q
إنسانيات - حقوق

الأزمات تنتهي ويبقى الصامدون

قصة نازحة من وحي الواقع

لا تيأس اذا كنت في القاع فأحيانا توجد هناك معادن ثمينة تغير المستقبل وتجعل من الإنسان نجماً لامعا في سماء العظمة، إذا استطاع الإنسان أن يفتح عينيه في الظلام، ويصل الى تلك المعادن!.

بعد أن أحرقوا أموالنا وآمالنا لم نستطع أن نفعل شيئا سوى الهرب، في تلك اللحظات لم يكن يهمنا أي شيء سوى سلامتنا، فذهبنا في طريق مجهول لا نعرف ما يخبئ لنا القدر، الى أن اجتمعنا في المخيمات التي خصصت للمشردين مثلنا.

كنا نشكر الله على سلامتنا وعلى أننا جميعنا بخير، ولكن والدي لم يكن مثلنا فهو لا يستطيع أن يتحمل صعوبة العيش وان يجلس فارغ اليدين ويقضي يومه كيفما اتفق، كنت ارى الانكسار والحزن في عينيه فكيف لا يكون كذلك من يعمل طوال اليوم ويكد كي يجلب لقمة العيش، عليه أن يجلس مكتوف الأيدي ليرى ذل حاله وحال عائلته.

والدتي كانت كما هي دائما صبورة، تخفي الأوجاع في النهار وتجمعها لتتخلص منها عندما يحل الظلام بعد أن نغطّ جميعنا في نوم عميق، كنت أراها في بعض الأحيان عندما يثيرني الفضول في تلك اللحظات كنت أحارب النوم وأنظر الى دموعها وأسمع نحيبها وهي تناجي الله ليخلصنا من هذه الأزمات، كنت أضعف مما أقوى على فعل أي شيء ولم أكن اعرف من هو الله، ولكن كنت اعرف انه هو الذي يغير أحوالنا في يوم ما، وهو بالتأكيد لديه قدرة فائقة لأن والدتي تناجيه في كل صعوبة ومرارة نعاني منها.

عندئذ بلعت ماء فمي وأغمضت عيني لأدعو أيها الرب الذي تسمع كلامنا فلتلبى دعوات أمي وتجبر انكسار والدي.. نعم تلك الكلمات كانت اصدق وأجمل الكلمات بالنسبة لطفلة لم تبلغ من العمر سوى خمس سنوات، واليوم بعد مرور عدة سنوات أبتسم فرحا لأنني كنت مؤمنة بوجود الله وكنت أدعوه للخلاص، ربما كان إيماني في تلك اللحظات أفضل وأرجح من ايمان رجل او امرأة "ثلاثينية" لم يعرفا كيف يتوكلا على الله.

بعد ان مرت أيام على وجودنا في تلك المخيمات التي كانت تجمعنا معا كعائلة، أخذ أبي بيدي لنتجول في الأرجاء ونستكشف ما يوجد حولنا، ابتعدنا عن المخيمات كنت أشعر بالخوف ماذا لو لم نتمكن من الرجوع او ماذا لو تهنا في الطريق؟ ولكن بعد التعب والقلق وصلنا الى منطقة بكر، كأن لم يطأْ أرضها بشر، بركة صغيرة في منتهى الجمال كأنها قطعة من الجنة وأشجار جميلة.

كنت غارقة في ذلك الجمال فكلما يرتد طرفي أرى جمال الماء، الأشجار، صوت زقزقة العصافير، أشم عبق الورود.. جميعها كانت كلمسة ام حانية تمسح على قلبي لأشعر بالطمأنينة والسكينة، انشغلت باللعب ولم اشعر بفقدان والدي ولكن رأيته يأتي من بعيد ويحمل بيده عود الصفصاف والسنديان وقال: قد حان موعد الرحيل.

أخذت بيده لأشعر بأن الجنة أحيانا تأتي على شكل ورود وأنهار، واحيانا تكون كهيئة أبي حين أشعر بأنه يحميني من الأذى وأحيانا تكون الجنة في أحضان أمي حين أحزن من الدنيا وما فيها، كان يخطو خطواته بثبات وكأن الروح رجعت الى جسده الهزيل أصبح شامخا رغم انكساره كنت اشعر بأن هناك خطة ما في رأسه، وكنت محقة، عندما رجعنا استغرب الجميع من رؤيته وهو يحمل بيده هذه الأعواد وأنا أيضا كنت مستغربة ماذا يريد أن يفعل بها؟.

لم أكن اعرف انه يتقن حياكة السلال وبأن هذه الحرفة كانت متوارثة في عائلته بعد أن أخبرتني أمي بذلك، ولكن لم يصنع أي شيء أمامي كأنه كان يخبئ هذه الحرفة بين ثنايا روحه، ربما كانت تذكره بوالده أو ربما كان يحافظ عليها لأجل هذا اليوم.

ذهب الى جانب الخيمة، جلس بهدوء وبدأ عمله كأنه كان مصمما للحصول على المعادن الثمينة في جرف القاع والظلام، بدأ يصنع السلال ويبيعه الى المارة هكذا حصل على مبلغ ضئيل من المال ليبدأ حياته من جديد ويجبر انكساراته بنفسه، أصبح لديه رأس مال ليبدأ بمشروع جديد ويغتنم وقت فراغ أطفال النازحين فيعملون جميعهم في مصنعه الصغير، بدأ كل واحد يبيع شيئا ما من الماء والمحارم و... للمارة ويتعلم ان يعتمد على نفسه ولا يكون ذليلا يمد يد العجز الى هذا وذاك، هكذا استطعنا ان نخرج من المخيمات ونودع تلك المأساة، وأصبح أبي ذلك النجم في سماء العظمة، فالعظمة لا تعني الصعود على منصة المؤتمرات والأمسيات واخذ نوبل فقط، بل احيانا تكون في يد رجل يرجع الحياة والبسمة على وجوه البائسين، قد يعطينا الله ما هو اثمن من المال وهو الأمل والإرادة.

هكذا نستطيع ان نتجاوز الأزمات ونقوم بعد العثرات لاجل استكمال الرحلة كما قال انشتاين: في قلب الشدائد تكمن الفرص.

استطاع ابي ان يجد المعادن الثمينة ويصبح المعطاء ليخرج نفسه وعائلته والآخرين من الأزمة، فهو الذي أرجع الأمل الى المخيمات ليشعر الجميع بأن الحياة لا زالت مستمرة، وعليهم ان يكملوا مسيرتهم.

في الأوقات الصعبة أمامنا خيارين نستطيع ان نجلس دون حركة ونتذمر ونبكي لتأخذ الدموع أمام أعيننا، كي يصعب علينا النظر ولا يمكننا مشاهدة الأشياء من حولنا، ونستطيع ان نفتح أعيننا وندقق النظر ونستفيد من أحلك المواقف بطريقة مثلى.

علمني والدي بأن الفرج يحتاج الى العمل، والانسان يجب ان يبحث عن الحل ليخرج من الأزمات، وإلا يموت في القاع بعد ان يتخبط يمينا وشمالاً دون أن يدرك شيئا، وتعلمت من والدتي أينما كنت وفي اي حالة كنت باستطاعتي تغيير الأمور، فيجب ان أدعو ليأتيني الفرج لان الدعاء أقوى سلاح وباستطاعة الباري ان يفعل المعجزات في اي لحظة.

أينما كنا ربما الناس يغلقون أبوابهم في وجهنا ويذلونا كما فعلوا بنا عندما كنا في أسوأ الحالات، ولكن باب الله مفتوح على الدوام ويخرج الإنسان من القاع ليجعله نجماً لامعا في سماء العظمة، يعز من يشاء بيده الخير وهو على كل شيء قدير.

اضف تعليق