q
يُعد باري شاربلس من معهد سكريبس للأبحاث، في مدينة لاهويا بولاية كاليفورنيا الأمريكية، ومورتن ميلدال، من جامعة كوبنهاجن الدنماركية، الأبوان المؤسسان لحقل الكيمياء النقرية، إذ اكتشف كل منهما على حدة تفاعلًا محوريًّا أمكن استخدامه في ربط جزيئين – هما جزيئا الأزيد والألكاين – بسهولة أكبر...
بقلم: دافيديه كاستلفيكي وهايدي ليدفورد

وضع ثلاثة كيميائيون حجر الأساس لتقنية مثمرة أطلقوا عليها «الكيمياء النقرية»، تهدف إلى تشبيك الجزيئات تشبيكًا محكمًا بكفاءة، لتكلل جائزة نوبل في الكيمياء جهودهم هذا العام.

يُعد باري شاربلس من معهد سكريبس للأبحاث، في مدينة لاهويا بولاية كاليفورنيا الأمريكية، ومورتن ميلدال، من جامعة كوبنهاجن الدنماركية، الأبوان المؤسسان لحقل الكيمياء النقرية، إذ اكتشف كل منهما على حدة تفاعلًا محوريًّا أمكن استخدامه في ربط جزيئين – هما جزيئا الأزيد والألكاين – بسهولة أكبر، مقارنة بالأساليب التقليدية 1، 2، 3، وقد استُخدم هذا التفاعل على نطاق واسع لتطوير طيف من الجزيئات المختلفة، مثل المواد البلاستيكية المُعدلة والمستحضرات الدوائية الواعدة.

أما الفائزة الثالثة، كارولين بِرتوزي، من جامعة ستانفورد بولاية كاليفورنيا الأمريكية، فقد استعانت بالكيمياء النقرية في تحديد مواقع بوليمرات معقدة قوامها السكر تُسمى الجليكانات على سطح الخلايا الحية، دون المساس بوظيفة الخلية4. ولكي تتمكن برتوزي من فعل ذلك، ابتكرت تفاعلات يُطلق عليها التفاعلات الحيوية التعامدية، التي تُستخدم اليوم في تطوير علاجات الأورام السرطانية.

وفي تصريح أدلت به إلى مؤتمر صحفي عُقد في مدينة ستوكهولم حول هذا الصدد، في الصباح الذي شهد إعلان الجائزة، قالت بِرتوزي إنها "صُعقت" لتلقي مكالمة تزف إليها نبأ فوزها باكرًا صباح ذاك اليوم. وأضافت: "ما زلت أشكك بعض الشيء في أن هذا حدث حقًا، لكنه واقع، يتأكد مع كل لحظة".

استُخدمت الكيمياء النقرية في تقنيات تعيين تسلسل الحمض النووي، وفي علم المواد، وفي دعم الأبحاث الأساسية حول وظائف الخلايا، واكتشاف الجزيئات الحيوية.

غير أن المجال لا يزال وليدًا، على حد ما أخبرت به بِرتوزي المراسلين الصحفيين بالمؤتمر. وأوضحت ذلك قائلًة لدى الإعلان عن الجائزة: "أعتقد أننا لا نزال في فجر حقل الكيمياء النقرية، ويرجح أن العديد من التفاعلات الكميائية الجديدة تنتظر اكتشافها". وأفادت بأن قيمة هذه التفاعلات تنبع من بساطتها، فهي عالية الكفاءة، وتنتج قدرًا أقل من النواتج الثانوية غير المرغوب فيها.

أما ميلدال، فقال في تصريح أدلى به إلى دورية Nature تعقيبًا على نبأ إعلان الجائزة: "بفضل جهود فريقي البحثي، والفرق البحثية لكل من كارولين بِرتوزي وباري شاربلس، تبدلت بعض مفاهيم علم الكيمياء، لتتيح إمكانات لم تسنح قط من قبل".

جدير بالذكر أن هذه تُعد ثاني جوائز نوبل التي ينتزعها شاربلس، الذي حاز نصيبًا من الجائزة في مجال الكيمياء عام 2001، عن ابتكاره لعوامل حفّازة اعتمادًا على جزيئات غير متناظره مرآتيًا. وقد شارك في العام نفسه في كتابة مراجعة نقدية1 بدورية «أنجفاندته شيمي» Angewandte Chemie للعلوم التطبيقية، ساق فيها براهين على ضرورة اتجاه علم الكيمياء إلى الاعتماد على تفاعلات أبسط، تخلِّف قدرًا أقل من المواد الثانوية غير المرغوب فيها. فجاء فيما كتبه، مع من شاركوه في صوغ هذه المراجعة النقدية: "ينبغي أن تسفر قلة من التفاعلات المثمرة عن مركبات تضم طيفًا واسعًا من الجزيئات العضوية".

محطة جديدة: تفاعلات ذات نواتج منخفضة الطاقة

وضع كاتبو تلك المراجعة النقدية تصورًا لمنظومة من أزواج الجزيئات التي لا تتفاعل إلا مع بعضها بعضًا، تفاعلًا لا يمكن عكس تأثيره. يعني هذا تكوينها لروابط تكافؤية قوية، بعكس الحال في تفاعلات القفل والمفتاح، التي عادة ما تُستخدم في ربط الكثير من الجزيئات الحيوية، وتتسم بكونها أضعف لكن أعلى في درجة الانتقائية (أي أن نواتجها الثانوية غير المرغوبة أقل)، كما يوضح بير-أولا نوربي، اختصاصي علم الكيمياء الحاسوبية، من شركة المستحضرات الدوائية «أسترازينيكا» Astrazeneca في مدينة جوتنبرج السويدية، والذي كان عضوًا في فريق شاربلس البحثي في تسعينيات القرن الماضي. وهو يعلل لمزايا تلك التفاعلات قائلًا "إن نواتجها تكون منخفضة الطاقة بدرجة كبيرة، إلى حد أنه لا يُمكن عكس اتجاهها". وفرضيًا، يمكن أيضًا إحداث تفاعلات الكيمياء النقرية في مذيبات خفيفة كالماء، وهي لا تتسبب مطلقًا في نواتج ثانوية ضارة.

حول ذلك، يقول ميلدال: "من الصعب للغاية إجراء تفاعل كيميائي في وجود آخر. لقد خرجنا بتفاعلات تخرق كل ما هو متعارف عليه في التفاعلات الكيميائية القائمة". ففي مجال الكيمياء، يشير مصطلح «تعامدي»، الذي يعني في الهندسة رأسي أو عمودي، إلى تفاعلات تحدث في الوسط نفسه، كل بمعزل عن الآخر، دون أن يؤثر أحدها في الآخر. وقد صكت بِرتوزي مصطلح "حيوي تعامدي" للإشارة إلى التفاعلات التي تحدث دون المساس بكيمياء الخلية الحية.

ويروي ميلدال أنه اكتشف في عام 2001، مع زميله في أبحاثه كريتسيان تورنوي، تفاعلات جزيئي الأزيد والألكاين، بسبيل المصادفة خلال أبحاثهما بمختبر كارلسبرج في مدينة فالبي الدنماركية. وفي وصف تلك اللحظة، يقول إن الظروف الموائمة تصنع الاكتشافات الكبرى التي يمكن للمرء الوقوع عليها، وتابع كلامه قائلًا: "عندئذ، تحقق ما يفوق الخيال". والأزيد هو نوع من الجزيئات يحتوي على ثلاث ذرات مترابطة خطيًا من النيتروجين. أما جزيء الألكاين، فيحتوي على رابطة ثلاثية من ذرات الكربون.

وقد صار التفاعل بين هذين الجزيئين، الذي أسفرت أيضًا أبحاث مستقلة لشاربلس وفريقه البحثي النقاب عنه خلال الآونة نفسها، بمنزلة التفاعل النقري الأمثل.

ومنذ تلك اللحظة، توالت نجاحات علماء الكيمياء في إنتاج تفاعلات نقرية فعّالة بين جزيئات أكبر حجمًا وأكثر تعقيدًا. وتعقيبًا على تلك الابتكارات، يقول ميلدال: "أجد جاذبية كبيرة في بناء الروابط الكيميائية التي تجمع البِنى الببتيدية والبروتينية للحفاظ على خصائصها".

أما نود يينسِن، اختصاصي علم البيولوجيا الكيميائية من جامعة كوبنهاجن، والذي كان أول طالب يتولى ميلدال الإشراف على أطروحته، فيفيد بأن هذه التفاعلات سرعان ما انتشر استخدامها في جميع مجالات الكيمياء، بالإضافة إلى علم المواد. وهو ما يُعرب عنه ييِنسن قائلًا: "تبنت جميع الميادين التفاعلات النقرية".

طفرة في الكيمياء التعامُدية

خلال الآونة نفسها، كان فريق بِرتوزي البحثي قد عكف على استكشاف الجليكانات والبحث عن طرق لتوسيم جزيئات السكر على الخلايا دون الإضرار بالخلية نفسها. وقد بدا أن الكيمياء النقرية تفتح الباب أمام ذلك، غير أن النحاس الذي استُخدم لتحفيز هذه التفاعلات أمكن أن يتسبب في تسمم الخلايا.

لكن في عام 2003، عادت بِرتوزي من أحد المؤتمرات بفكرة للاستعاضة عن النحاس، من خلال استخدام جزيئات ألكاين تطوقها حلقة ضيقة، على حد ما أفاد به نيكولاس أجارد، وهو من كبار علماء شركة «جينيتك» Genetech للتقنيات الحيوية في مدينة ساوث سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا الأمريكية. وقد كان آنذاك طالب دراسات عليا في فريق بِرتوزي البحثي. ووفقًا لهذه الآلية التي ابتكرتها بِرتوزي، تنثني الحلقة ليضطرب نسق ذرات جزيء الألكاين المترابطة خطيًا تحت وطأة ضغط الانثناء". ويقول أجارد تعقيبًا على ذلك: "كان السؤال هنا: هل يُمكن إنتاج الطاقة بكفاءة في هذا التفاعُل؟".

من هنا، أمضى أجارد ساعات في التنقيب بإحدى المكتبات عن صورة سابقة من تسخير انضغاط الحلقات الكيميائية لإنتاج تفاعلات نقرية غير سامة للخلايا. ووقع في نهاية المطاف على ورقة بحثية صدرت باللغة الألمانية قبل ذاك بـ40 عامًا، بدا أنها ذات صلة بتلك التجربة5. فيقول مسترجعًا تلك الأحداث: "أذكر أنني آنذاك تبينت ثلاث كلمات هي: "أزيد الفينيل"، و"الأوكتان الحلقي"، و"انفجار".

غير أن أجارد نجح مع فريقه البحثي في ابتكار آلية لا تتسبب في انفجار، بهدف تسخير انضغاط الحلقات الكيميائية من أجل إعداد تفاعلات نقرية4. ومن هنا، شرع مختبره في استخدام التقنية لوسم خلايا سمك الدانيو المخطط والفئران. وبعد ذلك، بدأت حقبة حافلة بالإثارة، على حد وصف باميلا تشانج، اختصاصية علم البيولوجيا الكيميائية، التي نالت درجة الدكتوراه في مختبر بِرتوزي عام 2010. وقد أضافت مسترجعة تلك الأحداث: "وعينا إلى أننا نشارك في لحظة فارقة، وهذا هيأ بيئة بحثية رائعة حقًا لنا جميعًا".

بحلول ذلك الوقت، كانت بِرتوزي منهمكة في إلقاء المحاضرات، وفي قيادة فريق بحثي ضخم، غير أنها كانت تكرس الوقت لعقد الاجتماعات مع أعضاء فريقها البحثي، ولمساعدتهم في تنقيح أوراقهم البحثية. وهي داعمة للنساء في مجال العلوم، وقدوة بارزة بالأخص لهن في مضمار الكيمياء، على حد تعبير تشانج، التي لفتت إلى أن مختبر بِرتوزي شكلت النساء نصف أعضائه في نقطة ما، وهي نسبة لم تكن معتادة في قسم الكيمياء بالمختبر آنذاك.

حول ذلك، تقول تشانج: "أفسحت لنا مجالًا كبيرًا من الحرية". وتستخدم تشانج اليوم الأساليب القائمة على التفاعلات النقرية في أبحاثها حول الإنزيمات البكتيرية، والأيض في الميكروبيوم المعوي بجامعة كورنيل في إيثاكا، بولاية نيويورك الأمريكية. وهي تثني على بِرتوزي قائلة: "كانت تترك كل ما يشغلها لتفسح الوقت دائمًا لكل من يحتاج النصح أو المساعدة".

أما شاربلس، فيُعرف عنه كونه شخص ودود، كما يفيد نوربي، الذي يضيف: "سلوكه يجعلك تغفل أنه فائز بجائزة نوبل". فوفقًا لنوربي، لم يكن شاربلس من رؤساء العمل الذين يطالبون طاقمهم بالعمل 80 ساعة أسبوعيًا، وهو ما جعل نوربي ممتنًا له، بوصفه باحث في مقتبل مشواره المهني، ينوء بالتزامات أسرية. فيقول حول ذلك إن شاربلس "تحلى برحابة وسعة صدر تامة في هذه الشؤون، وهذا لم يكن مما اعتاده المرء بين كبار الباحثين".

ويأمل ميلدال أن يشجع فوزه بالجائزة الشباب على خوض مجالات الكيمياء، فهو حقل بالغ الأهمية في التصدي لعديد من تحديات المجتمعات، وشأنه شأن الفيزياء، "يرسم لنا صورة كاملة عن العالم المحيط بنا"، على حد تعبيره.

اضف تعليق