q
إن دعوة المواطنين المضطهدين والمهمّشين في بلدان مثل البحرين والسعودية وغيرها، بالمداهنة والمسايرة، حفاظاً على ما في اليد، وعدم التورط بالمواجهات مع السلطة ورفع شعار إسقاط النظام يمثل دعوة غير مباشرة لشرعنة الديكتاتورية وتبرير وجودها، وهو ما يتوقعه الحكام بعينه، فهم يروجون دائماً للمداهنة والاندماج...

بينما كانت العوائل العراقية الهاربة من قمع النظام الصدامي في اعقاب الانتفاضة الشعبانية، تتجه صوب محطة قطار الحسكة شمال شرق سوريا، بينهم نساء واطفال، لفت المنظر أحد باعة الاكلات السريعة (السندويش) وهو يقف عند عربته الصغيرة، وقد هاله المنظر، إذ ربما لأول مرة يرى عراقيين يهرولون أمامه باعداد كبيرة، فقال الدهشة تعلو وجهه: "إنه غضب الله النازل عليكم"!.

الرجل عبّر عن مشاعره ببراءة تعكس مرئياته، فهو لا يمتلك الهاتف النقال المليئ بتطبيقات الاتصال المجاني ومواقع التواصل الاجتماعي، كما هو الحال اليوم، بل حتى التلفاز، فانه لم يكن ليعكس حقائق الاحداث في تلك الايام بشكل كامل. فقد تصور أن هؤلاء المهرولين الهاربين إنما هربوا من كارثة ألمّت بهم بسبب ما جنت أيديهم، فاستحقوا العقاب الإلهي! 

هذه الكلمات العفوية لذاك الرجل محفورة في ذاكرتي رغم مرور حوالي ثمانية وعشرين عاماً على هذه الحادثة العابرة، وكلما رأيت وسمعت من مآسي وويلات الشعب السوري في الحرب المفروضة عليه، أتذكر فوراً كلمات ذاك الرجل، وقبل أن أقارن بين طبيعة الاحداث، وابطالها، وخلفياتها، ثم نتائجها، أجد أن ثمة حلقة مفقودة في تكوين هذه المشاهد المريعة على ربوع بلادنا الاسلامية؛ وهي ردود الافعال من الشعوب الاخرى إزاء ما يجري هنا وهناك، لاسيما اذا أبعدنا عن حساباتنا مواقف الحكومات والانظمة السياسية التي تشترك في همّ الحفاظ على السلطة وتمديد أجله مهما كلف الأمر.

تغليب السياسة على الدين والاخلاق

ربما يكون من الطبيعي لدى البعض أن يشهد بلداً مثل العراق، رغم ما يحمل من عوامل جذب واستقطاب اسلامي وشيعي حول العالم، كل تلك المآسي والويلات؛ من عمليات تفجير للسيارات والصهاريج النفطية، على يد الجماعات الارهابية، وما خلفت من آلاف الضحايا من أطفال ونساء وشباب، ولا يكون هنالك ردود فعل جماهيرية من البلدان الاسلامية، لاسيما تلك التي نشترك معها في العقيدة، وحتى المصالح التجارية! فما الذي يدفع المواطن السعودي او الايراني او اللبناني –مثلاً- لأن يستنفر قواه العضلية والذهنية والمالية ويعلن تضامنه مع ضحايا الارهاب الطائفي في العراق؟

إن الفكرة المشبوهة التي روج لها في تلك الفترة لجميع شعوب المنطقة، وايضاً شعوب العالم، بأن العراقيين انما يدفعون ثمن التخلص من طاغيتهم بواسطة القوات الاميركية المحتلة لبلادهم! فهذا ثمن الحرية، فصاروا أمام خطابين: الاول قادم من السنّة، بأن عليكم المشاركة فيما يسمى بـ "المقاومة" لمواجهة قوات الاحتلال الاميركي، وإلا فانتم مستهدفون، كونكم عملاء للمحتل. أما الخطاب الآخر فهو قادم من الشيعة، ومفاده؛ الصبر والمداهنة ريثما تشعر جميع المكونات –السنة والاكراد تحديداً- أنهم استوفوا استحقاقهم من كعكة الحكم وخيرات العراق، وهو ما حصل فعلاً.

وكذلك الحال عندما خرج الشيعة في البحرين والسعودية الى الشوارع أسوة بالجماهير العربية التي خرجت بالآلاف مطالبين بإنهاء عهد الديكتاتوريات والفساد ومصادرة الحريات وانتهاك الحقوق، وبالرغم من أن الغايات والاهداف التي انطوى عليها الحراك الشيعي في الخليج، لا تقل حقانية عما كان لدى المصريين والتونسيين، ففي الخليج يعيش المواطنين الشيعة حالة تمييز طائفي سافر لا تشهده أية دولة عربية، الى جانب القمع والاضطهاد المستمر، رغم ادعاءات الحوار والانفتاح وغيرها من الشعارات التي لا تعدو كونها غطاءً أريد لها لستر الوجه السيئ للانظمة الديكتاتورية الحاكمة في الخليج، بيد أن هذا الانفتاح المزعوم، وبعض الحريات الممنوحة، والاوضاع الاقتصادية المميزة، تجعل أي انسان خارج السعودية والبحرين، يشعر بالأسف من خروج الناس هناك للتظاهر ضد النظامين الحاكمين هناك، فمن الافضل –يقول البعض- ان يحافظ الانسان على ما لديه من الامتيازات والفرص، ولا يضيعها في تجاذبات سياسية اقليمية، وهذه بحد ذاتها تمثل إساءة غير مباشرة لمعتقلي الرأي والعقيدة، والمهمشين من أصحاب الكفاءات العلمية، الى جانب المعتقلين والشهداء الذين سقطوا تحت التعذيب او أعدموا بغي وجه حق، على أن أي تحرك من قبلهم ضد النظام الحاكم مهما كانت المطالب حقّة، فانها في غير محلّها لأنها تصب في مستنقع التجاذب الاقليمي والدولي!

ولذا فان تنفيذ حكم إعدام جماعي ضد 32 معتقلاً من الشيعة في السعودية، يمر في بلادنا الاسلامية كأي حدث آخر، فقد فقدت بعض العوائل ثلاثة وأربعة افراد أشقاء في هذه المجموعة، ولم توجه السلطات السعودية أية اتهامات بالقتل او التحريض على العنف ضد هؤلاء، سوى اتهامات فضفاضة مثل؛ "الاخلال بالأمن...".

الرسالة التي وجهتها السلطات السعودية لنا جميعاً من خلال هذا العمل الاجرامي والارهابي، أن بامكانها فعل أي شيء بمعتقليها، وفي الوقت الذي تريد، تطبيقاً للمقولة القديمة: "الشأن الداخلي".

وفي مقال سابق حول زيارة رئيس الوزراء العراقي، عادل عبد المهدي الى السعودية، جاءت الاشارة الى ضرورة تذكير المسؤولين السعودين خلال المباحثات بما يعانيه ابناء الشعب العراقي، تحديداً أبناء الشهداء والارامل من آثار سيئة وكارثية بسبب العلميات الارهابية التي نفذها رعايا سعوديون في العراق، وأنهم مدينون بالاعتذار –على الاقل- لليتامى والارامل. ولكن؛ عندما يهمّش ملف كهذا في المباحثات بين البلدين، وتغليب ملفات النقل والاستثمار والتجارة، وكل ما له علاقة بالمال، لن تكون النتيجة إلا هذا القرار المفاجئ بتنفيذ حكم الاعدام بأولئك الشباب الابرياء وبعد أيام من عودة الوفد العراقي من السعودية.

شرعنة الديكتاتورية بشكل غير مباشر

إن دعوة المواطنين المضطهدين والمهمّشين في بلدان مثل البحرين والسعودية وغيرها، بالمداهنة والمسايرة، حفاظاً على ما في اليد، وعدم التورط بالمواجهات مع السلطة ورفع شعار "إسقاط النظام"! يمثل دعوة غير مباشرة لشرعنة الديكتاتورية وتبرير وجودها، وهو ما يتوقعه الحكام بعينه، فهم يروجون دائماً للمداهنة والاندماج، وعدم الاعتراض والاكثار من المطالب مهما كانت ضرورية، إنما الحاكم هو الذي يتكفل بتوفير كل شيء دون تجشم عناء الطلب منه!

وللعلم؛ فان العراقيين تسلّموا دعوة بهذا الاتجاه قبل ان تنطلق القوات الاميركية في حربها للاطاحة بنظام صدام، بدعوى القبول بنظام صدام أقلّ خسارة من القبول بالقوات الاميركية المحتلة! وأن بالامكان التفاوض مع صدام لتغيير منهجه وسياساته و...! وقد غاب عن اصحاب الدعوة أن لو اراد صدام ذلك، لما كان مضطراً اليه أمام التهديدات الاميركية، وليمارس النفاق امام العالم بعد كل الذي عمله مع الشعب العراقي.

إن بامكان الشعوب الاسلامية، بكل مكوناتها الاثنية، عمل الشيء الكثير، وبما يفوق التعاطف وإرسال المساعدات الغذائية والدوائية وبعض الاموال، ليرقى الى تشكيل أدوات ضغط حقيقية وفاعلة من مؤسسات وجمعيات وشخصيات ذات شأن وتأثير على القرار السياسي لايقاف مسلسل الدم الذي يستهدف المطالبين بحقوقهم المشروعة والابرياء الذين ربما لم يحملوا مسدساً او بندقية في حياتهم، قبل التفكير بأي خطوات سياسية او اقتصادية مهما كانت ضرورية، فالشعوب التي تحمل الجراح الغائرة في ابنائها وكرامتها، لن تستشعر أبداً ثمار الاتفاقيات والمعاهدات، وإن كانت ثمة نتائج، فهي لأناس آخرين.

اضف تعليق