقي:

1- الضغط على دول المنبع والمجرى بضرورة التفاوض من جديد وفقا لقواعد القانون الدولي، للتوصل إلى اتفاقيات ومعاهدات جديدة تراعي خصوصيات الواقع المائي الحالي بما يضمن حصة واحتياجات العراق من المياه بشكل عادل.

2- استخدام النفط كسلاح للحصول على الحصص المائية العراقية، إذ يجب أن تتضمن الاتفاقيات أو البروتوكولات أو أي مذكرات تفاهم ومفاوضات الاعتبارات النفطية والاقتصادية وربطها بتقاسم المياه، وبالإمكان منح تركيا وسوريا امتيازات تفضيلية في الأسعار النفطية كما هو الحال مع الأردن، مما يؤدي إلى جلوس الطرفين على طاولة المفاوضات بما يسهم بالوصول إلى اتفاقيات عادلة تؤمن حاجة العراق من المياه، والحصص يجب أن لا تكون ثابتة بل وفقا للاحتياجات الآنية والمستقبلية.

3- استخدام التبادل الاقتصادي والتجاري كسلاح في الحصول على حصص مائية كافية، إذ أن ميزان التبادل التجاري يميل لصالح الدول الثلاثة ويعد العراق رئة حيوية لها في تصريف السلع والبضائع، مقايضة هذا التبادل وربطه بالسياسات المائية يجب أن يكون أحد الخيارات الصريحة للجانب العراقي لإعادة ضبط التوازن في العلاقات مع هذه الدول لحاجته للمياه نتيجة الزيادة السكانية المتوقعة خلال السنوات القادمة.

4- العراق مع هذه البلدان الثلاثة يجمعها غياب الاستقرار السياسي أو الخوف منه، يجب على الجانب العراقي أن يستثمر هذه المخاوف، وأي دور يؤديه يسهم في تحقيق مصالح هذه البلدان يجب أن يكون ملف المياه من ضمنه، فانتهاج دبلوماسية لإدارة الأزمات الإقليمية أو التعاون بين الأطراف الثلاثة لن يمر عبر البوابة العراقية بدون مقابل خاصة في قطاع المياه. فمثلا قضية حزب العمال الكردستاني بخصوص تركيا ومحاربة تنظيم داعش والحدود مع سوريا، والمخاوف الإيرانية على أمنها القومي انطلاقا من التواجد الأمريكي على الأراضي العراقية وخصوصية التجربة السياسية في العراق، تمنح العراق أسبقيات في تعزيز التعاون الإقليمي بما يعزز دور العراق السياسي.

5- على الجانب الداخلي يجب أن يشرع العراق قوانين ويقر سياسات ويطبق بدائل حديثة تمكينية لإدارة الموارد المائية في العراق، تبدأ من الترشيد باستهلاك المياه وتسعيره وتطوير وسائل الإستفادة منه، فيما يخص الري واستثمار مياه الأمطار والمياه الجوفية ومياه الصرف الصناعي والزراعي وتحلية المياه المالحة وإنشاء سد على شط العرب لتقليل الهدر والملوحة وإرواء الأراضي الزراعية الواقعة على ضفتيه، إتباع مثل هذه القوانين والسياسات والآليات يقوي الجانب العراقي في عدم خضوعه لإرادة وضغوط الدول المتشاطئة معه ويدفعها إلى توقيع اتفاقيات مشتركة وتدعم استخدام المياه كسلاح ضد العراق.

كل هذا حتماً يرتبط بالاستقرار السياسي للدولة ويحتاج إلى قيادة سياسية وإدارة واعية وملتزمة وخادمة لمصالح العراق ومواطنيه.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية/2001–2020Ⓒ
http://mcsr.net

اضف تعليق