q
تخيل كم هو صعبٌ هذا التحدي: أن تنظر إلى الأرض من الفضاء الخارجي وأن تتنصت على ما يقوله الأفراد لبعضهم بعضًا. هذا يضاهي إلى حدٍ كبير مدى الصعوبة التي نجدها في فهم الكيفية التي يعمل بها الدماغ، إذا قرَّبت صورة السطح المتجعد لهذا العضو بمعدل مليون ضعف، فسترى مشهدًا مُتغيِّرًا...
بقلم: أليسون أبوت

تخيل كم هو صعبٌ هذا التحدي: أن تنظر إلى الأرض من الفضاء الخارجي وأن تتنصت على ما يقوله الأفراد لبعضهم بعضًا. هذا يضاهي إلى حدٍ كبير مدى الصعوبة التي نجدها في فهم الكيفية التي يعمل بها الدماغ.

إذا قرَّبت صورة السطح المتجعد لهذا العضو بمعدل مليون ضعف، فسترى مشهدًا مُتغيِّرًا من خلايا ذات أشكالٍ وأحجامٍ مختلفة تتفرع وتتصل ببعضها بعضًا. أما إذا قرَّبت الصورة من جديد بمعدل مليون و100 ألف ضعف، فستتمكن من رؤية الآلية الداخلية التي تعمل بها الخلايا، أي البِنى الدقيقة في كل خلية منها، ونقاط الاتصال فيما بينها، والوصلات بعيدة المدى بين المناطق المختلفة من الدماغ.

رسم العلماء خرائط مماثلة لأدمغة الدودة1والذبابة2 ولأجزاءٍ صغيرة من دماغ الفأر3 والإنسان4 غير أن هذه الرسوم ليست سوى البداية. فلكي يفهم اختصاصيو علم الأعصاب بحقٍ الكيفية التي يعمل بها الدماغ، هم بحاجةٍ أيضًا إلى معرفة الكيفية التي يتواصل بها مختلف أنواع الخلايا فيما بينها بمختلف اللهجات الكهربائية، وتجدر الإشارة هنا إلى أنواع الخلايا التي يُعتقد أنها موجودة في الدماغ، يُقدَّر عددها بقرابة 1000 نوعٍ. ومع توفر هذا النوع من الخرائط الكاملة والعالية الدقة، قد يتأتى لهؤلاء العلماء البدء فعليًا في شرح الشبكات المُحرِّكة لأفكارنا وتصرفاتنا.

هذه الخرائط آخذةٌ في الظهور على نحوٍ متزايد، وقد وردت، على سبيل المثال، في مجموعةٍ من الأبحاث التي نُشرت في شهر أكتوبر الماضي والتي تضع تصنيفًا لأنواع الخلايا في الدماغ. وتتدفق النتائج المستقاة من الجهود التي تبذلها الحكومات لفهم الأعباء المتزايدة الناتجة عن اضطرابات الدماغ لدى مواطنيها المتقدمين في السن والحد منها. أُطلقت هذه المشروعات على مدار العقد الماضي، وهي تهدف إلى إعداد رسمٍ تخطيطي منهجي لوصلات الدماغ، وفهرسة أنواع خلاياه وخصائصها الفسيولوجية.

تلك بلا شك مهمة شاقة، "لكن معرفة جميع أنواع خلايا الدماغ، وكيفية اتصالها بعضها ببعض، وطريقة تفاعلها معًا، سيفتح الباب أمام مجموعةٍ جديدة تمامًا من العلاجات التي لا تخطر حتى على بال أحدٍ في الوقت الراهن"، على حد قول جوش جوردون، مدير المعهد الوطني للصحة النفسية (NIMH) في بيثيسدا بولاية ميريلاند الأمريكية.

بدأت المشروعات الأضخم في عام 2013، عندما أطلقت الحكومة الأمريكية والمفوضية الأوروبية جهودًا "جبارة" لتوفير الخدمات اللازمة للباحثين بهدف مساعدتهم في فك شفرة أدمغة الثدييات. فقد ضخ كلٌ من الحكومة الأمريكية والمفوضية الأوروبية موارد هائلة في إطار برامج منهجية واسعة النطاق بأهدافٍ شتى. وينصب تركيز الجهود الأمريكية - التي تقدر تكلفتها بنحو 6.6 مليار دولار أمريكي حتى عام 2027 - على تطوير وتطبيق تقنيات جديدة في مجال رسم الخرائط وذلك في إطار مبادرة أبحاث الدماغ من خلال النهوض بالتقنيات العصبية المبتكرة المعروفة اختصارًا باسم «برين» (BRAIN) (انظر: «ميزانيات ضخمة لدراسات الدماغ»). كذلك أنفقت المفوضية الأوروبية والمنظمات الشريكة لها 607 ملايين يورو (ما يعادل 703 ملايين دولار أمريكي) على مشروع الدماغ البشري الخاص بها والمعروف اختصارًا باسم «هيومان برين» (HBP)، ويهدف هذا المشروع في الأساس إلى ابتكار عمليات محاكاة للدوائر العصبية في الدماغ واستخدام تلك النماذج كمنصة انطلاقٍ للتجارب.

هذه الجهود التي ركزت في البداية على الفئران، كانت مصدر إلهامٍ لليابان التي أطلقت في عام 2014 مشروع رسم خرائط الدماغ بواسطة تقنيات عصبية متكاملة لدراسات الأمراض والذي يُعرف اختصارًا باسم «برين/ مايندز» (Brain/MINDS) ويتضمن جزءٌ كبيرٌ من هذا المشروع رسم خرائط للشبكات العصبية في دماغ قرود القشة. ومنذ ذلك الحين، أطلقت بلدانٌ أخرى، من بينها كندا وأستراليا وكوريا الجنوبية والصين، أو تعهدت بإطلاق، برامج سخية لعلوم الدماغ تتميز بأهدافها المُوزَّعة على نطاقٍ واسع.

هذه الأعمال التي يجري تنفيذها في الوقت الجاري شرعت بالفعل في إنشاء مجموعات بيانات ضخمة ومتنوعة، على أن تكون جميعها متاحة لأفراد المجتمع. ففي ديسمبر 2020، على سبيل المثال، أطلق مشروع «هيومان برين» منصته الخاصة تحت اسم «إي برينز» (EBRAINS)، وهي منصةٌ تتيح الوصول إلى مجموعات البيانات على نطاقاتٍ مختلفة، كما توفر الأدوات الرقمية اللازمة لتحليل تلك البيانات والموارد المطلوبة من أجل إجراء التجارب.

ومن بين أبرز الجهود وأفضلها من حيث التمويل، والتي ساهمت في تمويلها مبادرة «برين»، فهرسٌ ضخم لأنواع الخلايا يجري إنشاؤه بواسطة مبادرة أبحاث الدماغ من خلال النهوض بالعلوم العصبية المبتكرة والمعروفة اختصارًا باسم (BICCN)، وهو اتحاد يضم 26 فريقًا في المؤسسات البحثية الأمريكية. ويُقدِّم الفهرس المذكور توصيفًا لعدد الأنواع المختلفة من خلايا الدماغ، ونسب وجودها، والطريقة التي تترتب بها مكانيًا.

يقول جوش هوانج، عضو مبادرة أبحاث الدماغ، واختصاصي البيولوجيا العصبية بجامعة ديوك في دورهام بولاية نورث كارولاينا الأمريكية: "يتطلب فهم الدماغ معرفة عناصره الأساسية وألية تنظيم تلك العناصر. وهذا الفهم بمثابة نقطة انطلاقنا نحو معرفة كيفية بناء الدائرة العصبية وآلية عملها – ومن ثم فهم السلوكيات المعقدة التي تحرِّكها تلك الدوائر في نهاية المطاف".

وقد نشرت مبادرة أبحاث الدماغ من خلال النهوض بالعلوم العصبية المبتكرة مجموعةً تتألف من 17 ورقة بحثية في دورية Nature في السابع من أكتوبر الجاري؛ كما نُشرت عدة أوراق بحثية أخرى من خلال دورية «نيتشر بورتفوليو» Nature Portfolio. ورسمت المبادرة خريطةً لأنواع الخلايا في مساحة تقارب 1% من دماغ الفأر، وأصبح بحوزة القائمين عليها الآن بعض البيانات الأولية عن أدمغة الرئيسيات، بما فيها الإنسان. وتخطط المبادرة للانتهاء من الخريطة الدماغية للفأر كاملةً بحلول عام 2023. وتشير الخرائط بالفعل إلى بعض الاختلافات الصغيرة بين الأنواع والتي من شأنها أن تساعد في تفسير أسباب كوننا عرضةً دون غيرنا للإصابة ببعض الأمراض مثل مرض ألزهايمر.

يُظهِر علماء الأعصاب حماسًا كبيرًا لأن مبادرة أبحاث الدماغ بصدد بناء أدواتٍ تستهدف أنواعًا معينة من الخلايا والدوائر العصبية ذات الصلة بالأمراض، وهو ما سيساعد على اختبار فرضيات معينة بشأن وظائف الدماغ كما سيُسهم في تطوير علاجاتٍ.

يقول اختصاصي علم الأعصاب كريستوف كوخ، رئيس معهد آلن لعلوم الدماغ في سياتل بواشنطن، إن فهرس الخلايا بمثابة محك بالغ الأهمية، ويضيف: "لا يوجد شيءٌ في الكيمياء له معنى بدون الجدول الدوري، ولن يكون لأي شيءٍ معنى في فهم الدماغ دون فهم طبيعة أنواع الخلايا ووظائفها".

صائد الأنواع

منذ أكثر من قرنٍ، كان اختصاصي علم الأعصاب الإسباني سانتياجو رامون إي كاخال أول من بيَّن عدد أنواع الخلايا المختلفة الموجودة في دماغ الثدييات. صَبَغَ كاخال الخلايا العصبية بحيث يمكن رؤيتها تحت المجهر، ثم رسم أشكالًا دقيقة وجميلة لتلك الخلايا. ومن بين بضع العشرات من الأنواع التي وجدها، كان لدى البعض من تلك الخلايا تفرعاتٌ - أو محاور عصبية - تمتد من أجسام الخلايا المغطاة بالصبغة مثل أرجل العناكب إلى مسافات طويلة. كما كان لدى البعض منها محاور قصيرة، وبدت بعض الأنواع الأخرى في شكل نجوم. خلُص كاخال إلى أنه نظرًا إلى أن المحاور العصبية لكل خلية كانت قريبة جدًا من أجسام الخلايا الأخرى، فإن تلك المحاور كانت وظيفتها نقل المعلومات على الأرجح. وفي عام 1906، حاز كاخال مناصفةً على جائزة نوبل في علم وظائف الأعضاء أو الطب بفضل اكتشافاته تلك.

منذ ذلك الحين، أصبحت القشرة الدماغية التي تتحكم في العديد من السلوكيات الأكثر تعقيدًا لدى الحيوان محور تركيز أغلب الدراسات التي أُجريت على أنواع الخلايا. وقد توصَّل اختصاصيو علم الأعصاب خلال العقود الثلاثة الماضية إلى أن هناك ثلاث فئات أساسية من الخلايا في القشرة الدماغية، وأنه يمكن تتبُّع شجرة النسب الخاصة بها إلى مراحل مختلفة من التطور. من بين تلك الفئات الثلاث، ثمة فئتان من الخلايا العصبية تُعرفان باسم الخلايا المُثبِّطة والخلايا الاستثارية؛ وكلتا الفئتين تنقلان نبضاتٍ كهربائية، لكن الأولى تكبح النشاط لدى الخلايا العصبية الشريكة بينما تستثير الثانية ذلك النشاط وتحفزه. أما الفئة الثالثة فتضم عددًا كبيرًا من الخلايا غير العصبية التي تدعم الخلايا العصبية وتحميها.

استخدم اختصاصيو علم الأعصاب، على مدار عقودٍ، كل تقنية جديدة مناسبة تصادفهم بهدف تنقيح التعريف الخاص بنوع خلية متمايز في تلك الفئات. أدرك الباحثون أن الخلايا التي تبدو متشابهة ظاهريًا ربما تُمثِّل أنواعًا مختلفة من الخلايا، ويتوقف ذلك على الروابط التي تصلها بغيرها من خلايا أو مناطق الدماغ، أو على خصائصها الكهربائية.

في الوقت ذاته، استمر الباحثون في جمع البيانات التي تتناول الكيفية التي ترتبط الخلايا العصبية ببعضها بعضًا في شبكات وماهية خصائص تلك الشبكات. (كان مشروع «هيومان برين» مُنصبًا عند إطلاقه على توليد الخوارزميات وقوة الحوسبة اللازمة لمساعدة الباحثين على محاكاة الكيفية التي قد تعمل بها تلك الشبكات معًا).

بدأ الباحثون، منذ تسعينيات القرن العشرين، في دراسة نشاط الجينات في مختلف أنواع الخلايا وكيف يعكس التعبير عن تلك الجينات خصائصها.

في عام 2006، صمَّم معهد آلن أطلسًا للتعبير الجيني يعرض أماكن التعبير في دماغ الفأر عن كل جينٍ من جيناته البالغ عددها 21 ألف جين تقريبًا. استغرق تصميم أطلس آلن للدماغ 3 سنوات وشارك فيه نحو 50 موظفًا كانوا يعملون على كل جينٍ على حدة؛ وسرعان ما أدرك مجتمع علم الأعصاب القيمة الكبيرة لهذا الأطلس، الذي يخضع للتحديث الدوري ولا يزال يُستخدَم كمرجعٍ على نطاق واسع، حيث يساعد العلماء في تحديد مكان التعبير عن الجين مثار اهتمامهم أو دراسة الدور الذي يؤديه جينٌ معين في مرض بعينه.

ورغم ذلك، أراد مجتمع علم الأعصاب المزيد. تقول هونجكوي زينج، مديرة معهد آلن لعلوم الدماغ: "أردنا أن نصبح قادرين على رصد كل جينٍ يُعبَّر عنه في كل خلية في آنٍ واحد". الأنماط المختلفة للتعبير الجيني في الخلايا المفردة من شأنها أن تُتيح للباحثين تحديد نوعية تلك الخلايا؛ وهي مهمةٌ طموحة لأن دماغ الفأر يحتوي على أكثر من 100 مليون خلية، ثلثاها من الخلايا العصبية. (يتميز الدماغ البشري بأنه أكبر حجمًا بمقدار ثلاث قيم أُسِّية، حيث يحتوي على أكثر من 170 مليار خلية، تُمثِّل الخلايا العصبية نصفها).

في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حدثت نقلةٌ نوعية في عالم التكنولوجيا، وانعقدت الآمال حولها في أن تُساعد على تحقيق ذلك الهدف الطموح. فقد نجح العلماء في تطوير لتحديد تسلسل الحمض النووي الريبي في خلايا مفردة؛ وهي تقنيةٌ أحدثت تحوُّلًا في جميع مجالات علم الأحياء في العقد الماضي. يُعد ترانسكربتوم الخلية – وهو الحمض النووي الريبي الذي يُمثِّل سجلًا لجميع جيناتها المُرمِّزة للبروتينات – مؤشرًا دالًا على نوعية البروتينات التي تعكف الخلية على تصنيعها في وقت معين.

في عام 2017، قررت مبادرة «برين» أن تمنح تمويلًا لشبكة من المختبرات، بما يشمل معهد آلن بوصفه أحد اللاعبين المؤثرين في هذا المجال، وذلك بهدف استخدام هذه الطريقة، بل وغيرها من التقنيات الأخرى الأحدث، في رسم خريطة لأنواع الخلايا في الدماغ بأكمله وتوصيف تلك الأنواع (انظر «طرق رسم الخرائط»). بعد ذلك بعامين، كان العلماء العاملون في مبادرة أبحاث الدماغ على استعداد لإطلاق جهودهم.

هيستريا التسلسل

اختار الباحثون هدفًا متواضعًا لمشروعهم التجريبي: ركن صغير من دماغ الفأر يُعرَف باسم القشرة الحركية، والذي يتولى معالجة المعلومات الخاصة بالتخطيط للحركة وتنفيذها. تتميز القشرة الحركية بأن لها نظائر شديدة الوضوح لدى جميع الثدييات، مما يتيح عقد مقارنة بين النتائج الواردة من الفئران والإنسان وغيرهما من الأنواع الأخرى. أجرى الباحثون قياسًا لمحتوى الحمض النووي الريبي في أكثر من 1.1 مليون خلية مفردة كما أجروا تحليلًا للكيفية التي تتجمع بها تلك الخلايا5 استغرق نحو 10 من العلماء العاملين بمبادرة أبحاث الدماغ ثلاثة أشهر فقط في إنجاز هذا العمل.

وجد الباحثون 56 عنقودا متمايزًا، يُمثِّل كل واحد منها نوعًا مختلفًا من الخلايا. ثمة سؤال بالغ الأهمية يطرح نفسه، حسبما يقول إد لين من معهد آلن: هل يتوافق التصنيف الجيني للخلية مع كل فعل تقوم به، بما في ذلك الكيفية التي تُطلق بها إشاراتها، والشكل الذي تتخذه، والمكان الذي تتمدد فيه؟

يبدو أن ذلك التوافق متحقق بالفعل إلى الآن على حد قول لين، الذي أشرف على مشروعٍ موازٍ لمبادرة أبحاث الدماغ يجري من خلاله تحليل أنسجة دماغية حديثة استؤصلت من أحد الأشخاص أثناء خضوعه لعملية جراحية لإزالة ورم سرطاني في الدماغ، باستخدام طريقة قوية للغاية تُسمَّى «التسلسل الرُقعي» Patch-seq تسمح بثلاثة أنواع متمايزة من القياس من خلية مفردة. تستخدم هذه التقنية ماصّة زجاجية خاصة تلتصق بغشاء الخلية، وتسجل نشاطها الكهربائي، وتضخ صبغة في الخلية بحيث يمكن تصوير بنيتها التشريحية، ثم تمتص محتويات الخلية بغرض تحليل الترانسكربتوم.

أظهر الفريق أن الخلايا ذات النمط الترانسكربتومي المشترك تشترك أيضًا في الشكل المتمايز ذاته وفي أنماط الإطلاق نفسها6. يقول لين: "يشير هذا إلى أن دراسات الترانسكربتوم يمكن أن تكون بمثابة وسيلة لفك الطلاسم التي تُحيط بتفسير تنوع الخلايا والتنبؤ بالخصائص الخلوية".

استمد العلماء من خارج ذلك الجهد التعاوني الإلهام من النتائج التي أمكن التوصل إليها، ولا سيما اكتشاف أن الخلايا العصبية التي تنتمي إلى فئةٍ واحدة من الممكن أن تكون مختلفة بشدة عن بعضها بعضًا.

قبل عامين، شرعت آن تشيرشلاند اختصاصية علم الأعصاب بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس في تصميم مجموعة من التجارب على الفئران لمعرفة ما إذا كان ذلك التنوع ذا أهميةٍ بالنسبة للخلايا العصبية الاستثارية. وتشير النتائج الأولية التي توصلت إليها، والتي لم تخضع لمراجعة الأقران7 إلى أنه ربما يكون لذلك التنوع أهمية بالفعل؛ إذ تُطلق الخلايا العصبية الاستثارية المختلفة إشاراتها في أوقاتٍ مختلفة بينما تكون الفئران بصدد أداء إحدى مهام الاستماع. تقول تشيرشلاند: "لقد وصلنا إلى مرحلة مثيرة حقًا".

أدمغة أكبر حجمًا

في المرحلة التالية من مبادرة أبحاث الدماغ، ستركز الفرق البحثية بشكلٍ أكبر على الأدمغة الأكبر حجما؛ وقد دخل جزءٌ من هذا العمل حيز التنفيذ بالفعل. كشف تسلسل الحمض النووي الريبي لأدمغة قرود القشة والبشر بعد الوفاة عن اتساقٍ ملحوظ في أنواع الخلايا عبر الأنواع6. لذا فالسؤال الذي يطرح نفسه هو: ما الذي يفسر إذًا القوة المعرفية الفائقة التي يتمتع بها الإنسان؟

يقول لين: "فحوى الرسالة التي تُستخلص من هذه الدراسات أن المخطط العام لأنواع الخلايا محفوظ ٌعبر الأنواع. ومع ذلك، يمكنك العثور على أدلة تُفيد بوجود تخصصاتٍ مهمة للأنواع، حتى وإن كانت مجرد أشكالٍ متنوعة لسمة معينة". تُظهر الدراسات الترانسكربتومية التي أُجريت في إطار مبادرة أبحاث الدماغ تنوعًا أكبر لأنواع الخلايا في دماغ الإنسان مقارنةً بدماغ الفأر، وبالأخص في الخلايا العصبية التي تطوَّرت حديثًا. أحد هذه الأنواع يتوافق مع نوعٍ من الخلايا العصبية معروف بأنه يُستنزَف انتقائيًا في مرض ألزهايمر8.

ثمة اختلافٌ آخر أبرزته الدراسات الخاصة بمبادرة أبحاث الدماغ وهو التحول الكبير في توازن الخلايا العصبية الاستثارية والخلايا العصبية المُثبِّطة في القشرة الدماغية بين الفئران وقرود القشة والبشر. تبلغ النسبة 1:2 لدى البشر، مقارنةً بـ 1:3 لدى قرود القشة و1:5 لدى الفئران6. ويصف لين هذا الاكتشاف بأنه كان مفاجئًا، بل وغامضًا إلى حد ما، ويقول: "يمكن أن تؤدي هذه الاختلافات التراكمية إلى تغيراتٍ جوهرية في الكيفية التي تُنظَّم بها القشرة الدماغية لدى الإنسان والآلية التي تؤدي بها وظائفها".

يقول جون نجاي، اختصاصي علم الأعصاب في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، والذي يرأس مبادرة «برين» الأمريكية، إن العوامل التي تجعل دماغ الإنسان مميزًا سوف تتوقف على الاختلافات الحاصلة في التنوع الخلوي، ونسب أنواع الخلايا، ووصلات الدماغ، وأمورٍ أخرى أكثر من ذلك بكثير على الأرجح، ويضيف: "لا توجد إجابة بسيطة عن هذا السؤال القديم".

من الخرائط إلى الطب

يقول نجاي إن إحدى الخطوات القادمة لمبادرة «برين» تتمثل في تصميم أدواتٍ تستهدف بشكلٍ انتقائي أنواعًا معينة من الخلايا في الدوائر العصبية ذات الصلة بالمرض وتتولى مهمة توصيل الجزيئات العلاجية التي يمكنها ضبط نشاط تلك الدوائر زيادةً أو نقصانًا.

تعتمد طريقة الاستهداف التي يتحمس لها الباحثون بشدة على اكتشاف مبادرة أبحاث الدماغ لقصاصاتٍ قصيرة من الحمض النووي تقتصر على أنواع الخلايا المفردة9. يمكن أن تعمل هذه التسلسلات القصيرة كواسماتٍ لتلك الأنواع من الخلايا، مما يسمح للباحثين بإنتاج سلالاتٍ من الفئران يستطيعون من خلالها استهداف خلايا مختلفة والتلاعب بنشاط الخلايا10، ومن ثم نشاط الدوائر المرتبطة بها. سيكون لهذا مردودٌ كبيرٌ على كلٍ من مجالي العلوم الأساسية والطب. يقول إدوارد موزر من معهد كافلي للأنظمة العصبية في تروندهايم بالنرويج، والذي حصل على جائزة نوبل في علم وظائف الأعضاء أو الطب لعام 2014 مناصفةً عن عمله الذي تناول نظام الملاحة في الدماغ: "إن القدرة على استهداف كل خلية في الدماغ ستُشكِّل دعمًا كبيرًا للأبحاث الأساسية".

من جانبه يقول بوتوند روسكا من معهد طب العيون الجزيئي والإكلينيكي في بازل بسويسرا إن هذه الأدوات ستكون "مهمة للغاية" أيضًا للعلاج الجيني، وهو علاج يعتمد على إحلال جينٍ جديد محل جينٍ مفقود أو معطوب. ويختبر روسكا حاليًا أول علاج جيني ضوئي في العالم يجري من خلاله إدخال بروتيناتٍ حساسة للضوء في الخلايا العصبية الموجودة في شبكية العين لدى أشخاصٍ مصابين بنوعٍ معين من العمى. يقول روسكا إن الأمر استغرق منه 19 عامًا منذ اتخاذه القرار بتحديد الخلايا المناسبة في شبكية العين وصولًا إلى نشر أول حالة نجاح لهذا النوع من العلاج في شهر مايو الماضي. ويضيف روسكا أن أنشطة مبادرة أبحاث الدماغ ستُسهم في تسريع وتيرة الأبحاث بالنسبة للعلماء الذين سيعكفون على دراسة مناطق أخرى من الدماغ في المستقبل.

يشير جوردون إلى أن مطوري العقاقير المستخدمة في علاج الحالات المرضية النفسية والعصبية يحتاجون إلى أخذ نوع الخلية بعين الاعتبار، بيد أن ذلك الأمر ليس ممكنًا حتى الآن، ويقول: "في الوقت الحالي، نَصبُّ العقاقير على جميع الخلايا في وقتٍ واحد دون معرفة الخلايا التي تتأثر بتلك العقاقير؛ وهذا هو السبب في أن كثيرًا من العلاجات التي نَصِفُها في مجالي الطب النفسي وعلم الأعصاب لها آثارٌ جانبية كبيرة".

إن معرفة أجزاء الدماغ شيءٌ، بينما معرفة الآلية التي تعمل بها هذه الأجزاء معًا شيءٌ آخر. في الوقت الحالي، تسعى بعض المشروعات الضخمة في مجال دراسات الدماغ، جنبًا إلى جنب مع العديد من المجموعات البحثية المستقلة حول العالم، إلى استنباط التنظيم المكاني لأنواع الخلايا ووصلاتها - المعروف باسم «خريطة التشابكات العصبية» أو «الكونِيكتوم» - وذلك لدى العديد من الأنواع بما يشمل الفئران والبشر.

ولهذا الغرض، يصبغ العلماء الدماغ ثم يُقسِّمونه إلى طبقاتٍ فائقة الرقة، ويلتقطون بعد ذلك صورًا لتلك الطبقات بواسطة مجهر إلكتروني. يعمل العلماء بعد ذلك على تجميع هذه الصور واستخدام الذكاء الاصطناعي لتتبُّع المسار ثلاثي الأبعاد لكل خلية. وتمتاز الصور بأنها عالية الدقة إلى حد أنها تكشف وجود أية مشابك عصبية، وهي عبارة عن هياكل دقيقة في غشاء الخلية مسئولة عن تكوين وصلات كيميائية مع الخلايا الأخرى.

يتوقع العلماء في حرم جانيليا للأبحاث في آشبورن بولاية فيرجينيا الأمريكية إتمام «الكونيكتوم» الخاص بذبابة الفاكهة العام المقبل. لكن حجم الجهد المطلوب لإجراء العملية ذاتها على أنواعٍ أكبر حجمًا يعني أن رسم المزيد من الخرائط العصبية الكاملة سيستغرق سنواتٍ عديدة، إن لم يكن عقودًا. من جانبهم، يخطط القائمون على مبادرة أبحاث الدماغ لتصميم خريطة تشريحية ثلاثية الأبعاد لدماغ الفأر بكامله باستخدام تقنية الفحص المجهري الإلكتروني عالية الدقة؛ وهو ما من شأنه توفير درجة تكبير تبلغ مليارات الأضعاف، وهي الدرجة المطلوبة لرصد الآلية الداخلية للخلايا. إضافة إلى ذلك، يعكف العلماء العاملون في المشروع الياباني «برين/ مايندز» على تتبُّع «الكونِيكتوم» الخاص بقرود القشة، كما تعكف حاليًا مجموعاتُ عمل عدة خارج نطاق مشروعات الدماغ الضخمة المدعومة من الحكومات - من بينها ثلاث مجموعات تنتمي إلى معاهد مختلفة تابعة لجمعية ماكس بلانك الألمانية - على «الكونِيكتوم» الخاص بثدييات كبيرة أخرى.

عقبات تعترض طريق دراسات الدماغ

يعتقد معظم اختصاصيِّي علم الأعصاب أن المشروعات الضخمة لرسم خرائط الدماغ ستلعب دورًا جوهريًا في مستقبل هذا المجال، بيْد أن بعض العلماء لا يزالون يلتزمون جانب الحذر. فمن جانبه، يُعرب توني موفشون، اختصاصي الفسيولوجيا العصبية بجامعة نيويورك عن تشككه في أن تكون للمعرفة التفصيلية بأنواع الخلايا و«الكونِيكتوم» أية جدوى فورية ومباشرة، إذ يقول: "لقد عرفنا بالفعل بعض أنواع الخلايا من خلال مورفولوجيا الخلايا وغيرها من التصنيفات الأخرى قبل أن يُجري أحدٌ تحليل الترانسكربتوم، وما زلنا في حيرة من أمرنا. بعبارة أخرى، فإن معرفتنا بأن هناك أنواعًا من الخلايا أكثر تمايزًا من الناحية الجينية لن تساعدنا كثيرًا على المدى القريب في فهم آلية عمل الدوائر العصبية".

غير أن إيجاد أدواتٍ تمكننا من وسم أنواعٍ معينة من الخلايا أو التلاعب بها لا شك أنه سيكون أمرا "رائعا" على حد وصف موفشون الذي يردف قائلًا: "كنا سنتعلم أكثر بكثيرٍ لو أننا عرفنا المزيد عن الخلايا التي نُسجِّل منها ".

كان موفشون قد عبَّر أيضًا عن تشككه في مشروع الجينوم البشري (HGP) عند إطلاقه في عام 1990، لكنه يقول، من جديدٍ، إن المكاسب الجانبية للمشروع – بما يشمل الأدوات التي أتاحت القيام بعمل تعداد الخلايا –أحدثت تحولًا كبيرًا.

يرى العلماء الكثير من أوجه التشابه الأخرى بين جهود مبادرة أبحاث الدماغ ومشروع الجينوم البشري، وذلك من حيث الرؤى العلمية والأدوات البحثية. فبمجرد اكتمال مسودة الجينوم البشري في عام 2001، أدرك الباحثون أن الإنسان لا يمتلك جيناتٍ أكثر من الفئران بكثير. كما اكتشفوا أنهم إذا ما أرادوا فهم آلية عمل النظام، فسيكونون بحاجةٍ إلى أكثر من مجرد فهرس أساسي للأجزاء؛ أو، بعبارة أخرى، سيكونون بحاجةٍ إلى طبقاتٍ إضافية من المعلومات بشأن كيفية التعبير عن الجينات وتوقيت ذلك، إضافةً إلى المعلومات المتعلقة بالكيفية التي تؤثر بها الجينات على بعضها بعضًا وطريقة تفاعلها مع البيئة المحيطة.

يقول هوانج إن التحدي يبدو مشابهًا لذلك التحدي الذي تواجهه مبادرة أبحاث الدماغ، لكن نطاقه سيفوق في نهاية المطاف نطاق مشروع الجينوم البشري بكثيرٍ؛ ويضيف موضحًا: "الجينوم ما هو إلا نوع واحد فقط من المعلومات، سلسلة من النيوكليوتيدات. أما الأطلس الخاص بأنواع الخلايا فيتكون من عدة أنواع مختلفة من المعلومات".

ومع استمرار تدفق البيانات من مبادرة أبحاث الدماغ، يعكف الباحثون على إيجاد طرق لدمج المعلومات في "إطار تنسيقي موحَّد"، أي خريطة دماغ مرجعية لنوعٍ معين. بهذه الطريقة، يمكن استخلاص أنواع متعددة من المعلومات من مكانٍ واحد.

في الوقت الحالي، تعمل منصة «إي برينز» التابعة لمشروع «هيومان برين» على إنشاء إطار تنسيقي موحَّد خاص بها. يشير ويم فاندوفيل، اختصاصي الفسيولوجيا العصبية بجامعة لوفان الكاثوليكية في لوفان ببلجيكا، والذي يعمل بمشروع «هيومان برين»، إلى إن جمع أنواعٍ شتى من المعلومات البيولوجية وربطها معًا في مكانٍ واحد لهو تحدٍ حسابي ضخم ولكنه ضروري، إذ يتسنى من خلاله مقارنة الدراسات الخاصة بنوعٍ معين، هذا أولًا، ثم مقارنة الدراسات بين الأنواع المختلفة بعد ذلك. يقول فاندوفيل: "الأطر المشتركة بمثابة مرتكزاتٍ للعمل".

يناقش القائمون على مشروع «هيومان برين» ومبادرة أبحاث الدماغ حاليًا كيفية ربط بياناتهما معًا. تقول كاترين أمونتس، اختصاصية علم الأعصاب في جامعة هاينريش هاينه في دوسلدورف بألمانيا، ومديرة البحث العلمي بمشروع «هيومان برين»: "إن مبادرة أبحاث الدماغ تسير من القاع إلى القمة، بينما نحن نعمل من القمة إلى القاع".

يتمثل الهدف النهائي في بناء مرصدٍ لديه القدرة على دمج البيانات الواردة من كل هذه المشروعات في إطارٍ واحدٍ موحَّد. قبل أربع سنوات، اجتمع الباحثون العاملون في المشروعات الضخمة لدراسات الدماغ، واضعين هذه الفكرة في اعتبارهم، بهدف تأسيس مبادرة الدماغ الدولية، وهي منظمةٌ فضفاضة مهمتها الأساسية مساعدة اختصاصيِّي علم الأعصاب على إيجاد طرقٍ لتجميع بياناتهم وتحليلها.

من جانبه، يُشير كوخ إلى أن احتمالية التمكُّن من اختراق الدوائر العصبية للدماغ بهدف علاج اضطرابات الدماغ تلوح في الأفق البعيد.

يقول كوخ: "الدماغ هو الجزء الأكثر تعقيدًا من أجزاء المادة عالية النشاط في الكون، ولا توجد عصا سحرية يمكنها الكشف عن الآلية التي يعمل بها، غير أن امتلاك الأجهزة والمعدات الأساسية من شأنه أن يقودنا إلى فهمٍ آليٍ لدوائره العصبية".

اضف تعليق