q

ما إن أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تحديد موازنة عالية جدا للبنتاغون في عام 2019 قياساً بالسنين الماضية حتى كشف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خطابه أمام الجمعية الفدرالية في روسيا عن مجموعة من الأسلحة النووية الجديدة، خطاب وصف بأنه واحداً من أكثر خطاباته إستعراضا للقوة منذ سنوات قائلا: "إن هذه الأسلحة تستطيع أن تصيب أي نقطة في العالم ولا سبيل لإعتراضها".

فهل الدولتين أمام سباق تسلح جديد؟، وعودة الثنائية القطبية أو تعدد الأقطاب على الأقل، بعد أن كادت الولايات المتحدة أن تقطع جازمة بأنها القطب الأوحد في العالم مثلما قال فوكوياما في كتابه (نهاية التاريخ) بعد أن هزمت الإتحاد السوفيتي في ما عرف بالحرب الباردة وتفوقها على روسيا بقوة الردع والنفوذ، لكن يبدو أن صومائيل هنتغتون صاحب كتاب (صدام الحضارات) قد تفوق على زميلة فوكوياما في عودة التصادم بين المعسكرين البارزين (الولايات المتحدة –الليبرالي- من جهة، وروسيا الإتحادية والصين –الاشتراكي- من جهة أخرى)، إضافةً إلى (الأصوليات الإسلامية) لكن يبدو أن مسألة التصادم اليوم تبرز فيه سمة المصالح الإقتصادية والسياسية، والتنافس على النفوذ أكثر من خصائص الإيديولوجيات والإختلاف الحضاري مثلما أفترض هنتغتون، وعليه فهناك توجه جديد من أهم معالمه، أن الأقطاب المتنافسة تستبدلان الحرب المباشرة بسياسة الحماية للحلفاء سياسياً، وعسكرياً، وهذا يضمن منافع كبيرة للأقطاب المتنافسة منها: تنشيط الإقتصاد المحلي على مستويات بيع السلاح، وتحكم بمصادر الطاقة، وتحصين الأمن القومي الداخلي.

فإذا تركنا جانبا التنافس مرة والصراع مرة أخرى بين القطب الغربي (الولايات المتحدة) والقطب الشرقي (روسيا الإتحادية) إضافةً إلى (الصين) من جديد على مناطق واسعة من العالم في الشرق الأوسط، وشمال أفريقيا، وجنوب شرق آسيا، وحتى أوروبا الشرقية، بعد أن دفعت الولايات المتحدة أوروبا مجدداً إلى التخوف من روسيا التي تجاورها شرقا، والأمر ذاته جرى مع دول الخليج العربية والتي أقنعتها بأن إيران تتربص بها وذهبت إلى جنوب شرق آسيا لتخيف كوريا الجنوبية واليابان من كوريا الشمالية والصين.

وذهبنا فقط إلى لغة الأرقام على مستوى تكاليف التسلح سنجد أن البنتاغون بقيادة وزير دفاعه جيمس ماتيس (James Mattis) المتمرس في القيادة والشؤون العسكرية يدفع باتجاه عسكري وتسليحي مختلف عن ذاك الذي تبنته إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما في جميع موازنات وزارة الدفاع الأمريكية خاصة بعد إنسحابه المباشر من العراق وعدم تدخله في سوريا ومحاولة أوباما احتواء إيران.

أما اليوم في ظل تسيد جيمس ماتيس للبنتاغون، فقد أعلنت وزارته رصد مبلغ قدره 716 مليار دولار أمريكي لموازنة عام 2019، وفي حال إقرارها ستكون هذه الموازنة الأكبر في التاريخ، حسب وسائل إعلام أمريكية، وعلى حساب وزارة الخارجية كما يشير مراقبون وهو مؤشر يدلل على رجوع سباق التسلح من جديد، حيث كانت قيمة الإنفاق العسكري للسنوات السابقة كما يلي: إذ أقرت موازنة الإنفاق لعام 2009، بمقدار 7,732، وعام 2010 بلغت 9,757، وفي عام 2011 بلغت 6,748، وعام 2012 بلغت 0,706 وعام 2013 بلغت650 وعام 2014 بلغت 9,609 وفي عام 2015 بلغت قيمة الإنفاق العسكري 4,595، إما في عام 2016 فقد بلغ حجم الإنفاق611 مليار دولار وشهدت موازنة عام 2017 صعود في حجم الإنفاق وصل إلى 700 مليار دولار.

وعلى الجانب الروسي بالرغم من أن حجم إنفاق وزارة الدفاع تمثل سراً غامضاً منذ سقوط الإتحاد السوفيتي، بل أن هناك تقارير تتحدث عن ارتفاع موازنة وزارة الدفاع الروسية بنحو 800 مليار روبل روسي، ويبدو أن الصراع السياسي، والعسكري، والإقتصادي في الشرق الأوسط ومنه سوريا واليمن وملفات أخرى معقدة كملف الإرهاب (وهو موضوع مختلف ولو شكليا في أساليبه العنيفة وأهدافه عن الصراعات الإقليمية والدولية) إلى جانب الملف الإيراني، وكوريا الشمالية، وصعود الصين إقتصادياً، شجع روسيا برفع حجم موازنتها لعام 2017 إلى 1600 مليار روبل، أي ما يعادل 235 مليار يورو، ما يعني مضاعفتها مقارنة بالرقم المعلن للسنة السابقة. وفي ضوء إرتفاع موازنة البنتاغون لعام 2019 قالت حكومة الصين إنها تعتزم زيادة الإنفاق العسكري بنحو 7% في العام الحالي.

ويمكن أن تعطي الزيادة في الإنفاق العسكري مؤشرا آخر على سباق تسلح جديد وان كان متقطا مثلما أشارت صحيفة واشنطن بوست، ووفق إستراتيجية عسكرية جديدة في المناطق الساخنة من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وشرق أوروبا، وهذا ما أشار إليه فلاديمير بوتين بتعبير مباشر معللا السبب إلى سياسات الولايات المتحدة الأمريكية العسكرية، قائلا: "سباق التسلح بدأ عندما خرجت الولايات المتحدة من معاهدة الدفاع المضاد للصواريخ"، يأتي هذا التصعيد بعد مرور 30 عاما على توقيع الولايات المتحدة، والإتحاد السوفيتي إتفاقية تدمير الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى.

وكانت الولايات المتحدة اتهمت الإتحاد الروسي عام 2014، بإنتاج وتجربة منظومة صواريخ مجنحة، مخلة بذلك بشروط الإتفاق، موسكو من جهتها، نفت الإتهام، وبحسب واشنطن بوست، فإن الحديث يدور حول منظومة الصواريخ (M7299)، وتزعم أنها أدخلت إلى الخدمة بالفعل. وأعلنت روسيا بدورها، أن المنظومة الأمريكية المضادة للصواريخ (أيجيس)، تعتبر خرقا للإتفاق. وبقدر ما تربح الولايات المتحدة الأمريكية من عمليات التسلح الجديدة وتحميل حلفائها نفقات الحماية وتتجنب نفقات الحرب (بالنيابة وسوق لبيع السلاح) ضد إيران، وكوريا الشمالية، أو روسيا، والصين، لكن روسيا والصين تعمل بالمقابل بتوازن القوة العسكري، والإقتصادي في أكثر من موقع منها مصالح روسيا، والصين مع دول تصنف كحلفاء للولايات المتحدة الأمريكية كتركيا ذات التوجه الإسلامي، ومصر بعد إقصاء حركة الإخوان الإسلامية إلى جانب صفقات تسليحية مع العراق، واليمن، وبلدان خليجية كالسعودية إضافةً إلى مصالح روسيا العسكرية، والإقتصادية مع حلفائها الإستراتيجيين كإيران، وسوريا، حيث حصلت إيران على نظم وتكنولوجيا من الصين، وكوريا الشمالية، وروسيا.

وبدورها إيران تزود حلفائها كالنظام السوري، ومجموعات مسلحة في لبنان، والعراق، واليمن الأمر الذي يشعر حلفاء الولايات المتحدة بالخطر فعلى الجبهة الشامية إسرائيل، والجبهة الخليجية فهناك السعودية تشكل احد أهم المستوردين العرب للسلاح من الولايات المتحدة حيث يشكل الهاجس الإيراني في عدد من الدول ومنها اليمن، حيث تخوض السعودية حربا مدمرة ضد جماعة أنصار الله الحوثيين منذ أكثر من عامين، ومن شأن ذلك كله أيضا أن يجبر الولايات المتحدة الأمريكية على إدامة وجود عسكري كبير ومؤثر من أجل الحفاظ على قواعدها وتواجدها العسكري وهو ما سيكون له أثر في بقاء مستويات الإنفاق العسكري الأمريكي عند مستويات عالية.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية/2001–2018Ⓒ
http://mcsr.net

اضف تعليق