q
غالبا ما اقترنت الأزمات، على مر التاريخ، بالتقدم البشري. إذ في حين أن وباء كوفيد-19 المتنامي يمكن أن يعزز النزعة القومية والانعزالية، ويسرع من التراجع عن العولمة، يمكن أن يحفز تفشي المرض، أيضًا، موجة جديدة من التعاون الدولي على غرار ذلك الذي ظهر بعد الحرب العالمية الثانية...
بقلم: كمال درويش/سيباستيان شتراوس

واشنطن العاصمة- غالبا ما اقترنت الأزمات، على مر التاريخ، بالتقدم البشري. إذ في حين أن وباء كوفيد-19 المتنامي يمكن أن يعزز النزعة القومية والانعزالية، ويسرع من التراجع عن العولمة، يمكن أن يحفز تفشي المرض، أيضًا، موجة جديدة من التعاون الدولي على غرار ذلك الذي ظهر بعد الحرب العالمية الثانية.

وقد يصبح كوفيد-19 ليس مجرد أزمة صحية هائلة، بل أيضًا أزمة عولمة وحكم عالمي. ومن الواضح أنه يطرح السؤال عن الطريقة التي ينبغي للعالم عن طريقها، تنظيم نفسه ضد تهديد الأوبئة. ولكنه ينعكس أيضًا على طريقة تصور العولمة، وأهمية هذا التصور بالنسبة لمستقبل التعاون الدولي.

لقد فتحت خمسة عقود من الترابط المتزايد العالم أمام التدفقات الهائلة عبر الحدود للسلع، والخدمات، والأموال، والأفكار، والبيانات، والأشخاص. وفي حين أن العولمة بحد ذاتها ليست جديدة، إلا أن الحجم الهائل لنسختها الحالية ونطاقها، جعلا العالم مترابطًا بشكل غير مسبوق– ومن ثم هشًا.

وتبدو البنية التحتية الاجتماعية والاقتصادية العالمية اليوم، وكأنها شبكات محاور التجميع ومسارات التوزيع، يتم من خلالها فصل كل المحاور بمسافات قصيرة جدًا، وتتمركز الوظائف الأساسية في مراكز كبيرة. إذ يتركز النشاط المالي في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، بينما تعد الصين مركز التصنيع في العالم. وهذا الهيكل موجه نحو زيادة الكفاءة، عن طريق تحصيل فوائد اقتصاديات الحجم والتخصص. وبالفعل، لقد ساعد ذلك على انتشال ملايين الناس من براثن الفقر (على الرغم من أنه أدى أيضًا إلى زيادة عدم المساواة في الدخل، والشعور بالضيق الاجتماعي في العديد من البلدان).

ومع ذلك، فإن الاتصال يشكل خطرا كبيرا - لكنه يكون خفيًا في كثير من الأحيان- بوقوع كارثة ما. وذلك لأن الاتصال يزيد مما يسميه الإحصائيون "المخاطر القليلة الاحتمال ذات التأثير القوي"، أو احتمال وقوع أحداث متطرفة لا يمكن تحديدها بطبيعتها مثل الأزمات المالية، والمحرقة النووية، والذكاء الاصطناعي العدائي، والاحتباس الحراري العالمي، والتكنولوجيا الأحيائية المدمرة، والأوبئة.

ونظرًا لكون الأدوار الوظيفية الأساسية شديدة التركيز، ولكون الشبكة بأكملها مرتبطة بإحكام شديد، فإن الصدمات الموجهة نحو المحور المركزي مثل الولايات المتحدة، أو الصين يمكن أن تصبح شاملة ومُشِلَّة للنظام، بسرعة. إذ يولد الاعتماد على المحاور المركزية مخاطر شاملة، لأن المحاور تشكل نقاط فشل واحدة، والترابط المحكم بين المحاور والفروع يزيد من احتمال حدوث إخفاقات متتالية. وهذا هو السبب في كون الانهيار المالي لعام 2008، والذي نشأ في الولايات المتحدة كان مدمراً للغاية، ولهذا السبب سرعان ما أصبح تفشي كوفيد-19 الذي بدأ في الصين، أزمة صحية واقتصادية عالمية.

ومن المرجح أن ينشأ اتجاهان سياسيان مختلفان من هذه الكارثة التي بدأت تتجلى للعيان.

أولاً، قد تؤدي الأزمة إلى تحركات للحد من الترابط العالمي، بما في ذلك من حيث السفر، والتجارة، والتدفقات المالية، والرقمية، والبيانات. وقد يطلب الناس تلقائيا مزيدًا من العزلة في العديد من المجالات. إن البحث عن الحماية من خلال العزلة الشاملة سيكون مضللاً، وسيؤدي إلى نتائج عكسية. ولكن في هذه الحالة، يمكن للمجتمعات حقًا، المساعدة في احتواء تهديد كوفيد-19عن طريق التقليل بشكل متواصل من ترابطها، من خلال تدابير التخفيف التي تزيد من المسافة الاجتماعية، مثل إغلاق المدارس والمحلات التجارية، وحظر التجمعات العامة، ووضع قيود على وسائل النقل العام أثناء استمرار الأزمة.

وسيكون لهذه الخطوات القاسية تكاليف اقتصادية واجتماعية مرتفعة على المدى القصير، وستطرح تحديات عملية وأخلاقية لا يمكن إنكارها. وقد يتضح بعد فوات الأوان أنها غير ضرورية. ولكن لأنه لا يمكننا التنبؤ بانتشار كوفيد-19، تتطلب الأزمة اتخاذ اجراءات قوية في وقت مبكر. وكما يشير عالم الرياضيات وخبير المخاطر، نسيم نيكولاس طالب، نظرا لكون النمو الأسي يبدو في البداية خطيًا بشكل مخادع، فإن الإفراط في رد الفعل من جانب صانعي السياسة، ليس له ما يبرره فحسب، بل مطلوب أيضًا.

وهذا اعتبار تكتيكي، وليس اعتبارًا استراتيجيًا: إن الهدف ليس هو تشجيع التراجع عن العولمة، بل بناء قوة أكبر. وعندما يكون محتملا أن تكون المخاطر تدميرية، يجب أن يحل البقاء الشامل محل اعتبارات الكفاءة. وهذا هو السبب، على سبيل المثال، وراء كون المخازن الاحتياطية للاقتصاد الكلي لاسيما متطلبات رأس المال الأعلى في القطاع المالي، مرغوبة.

لقد أصبح التواز الواضح بين وباء كوفيد-19 وتغير المناخ يبدو جليا. إذ يتشارك الاثنان في الظهور، والاعتماد على المسار، وحلقات ردود الفعل، ونقاط التحول، وعدم الخطية. وينطوي كلاهما على مخاطر كارثية هامشية متطرفة، يحكمها عدم اليقين الجذري، وتدعو إلى تجنب تحليل التكلفة والعائد التقليدي -وهو أمر يعتمد على توزيعات الاحتمالات المعروفة- لصالح التخفيف الشديد للحد من التعرض. والأهم من ذلك أن كلاهما يسلطان الضوء على الحاجة إلى تعاون دولي تطلعي أوثق لإدارة التهديدات العالمية.

والواقع أن الطلب على تعاون عالمي أكبر، هو الاتجاه السياسي الثاني والأهم الذي يمكن أن ينشأ من الأزمة الحالية. إذ في حين أن هذا قد يبدو في البداية غير متسق مع الشكوك المتزايدة بشأن العولمة، يمكن للإصلاحات الضرورية التوليف في الواقع بين كلا الاتجاهين. وتعد الوقاية من الجائحة واحتوائها منفعة عامة عالمية، ويتطلب توفيرها المزيد من التنسيق العالمي بالإضافة إلى الفصل التكيفي، والمؤقت، والمنسق.

أولا، هناك حاجة لإدخال "قواصم دارات" عالمية، وهناك فرصة لذلك أيضا. ويمكن لهذه القواصم عزل المخاطر النظامية في وقت مبكر، ومنعها من الانتشار. وستكون هذه الآليات أكثر فاعلية إذا كانت واضحة، وشفافة، ومصممة مسبقًا، ومضمنة في نظام حكم عالمي يضفي عليها الشرعية ويقوم بتحديثها باستمرار. فعلى سبيل المثال، يمكن للحكومات صياغة بروتوكولات مشتركة لقيود السفر والتجارة المؤقتة، واعتمادها في حالة ظهور وباء محتمل، وتدعم هذه البروتوكولات أنظمة الإنذار المبكر المتفق عليها عالمياً، وعتبات اتخاذ الإجراءات.

وفضلا عن ذلك، قد يرغب المجتمع الدولي في بناء التكرار الوظيفي في أنظمة معقدة- بما في ذلك التمويل، وسلاسل القيمة، وإمدادات الغذاء، والصحة العامة- من أجل منع المحاور المركزية من أن تصبح نقاط الاختناق، ولضمان ألا تتحول حالات الإخفاق الفردية إلى انهيار شامل. وعلى الرغم من أن هذا قد يستلزم إعادة التصنيع إلى الداخل، واللامركزية على حساب الكفاءة، وفورات الحجم، والميزة النسبية، فإن الهدف لا يتمثل في الاكتفاء الذاتي، بل الحد من المخاطر عن طريق التنويع.

يجب على البشرية أن تنظم نفسها للتخفيف من المخاطر الهامشية المتطرفة المرتبطة بتغير المناخ، والأوبئة، والإرهاب البيولوجي، والذكاء الاصطناعي غير المُدار. ومع أن هذا سيتطلب قفزة تاريخية، إلا أن الأزمات الكبرى غالبا ما تفتح المجال السياسي لإجراء إصلاحات جذرية. وبالضبط، في وقت تراجعت فيه تعددية الأطراف القائمة على القواعد، ربما يشجع الخوف، والخسائر الناجمة عن كوفيد-19، الجهود المبذولة لتحقيق نموذج أفضل للعولمة.

* كمال درويش، وزير الشؤون الاقتصادية السابق في تركيا والمدير السابق لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي زميل أقدم بمعهد بروكينجز/سيباستيان شتراوس، كبير محللي البحوث ومنسق الارتباطات الاستراتيجية في معهد بروكينجز
https://www.project-syndicate.org

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق