q
إعداد منهج تربوي يؤخذ من سيرة أهل البيت (ع) ومن منظومة الفضائل التي جسدوها في سيرتهم وطبقوها في المجتمع مع كل المكونات بمختلف انتماءاتها، وتطبيقه في المناهج الدراسية بغض النظر عن طبيعة المكون الاجتماعي واعتقاده الديني لأن رؤية أهل البيت لهذه الفضائل تنطلق من نظرتهم الإنسانية لجميع البشر...
تحرير: حسين علي حسين

عقد مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث جلسته الحوارية في ملتقى النبأ الأسبوعي تحت عنوان (الفضائل ومناهج التقدم في الأمم وفق رؤية أهل البيت عليهم السلام)، بمشاركة عدد من الكتاب والباحثين والأكاديميين.

وقدم الباحث في المركز محمد علاء الصافي ورقة قال فيها:

الفضائل جمع فضيلة، والفضيلة هي كل أمر حسن استحسنه العقل السليم من الدين والخلق، وفضيلة الشيء: مزيته أو وظيفته التي فقدت منه. فالفضائل إذن هي كل درجة أو مقام في الدين أو الخلق أو السلوك العلمي أو العملي اتصف به صاحبها.

والفضيلة: مقابل الرذيلة والنقيصة. هي الخلق الطيب، والخلق هو «عادة الإرادة» فإذا اعتادت الإرادة شيئا طيبا سميت هذه الصفة فضيلة، والإنسان الفاضل هو ذو الخلق الطيب الذي اعتاد أن يختار أن يعمل وفق ما تأمر به الأخلاق، وبذلك يكون الفرق بين الفضيلة والواجب واضحا، فالفضيلة صفة نفسية، والواجب عمل خارجي، وعلى هذا يقال: فلان أدى الواجب ولا يقال: أدى الفضيلة بل حاز الفضيلة.

الإنسان له روح وله بدن، والأول مصدر العلم والفضيلة، والرضا والغضب، والحزن والسعادة، والجبن والشجاعة، والسخاء والبخل... وما إليها.

والثاني مصدر الإدراك والذوق، والسمع والبصر، والشباب والهرم، والصحة والسقم وما إليها.

ولكل من هذين استقامة وانحراف: فانحراف الجسد: المرض، واستقامته: العافية، وانحراف الروح: البخل والجبن... وما إليها، واستقامته: الكرم والشجاعة.. وما إليها.

وكما أنّ بدن الإنسان لا يقوم إلا بالوقود، من أكل وشرب وهواء وضوء...

كذلك روح الإنسان لا تقوم، إلا بعلم وعدل، ومروءة وفضيلة..

و(الأخلاق) إنّما وضعت لإصلاح الروح، كما إن (الطب) إنما وضع لإصلاح الجسد. فعلينا إذاً أن نزوّد أنفسنا بالوقود الخلقي، كما نزوّد أجسامنا بالوقود البدني.

وعلينا أن نعالج أرواحنا المريضة، كما علينا أن نعالج أجسامنا المريضة.

وليست الفضيلة مما تلقي على الإنسان بمجرد التمني وإلا لأصبح كل فرد فاضلاً يقول الله: (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به...).

بل إنما تحتاج إلى تبصر في الأمور، واكتساب دائم ودؤوب في التحصيل.

يقول امير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام): (ليس العلم بكثرة التعلم وإنما هو نور يقذفه الله في قلب من يشاء)، لكن لا يقذفه اعتباطا كما لا ينمي الشجرة والأرض مالحة، والماء أجاج، وإنما يقذفه في قلب من أخلص وجد واجتهد.

ويفسر ذلك الإمام أمير المؤمنين (ع): (إن من أحبّ عباد الله إليه عبداً أعانه الله على نفسه فاستشعر الحزن وتجلبب الخوف. فزهر مصباح الهدى في قلبه).

ينسلخ بعض الناس عن الدنيا فيترهّب، وينسلخ بعضهم عن الآخرة فيلحد، وكلاهما على خطأ.

الاعتدال في الأمور يقودنا الى الفضيلة، وهو من اهم قيم التقدم في عالمنا، وقاعدة الحياة لا افراط ولا تفريط تقينا من الانحدار نحو الرذائل والانحرافات نحو التشدد نحو اليمين او اليسار.

إن البدن والروح اشبه بالحصان وراكبه، والغاية من هذا الوصول إلى دارٍ آخرة هي جناتٍ عرضها السماوات والأرض. وكما أن على الراكب أن يتعاهد أمر فرسه بالعلف والسقي حتى يوصله إلى مقصده، كذلك على الإنسان أن ينظّم أمور جسده من أكل وشرب ونوم وراحة حتى يكمل فضائله استعداداً لمقصده.

فأولئك الذين يتكالبون علـى الحطام دون اعتناء بالناحية الروحيّة يكون حالهم كراكب أغفل نفسه، واعتنـى بأمـر دابته، حتـى مـات جوعـاً وعطشاً وأولئك الذين تبعد أعينهم عن البدن ويشتغلون بالآخرة المجرّدة في زعمهم، يكون حالهم كالراكب إذا أغفل أمر دابته واشتغل بنفسه فإنه ينقطع في الطريق ولا يصل إلى المقصود وفي ذلك يقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم): كالراكب المنبتّ لا سفراً قطع، ولا ظهراً أبقى.

وفي الحديث عن امامنا الصادق (ع): (ليس منّا من ترك آخرته لدنياه، وليس منّا من ترك دنياه لآخرته).

نتائج التعدّي على الموازين

عرّف أمير المؤمنين (عليه السلام) الدنيا في كلمة وجيزة، فقال: (الدنيا تغرّ وتضرّ، وتمرّ)، فيا لها من عبارة ليس فوقها تعريف!

وهكذا تكون الدنيا في الأغلب: سبباً للظلم والعدوان، والتعدي عن الموازين، والجري وراء الشهوات! أما الدنيا التي هي مزرعة العلم والعمل والفضيلة والعدل. فهي ممدوحة ومن لوازم البشرية.

من اهم الفضائل وقيم التقدم في عالم اليوم هو ضبط النفس (أو العفة بأوسع معانيها)، هو اعتدال الميل إلى اللذائذ، وخضوعه لحكم العقل، وليس ذلك مقصورا على اللذائذ الجسمية بل يشمل أيضا اللذات النفسية، كالانفعالات والعواطف، فلا يسمى الشخص «ضابطا لنفسه» إلا إذا اعتدل في لذاته الجسمية من مأكل ونحوه، واعتدل أيضا في انفعالاته فلم يغضب لأي داع، ولم يندفع في السير وراء عواطفه، كأن يحن حنينا شديدا إلى وطنه إذا نزح عنه، أو يفرط في حزن لفقد عزيز عليه، وكثير من الرذائل يرجع سببه إلى عدم القدرة على ضبط النفس كالشراهة والطمع والإسراف والغضب والسخط والثرثرة والإدمان.

تتضمن هذه الفضيلة أن يكون الإنسان سيد نفسه لا عبدا لشهوات تسيره كما تشاء، وهذا أعظم ما يواجهنا اليوم في عالم الملذات والغرائز وثقافة الاستهلاك الاعمى والاسراف باستنزاف الموارد الطبيعية ولو كان على حساب صحة الانسان او بقية الكائنات او وجود الكوكب نفسه، وما نواجهه من تحديات التلوث الشديد وتغير المناخ وغضب الطبيعة من كوارث طبيعية كالفيضانات وموجات الجفاف الشديدة والاعاصير والزلازل وثورة البراكين الا دليل على رذائل الشهوات وعدم ضبط النفس البشرية والاحتكام لمبدأ (الغاية تبرر الوسيلة)، هو سلوك كارثي مخالف للفطرة الإنسانية واحكام السماء ومنهج الصالحين ورسولنا الكريم واهل بيته الطاهرين.

يجب أن نحافظ على قوة المقاومة، ونتبرع بعمل صغير كل يوم، لا لسبب إلا مخالفة النفس والهوى، فإن ذلك يعيننا على مقاومة المصائب إذا حان حينها.

فليس يقتضي ضبط النفس القضاء على الرغبات والشهوات، وإنما يقتضي تهذيبها واعتدالها، وجعلها خاضعة لحكم العقل، ففي القضاء على الشهوات قضاء على الشخص وعلى النوع، وفي اعتدالها سعادتهما جميعا.

تحقيق العدل من أعظم الفضائل

كذلك من اعظم الفضائل ومناهج التقدم في المجتمعات هي تحقيق العدل، والمجتمع العادل هو المجتمع الذي له من النظم والقوانين ما يسهل لكل فرد من أفراده أن يرقي نفسه على قدر استعداده، فلا يكون المجتمع عادلا حتى تتوافر لكل طائفة من الناس وسائل رقيهم، ففي الأمة مثلا طائفة من التجار يحتاجون في تجارتهم إلى نظام مصرفي متقدم ووسائل متقدمة لنقل البضائع وهكذا، وطائفة من الناشئين يحتاجون إلى مدارس يتعلم فيها كل من أراد أن يتعلم، وفيها من النظم والعلوم ما يسد حاجة كل طالب، وطائفة من المتخاصمين يحتاجون إلى قضاة وقوانين تردع الجناة وتحفظ حقوق الناس وهكذا، فإذا قامت الأمة بكل هذا حق لها أن تسمى مجتمعا عادلا، وإلا فهي مجتمع ظالم.

والمطالب بتحقيق العدل في المجتمع كل فرد من أفراده، فكل إنسان مطالب أن يعمل لتحقيق العدل في مجتمعه على قدر استطاعته، فإذا احتاجت مدينة إلى مستشفيات مثلا فعلى الخطيب أن يخطب حاثا على إنشائها، وعلى الكتاب والمثقفين أن يكتبوا، وعلى الشعراء أن يشعروا، وعلى الأغنياء أن يتبرعوا، وعلى كل ذي قدرة وجاه أن يستعمل قدرته وجاهه في مساعدة المشروع، ثم على من في يدهم تنفيذه أن ينفذوا، فإذا لم يعمل كل فرد ما عليه فالأمة كلها آثمة ظالمة، يقع عليها ضرر تقصيرها، حتى الأفراد الذين أدوا ما عليهم، لأن المجتمع كما قدمنا جسم عضوي، وذلك هو شأن الجسم العضوي، فلو أن القلب أدى ما عليه ولكن المعدة لم تؤده عوقب كل عضو في الجسم حتى القلب.

وإذ كانت حكومة كل مجتمع هي القائمة بالأمر فيه فهي لا تعد عادلة إلا إذا قامت بواجبها خير قيام، وليس واجبها أن تحصل الخير لنفسها، ولكن أن تقدم للمجتمع الذي تحكمه أقصى ما تستطيع، وقد عبر أفلاطون عن هذا بقوله: «إن خير حكومة هي التي تضع كل فرد من الأمة في خير مكان يليق به، ويستطيع أن تظهر فيه مواهبه، ثم تمده بما يحتاجه لأداء ما عهد إليه» وعلى هذا لا تكون الحكومة عادلة إلا إذا قامت بهذه الوظيفة، وهو تكليف للحكومة شاق، من المشكوك فيه أن يتحقق يوما ما، مهما صغر المجتمع ورقيت حكومته.

وأقل من هذا تكليفا ما قاله بعضهم من أن الحكومة تعد عادلة ما دامت لا تضع العراقيل في سبيل أفرادها، وتتركهم أحرارا يعملون ما يشاءون لترقية قواهم وملكاتهم وأعمالهم، حسب استعدادهم، إلا عند الضرورة القصوى، أما إذا كان بعض أفراد الشعب يريد مثلا أن يتعلم فيجد السبل قد سدت أمامه، أو التاجر لا يستطيع أن يرقي تجارته للعقبات التي تضعها الحكومة في سبيله، فإذ ذاك لا يمكن أن توصف حكومة هذا الشعب بالعدل.

هذه الفضائل وأمثالها لا يرقى الإنسان في اكتسابها إلا بأمرين:

الأول: محاسبة النفس وسؤالها من حين إلى حين في أية فضيلة ارتقيت وفي أيتها ضعفت، هل أنا اليوم أصدق من الأمس، وإلى أية درجة نجحت في التزامي الصدق، بهذا الامتحان ونحوه يستطيع الإنسان أن يتتبع نفسه ويراقبها في سيرها.

الثاني: الإرادة القوية المسيطرة على النفس، فالإرادة قابلة للتمرن، ومثلها مثل من يبتدئ في ركوب دراجة فهو في أول أمره يختل توازنه، ولا يستطيع أن يسيطر عليها، يعلم ما يريد ولكن لا يستطيع أن يصرفها كما يريد، وبالتدريج والمرانة تطيعه الدراجة، وتنتظم حركته، وتصبح تحت سلطته، ويسير في سهولته سيرا آليا.

وهذا هو ما ينبغي في سيطرة الإنسان على نفسه، يكون لإرادته من القوة ما تستطيع به أن توجه النفس إلى ما تعتقد من خير وصواب.

وفي نهاية الورقة طرح الباحث سؤالين على المشاركين في الحلقة وهما:

س١/ كيف نستفيد من منهج اهل البيت (ع) للتحول من التخلف الى التقدم؟

س٢/كيف يمكن ايجاد الحاضنات المؤسسية التي تؤدي الى بناء الفضائل في المجتمع؟

المداخلات

استثمار منهج اهل البيت (ع) في التأثير العميق

الباحث حسن كاظم السباعي:

إن أهم ما يميز أهل البيت عليهم السلام عن غيرهم هو؛ أن جميع الأمم والفئات والثقافات والتيارات مع جميع اختلافاتها وتضادها متفقة على أن لأهل البيت عليهم السلام قدرة كبيرة في التأثير، أي انهم سلام الله عليهم قد فرضوا وجودهم على جميع الأنفس والقلوب من دون استثناء.

وهذا ما نستلهمه من الزيارة الجامعة الكبيرة المروية عن الإمام الهادي عليه السلام حيث يقول: "حَتّى لا يَبْقى مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلا نَبِىٌّ مُرْسَلٌ، وَلا صِدّيقٌ وَلا شَهيدٌ، وَلا عالِمٌ وَلا جاهِلٌ، وَلا دَنِىٌّ وَلا فاضِلٌ، وَلا مُؤْمِنٌ صالِحٌ، وَلا فِاجِرٌ طالِحٌ، وَلاجَبّارٌ عَنيدٌ، وَلا شَيْطانٌ مَريدٌ، وَلا خَلْقٌ فيما بَيْنَ ذلِكَ شَهيدٌ اِلاّ عَرَّفَهُمْ جَلالَةَ اَمْرِكُمْ، وَعِظَمَ خَطَرِكُمْ وَكِبَرَ شَأْنِكُمْ...".

حيث كما نرى أنَّ بعض هذه الفئات أو التيارات برغم إظهارها البغض وممارستها العداء، لكنها في نفس الوقت وفي قرارة نفسها تقر بفضل أهل البيت عليهم السلام وتأثيرهم وتعترف بهذه الحقيقة.

هذه الميزة تدعونا جميعا إلى أن ننهج منهجهم الناجح المتقدم الذي يفرض وجوده ويترك أثره إلى درجة يجبر بها حتى خصمه أن يركع له طوعا في نهاية المطاف..

مثال ذلك: تجربتي مع فرد ملحد قضى عمره في معاداة كل ما يرتبط بأهل البيت عليهم السلام، ولكنه في لحظة احتضاره قال رغم كل ما صدر مني فإني لم أفقد الأمل أن يمسك الإمام الحسين عليه السلام بيدي وينقذني في العالم الآخر!.

حيث يدل ذلك على الاعتراف الداخلي بفضلهم وشدة تأثيرهم.

من هنا فإن الواجب؛ هو المثابرة لمواصلة طريقهم دون الالتفات إلى الأقوال والأفعال من المغرضين أو الحاسدين أو المقاطعين أو الشامتين أو التسقيطيين أو أصحاب الألسن البذيئة وما شابههم وعدم مواجهتهم بنفس أساليبهم ومنطقهم، كل ذلك إلى تحقق هذا التأثير والتقدم نحو الأمام.

أما عن كيفية إيجاد حاضنات مؤسسية تؤدي إلى بناء الفضائل في المجتمع، فلا يختلف اثنان في ان قيام مجموعة من الأفراد بخلق هذه الأجواء في أنفسهم سيجعلها تشع وتنتشر وتتحول إلى تيار يفرض نفسه بقوة، فتنتج تلك المؤسسات أو الحواضن التي نطمح إليها.

خير أمة بالعلم والمعارف والأخلاق

الباحث عدنان الصالحي مدير مركز المستقبل للدراسات والبحوث:

قال عزّ من قائل: (كنتم خير أمة أُخرِجتْ للناس)، خير أمة لم تكن خيرا من جانب التفوق المادي ولا من الجانب الاجتماعي، وإنما كانت خير أمة بالعلم، والمعارف، والأخلاق.

هنا يؤكد تعالى على أن التقدم يبدأ من تلاحم هذه الأفعال، وهذا ما يؤكده الإمام الصادق (ع) في قوله: (مكارم الأخلاق ومحامد الأفعال)، تدعمها المعارف والقيم، وهنا تبدأ الفضائل بالنمو وتبدأ بالانتشار، فيكون المجتمع منصفا لنفسه، ومنصفا لعناصره.

أما بعد أن حصل العكس تماما فقد ذهبت الأمة في وقتها بإزاحة أصحاب الحق عن مناصبهم وهم أهل البيت (ع)، وأوردوهم موارد الهلاك من خلال التشريد والقتل والسجن، وهم خلفاء الله في أرضه، هذه الصورة معاكسة تماما لما نزلت به الآيات من خلال ما انتهجته الأمة من مناهج، ولذلك كان هنا مسلك رسول الله (ص): (إنما بعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق).

وهذا هو الأساس في كل خطوة تخطوها، فما فائدة أن تكون الأمة عظيمة في مادياتها أو قوتها واقتصادها، وهي أمة تهرب من الإنسانية إلى الشهوات والحيوانية، وهو ما يحدث الآن في الغرب، فبالنتيجة العالم المتهور اليوم عالم لا يتحدث عن الفضائل، بل يتحدث عن الأقوى، يتحدث عن استعباد الآخرين، أو تركيعهم، وبهذا السلوك وبهذه الكوارث التي يعيشها العالم، أنا باعتقادي إنه يسير إلى نهايته.

وما جاء في الورقة عن التغير المناخي، وعن الأزمات، فهذه كلها مقدمات لنتائج قام بها الإنسان بنفسه، وما يقدمه الإنسان من أشياء بسيطة، قد ترتد عليه بأزمات وعواصف كبرى، كما يحدث حاليا، كيف يمكن الموائمة في هذا الجانب، أنا باعتقادي يجب الرجوع إلى الفطرة الإنسانية، والرجوع إلى حقيقة الإنسان، وإن الإنسان يجب أن يكون حرا في عبوديته المطلقة لله عز وجلّ.

الأساس أن يحترم الإنسان مساحة أخيه الآخر، أيّا كان صنفه ودينه وتوجّهه، وأن يكون مقتنعا بأن ما لديه من قدرة ومن كرامات ومن حرية محدودة لقناعات أخرى لحرية الآخرين، هذه القناعات إذا ما توفرت، وكان الإنسان على قناعة بأنه هو ليس (ربهم الأعلى) بل هو إنسان واحد في منظومة العالم وللآخرين أجزاء منها، هنا سوف نبدأ نقتنع بأننا نعود إلى فطرية الإنسان، وإلى منظومة البشر المتواضعة، ونحو ربوبية المنظومة التي تألفنا بها.

ترويض النفس وتهذيبها

الحقوقي أحمد جويد، مدير مركز آدم للحقوق والحريات:

الورقة البحثية جيدة ومحيطة بالموضوع من أغلب نواحيه، يقول سبحانه: (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها)، هذه النفس البشرية بهذه الكيفية يعبر الله سبحانه وتعالى عنها، وفعلا إن الفطرة السليمة للإنسان هي التي تحدد الفضائل والأخلاق والمثل العليا.

فأي سلوك يعرضه الإنسان على فطرته، سواء كان مسلما أو غير مسلم، فالفطرة السليمة قد تقبل بهذا الفعل الإنساني أو لا تقبل به، وهي التي تحدد الفضيلة من الرذيلة، فالفضيلة على عكس الرذيلة، وأفضل شيء للإنسان للحصول على الفضيلة، هو ترويض النفس لأنها تجنح وتطغى بسبب القوة الغضبية الموجودة في داخلها، إذا تُركت بلا ترويض.

ولذلك يقول الإمام أمير المؤمنين (ع): (إنما هي نفسي أروّضها بالتقوى)، وفعلا فإن موضوع التقوى واسع ومن يتمسك بها فإن الله (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب)، و(يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قُوٓاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ)، فالتقوى وترويض النفس بالتقوى هو الأساس للوصول إلى الفضيلة، والقرآن يقول في بعض آياته: (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا).

فإذا التزمنا بهذه الآية الكريمة فقط، وراقبنا جميع سلوكياتنا وتصرفاتنا وكلماتنا، وما يصدر عنا وفقا لهذا الميزان، (لا تقف ما ليس لك به علم)، يمكن أن نصل إلى أعلى درجات الفضيلة، ونحن اليوم نحكم على أشياء ونظلم أناسا ونطلق التهم، ونشّهر بالآخرين، لمجرد أن شخصا نشر منشورا في مواقع التواصل الاجتماعي، من دون أن نتحقق، ومن دون أن نتأكد، وأن يكون لدينا علم بالموضوع، بل مجرد على الأقوال، وأن فلانا ذكر هذا الشيء، وقد تصل بعض القضايا إلى فضائح تسيء بسمعة الناس، أو سمعة مؤسسات، كل هذا نأخذه وفقا للسمع فقط، (ولا تقف بما ليس لك به علم، إن السمع) وهذا هو أول شيء، لأن حكمنا دائما يكون سماعي، لكن من الخطأ والخطر أن نحكم على المواقف والمواضيع أو أي شيء من خلال السمع، بل حتى البصر، فقد يكون إنك شاهدت شخصا ما في موقف معين، ولا تعرف نوايا هذا الشخص، لكنك حكمت عليه من خلال النظر.

لذلك فإن قضية ترويض النفس وتهذيبها هو الوصول إلى الفضيلة والأخلاق العليا، لأن الرسالات السماوية جاءت لترسم الطريق الأخلاقي، وتهذب المجتمع وتصل به إلى الأخلاق الرفيعة، يقول الرسول (ص): (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) يعني هناك أخلاق في المجتمع، ولكن مكارم الأخلاق هي الهدف الذي تبحث عنه الرسالات السماوية كما يقول الشاعر:

هي الأخلاق تنبت كالنبات....... إذا سُقِيَتْ بماء المكرمات.

فماء المكرمات هو سمو الفضيلة، التسامح، الصفح، الكرم، الشجاعة، النخوة، وكثير من هذه الصفات التي يحبها جميع الناس، أنا أعتقد وأجزم بأن جميع امثل الفضيلة يحبها الكل، سواء كان الشخص فاضلا أو غير فاضل، ويمكن لأشخاص أن يعملوا بالفضيلة، وهنا أشخاص لا يستطيعون العمل بالفضيلة.

ما من بشر على وجه الأرض كان يحمل أخلاق اهل البيت لأن أخلاقهم هي أخلاق رسول الله (ص)، فقد تعرضوا إلى الكثير من الأذى والكثير مما لا يستطيع البشر أن يتحمله، ولكن في داخل أنفسهم، لم يميلوا إلى الحقد ولا إلى الضغينة، ولا إلى الانتقام، وهناك روايات كثيرة تؤكد هذه، وهناك مواقف في عاشوراء للإمام الحسين (ع)، إنه كان يقول ما معناه أخشى من هؤلاء أن يدخلوا الناس بسببي أو بسبب قتلي.

وكذلك الأذى الذي تعرض له رسول الله (ص)، في مكة وفي الطائف، وهو المظلوم الأكبر على وجه الأرض، وهو القائل: (ما أوذي نبي مثلي) ورغم ذلك لم يدعُ على قومه، والأكثر مظلومية أيضا هو أمير المؤمنين (ع)، وكيف انتزعوا حقه ودفعوه عن مكانته ورغم هذا صبر واحتسب ولم يتوقف عن القيام بواجباته الإنسانية والأخلاقية وخدمته للمجتمع وللأمة.

ربما أي شخص منا يتعرض إلى موقف ما من المجتمع أو من شخص معين، فإنه يعمم هذا الموقف على المجتمع بأكمله، ويعلن أنه لا يعمل خيرا لأحد، ولكن هذا ليس من الفضائل أن نحكم على موقف شخصي ونعمم ذلك، لأنه من الفضائل فعلا خدمة الناس وعمل الخير، هذا الموضوع فيه آفاق واسعة.

الارتقاء بالفضائل في منهج اهل البيت (ع)

الشيخ مرتضى معاش، باحث في الفكر الإسلامي المعاصر:

إن الفضائل تأتي من كلمة الفضل، والفضل تعني الزيادة ويقابلها النقص، فكل شيء فيه فضل فهو من الفضائل، وهو ما يؤدي إلى تقدم الإنسان ونموّه وتطوره.

سواء كان هذا الفضل أخلاقي أو علمي أو معرفي أو نفسي، وعلى العكس من ذلك فإن كل ما يؤدي إلى النقص في الإنسان سواء كان من الجهل أو التخلف، فهو من الرذائل.

المعصومون (عليهم السلام) طرحوا منهج الفضائل كأهم عنصر في عملية تقدم الإنسان، بالطبع التقدم بهذا المعنى، هو النمو والتطور الذي يأتي في الجانب المعنوي، وليس في الجانب المادي الذي يأتي كـ مكمّل للجانب المعنوي، أي بمعنى أن عالم اليوم المتقدم ماديا هو يؤطّر الجانب المعنوي ماديا ويخضعه له، فبالنتيجة يتقلص الجانب المعنوي ويضمحل لصالح الجانب المادي. لكنه في الأساس في عملية التقدم الواقعي فإن الجانب المعنوي هو الذي يؤطر الجانب المادي فيكون إطارا ومنهجا لأي عملية تطور مادي، لأن التقدم المادي دون وجود جانب معنوي متحكم به ومسيطر عليه يصبح جامحا، وبالنتيجة يؤدي إلى فقدان الحكمة في الحياة.

المعنى اللغوي للحكمة هو ما أحاط بحَنَكَي الفرس فتمنعه من الجري الشَّديد، وتمنعه من الجِماح، فاللجام الموضوع في رأس الحصان يحكمه، فيؤدي ذلك إلى التحكم بالحصان وعدم جموحه وعدم انفلاته، فالحكمة هي كل شيء يؤدي إلى عملية التحكم بالشهوات، والتحكم بالجوانب المادية.

العالم اليوم يعيش التضخم في الجانب المادي وتغوّله وجماحه وانفلاته، مما أدى إلى ضمور الجانب المعنوي واضمحلاله، فأصبح العالم اليوم يعيش فراغا معنويا كبيرا.

أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أكدوا على تأطير الجانب المعنوي حتى يصبح الإنسان متقدما في الحقيقة وليس بالشكل والصورة، لذلك نلاحظ هناك تأكيد على جوانب تأطير الفضائل من خلال التقوى والرفق والعفو والإيثار والعقل، وأهم نقطة لاحظناها في أهمية الفضائل، هي أن الأحاديث والروايات تؤكد على قضية المغفرة والحلم والتحكم بالغضب.

وهذا هو أهم ما يؤدي إلى فضيلة الإنسان وتطوره ونموه، لأن الإنسان الذي لا يمتلك القدرة على العفو والمسامحة والصفح والعيش مع الآخرين والرفق واللاعنف، يكون غير قادر على أن يكون عارفا وواعيا وفاهما وحكيما وبالتالي ناجحا في حياته، عنه (ع): (خذ على عدوك بالفضل، فإنه أحد الظفرين).

التكامل المعنوي بالايثار: وعن الإمام علي (عليه السلام): (كن عفوا في قدرتك، جوادا في عسرتك، مؤثرا مع فاقتك، يكمل لك الفضل)، فتكامل النمو يأتي بهذه الجوانب الثلاثة، العفو عند القدرة، والكرم عند العسر، وليس عند الرخاء، وأن يكون الإنسان مؤثِرا ومضحيا ومعطاء حتى مع احتياجه، هذا هو تمام الكمال ومنهج التفاضل المعنوي والنفسي عند الإنسان.

وعن الإمام علي (عليه السلام): (من أحسن إلى من أساء إليه فقد أخذ بجوامع الفضل)، فالإنسان الذي يسامح ويعيش المسامحة والعفو والغفران بالنتيجة سوف يتكامل في نفسه، من حيث الجانب المعنوي الذي يزداد عنده في مقابل اضمحلال الجوانب الأنانية والمادية عند الإنسان. وعنه (ع): (من آثر على نفسه استحق اسم الفضيلة).

الفضائل هي الحرية: الحرية متناسقة مع الفضائل، لا يمكن أن تكون هناك حرية خارج حدود الفضائل، وتنعدم مع انغماسها في الرذائل، فالحرية تصطف إلى جانب الفضائل والأخلاق والقيم السليمة.

فالفضائل هي الحرية، والحرية هي الفضائل، لا يمكن أن نقرأ الفضائل دون حرية، ولا يمكن أن نقرأ الحرية دون فضائل، فالذي يمارس الحرية دونما فضيلة فهذه ليست حرية، وإنما هو انفلات وتمرّد، وفي الآية القرآنية: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ) الحج 3.

فالحرية هي الفضيلة لأن الإنسان يسير في طريق الارتقاء بمسؤولية، كما يقول الإمام علي (عليه السلام): (الارتقاء إلى الفضائل صعب منج، والانحطاط إلى الرذائل سهل مرد).

فالإنسان المتمرد يستطيع أن يدخل في عالم الرذائل في أي وقت بسهولة، ويمارس الرذائل، لهذا يغرق ويسقط هذا الإنسان، لأن الرذائل مستنقع كبير جدا، إذا سقط فيه فلن يخرج منه، بينما سلوك عالم الفضائل قرار وبناء للاختيار الواعي وعمل واجتهاد ومعرفة لذلك يكون صعبا، لأنه يحتاج إلى عملية تراكم واستقامة واستدامة ورياضة نفسية وترويض للذات، وهكذا يكون هذا الإنسان من الناجين في الحياة وليس من الغارقين أو الداخلين في عالم الظلام السوداوي الذي ينزلق فيه البعض عندما لايستمسك بالعروة الوثقى.

الفضائل هو الاعتدال: ومن معاني الفضائل هو الاعتدال، والفضيلة هي الاعتدال بنفسه، فهناك جانبان ووسط، جانب الإفراط وجانب التفريط، والفضائل تكون في الوسط، بين اليمين واليسار، فعلى سبيل المثال الشجاعة فضيلة، لأنها معتدلة، ولكن التهور والجبن من الرذائل لأنه إفراط وتفريط، وكذلك الكرم في مقابل البخل والتبذير.

والذي يكون متطرفا في حياته، متشددا متزمتا، فهو لا يمتلك الفضائل يخرج من عالم الفضائل وإن كان ظاهره متشدد دينيا، فعن الإمام علي (عليه السلام): (غاية الفضائل العقل)، وأيضا: (لا دين لمن لا عقل له). وكذلك: (فالمتقون فيها هم أهل الفضائل: منطقهم الصواب، وملبسهم الاقتصاد).

القلب المعنوي وعاء العقل: فالتعقل يؤدي إلى الفضيلة والفهم، والفضائل تؤدي إلى التعقل والفهم والعلم والوعي، وكذلك التعقل والفهم والعلم والوعي يؤدي إلى فضيلة الإنسان وإلى الدخول في عالم الفضائل، وهناك حديث عن الإمام علي (عليه السلام) رائع جدا لابد أن يكون شعارا لنا في حياتنا: (إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها)، أوعية يعني جمع إناء، أما كلمة أوعاها فتعني أكثرها قدرة على الفهم والإدراك وملء هذا الوعاء بما يستحقه، مثل إناء الماء فأما أن تملأه بالماء الزلال الطيب النقي، أو تملأه بالماء الوسخ أو المالح، كذلك قلب الإنسان، هذا الوعاء المعنوي فارغ، الذي يعتبر وعاء التعقل، فمدركات الإنسان تأتي إلى قلب الإنسان فيمتلأ بها، فأما أن يمتلئ بالأبيض أو بالأسود، فأما أن تملأه بالفضائل، او تهمله فيمتلئ بالرذائل.

الإنسان يخرج في كل يوم من بيته صباحا إلى أن يعود إليه عصرا أو مساءً، وهو في كل حركة سوف يملأ قلبه بشيء ما، جيدا كان أو سيّئا.

وعن الإمام علي (عليه السلام): (لَقَدْ عُلِّقَ بِنِيَاطِ هَذَا الْإِنْسَانِ بَضْعَةٌ هِيَ أَعْجَبُ مَا فِيهِ وَذَلِكَ الْقَلْبُ، وَذَلِكَ أَنَّ لَهُ مَوَادَّ مِنَ الْحِكْمَةِ وَأَضْدَاداً مِنْ خِلَافِهَا... )، نياط القلب تشبه الحبال وهذا تشبيه رائع، حيث يذكر (عليه السلام) عجائب القلب من الجانب المادي، معبرا به عن الجانب المعنوي. وكيف يكون الإنسان معلقا بنياط القلب، حتى يُقال لقد قطَّعت نياط قلبي، أي كيف ينفلت القلب من داخل الإنسان عندما تُقطع هذه الحبال أو النياط الرخوة ويُصاب قلب الإنسان، كذلك من الجانب المعنوي يكون قلب الإنسان متعلقا بالأشياء.

فما هي هذه الأشياء، (وذلك أن له مواد من الحكمة)، وقد سبق أن ذكرت الحكمة واللجام الذي يكبح الاهواء، فهناك أشياء مضادة (وأضدادا من خلافه)، فهذه المتضادات تتصارع فيما بينها، كالصراع بين البخل والكرم، والصراع بين الاعتدال والتطرف، وبين العفة والفجور، فهنالك تصارع يحدث في قلب الإنسان بحسب الأشياء التي يملأ بها قلبه، وهذه الأشياء هي التي تشكل طريقة حياة الإنسان، وتشكل شخصيته ونفسه.

فالإنسان الذي نراه في حالة عصبية وغاضب، فإنه قد ملأ قلبه بالغضب، لذلك ينفجر دائما، وتكون عنده كراهية، أما الإنسان الذي يتحكم هو بنفسه ويروضها، ويضع في قلبه الأشياء الجيدة نجده متصالحا مع نفسه، على سبيل المثال كأنك اليوم تتصفح مواقع التواصل الاجتماعي فرأيت شيئا أو موضوعا معينا، تأثرت به، فتشعر نفسك بالانقباض، فهذا الشيء دخل في قلبك وأصبح راسخا فيه.

مثلا إذا كنت في جلسة معينة وتم فيها غيبة شخص معين - لا سمح الله- أو تهمة او بهتان او تسقيط، نلاحظ أن نفس الإنسان تنقبض وإن كان لا يشعر بذلك، فهذا الشيء السلبي دخل في قلب الإنسان، في المقابل الشيء الإيجابي يجعل القلب منشرحا، لذلك لابد على الإنسان أن يختار الأشياء الجيدة، كما يختار الطعام مثلا، فماذا يأكل؟، فهل يأكل طعاما جيدا يدعم صحته أم يأكل طعاما يسيء لصحته، هنا تتبيّن درجة وعي الإنسان (فخيرها أوعاها). حيث يظهر تأثير العلم والفهم عند الإنسان، فيختار الأشياء الجيدة في حياته.

أزمة اختلال التحليل النفسي: علم النفس يعيش أزمة، وهذه الأزمة افتعلها فرويد، حيث حاول عبر التحليل النفسي نبش الشرور من أعماق الإنسان. لكن ذلك تسبب في تصاعد شرور الحضارة المعاصرة عبر اظهار الإنسان كائنا شريرّا وسيّئا، وأدى ذلك إلى تدمير العالم معنويا، وانتشر المنطق الحيواني، والمنطق الوحشي، والعدمية الوجودية، التي ذهبت الى تدمير الثوابت وهلامية الاخلاق والمبادئ.

لكن علم النفس الجديد عندما رصدوا هذا الاختلال الكبير في العالم، ذهبوا وراء البحث عن خير الإنسان، واستخراج الخير من هذا الكائن، وأن نكون متفائلين في أن الإنسان عنده خير وعطاء وتضحية وإيثار ومحبة ورحمة.

الحاضنات المؤسسية: والفضائل هو منهج أهل البيت (عليهم السلام) الذي يجب ان نجعله منهجا تربويا في مدارسنا، ومؤسساتنا التعليمية، ونحول ذلك إلى برامج فكرية، أو برمجيات ذهنية تبرمج سلوك الانسان نحو النضج المعنوي.

والآية القرآنية: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) الشمس 10. وكلمة (فألهمها) تعني البرمجة الذاتية الفكرية التي يحولها إلى سلوك، ومن ثم إلى ملًكة نفسانية راسخة في نفس الإنسان.

كذلك التركيز على القضايا التربوية حول الفضائل، وليس على التطوير المادي، لأن التطوير المادي يكون فاشلا إذا لم تكن هناك تنمية في جانب الفضائل.

ومن المهم أن تشجع وسائل الإعلام على تطوير هذه القيم، فتكون لدينا حاضنات جيدة إعلامية، قادرة على إيصال فضائل أهل البيت (عليهم السلام)، إلى كل العالم، من اجل إيجاد منهج حقيقي للتقدم في حياة مجتمعاتنا والحضارة البشرية.

الفارق الكبير بين قيم التقدم والتخلف

الكاتب باسم الزيدي، باحث في مركز الإمام الشيرازي للبحوث والدراسات:

نحن نتفق على أن حديثنا هو من الجانب المعنوي وليس المادي، فإذا فهمنا قيم التقدم وقيم التخلف، فإن قم التخلف بصورة عامة هي عدم قدرة الإنسان أو الأمة على التطور، وبالتالي يؤدي هذا إلى تراجعها أو جمودها وانكسارها.

على العكس من قيم التقدم، ولو طبقنا هذا الأمر على منهاج أهل البيت (ع)، نجد أنهم طبقوا هذه المفاهيم بأبهى صورها، والدليل على ذلك إن أهل البيت يجمعهم هدف مشترك، لكن الأجواء كانت تختلف، فكل إمام له دور مختلف، لكن الجامع الواحد بينهم هو ترسيخ الفضائل قيم التقدم.

لذلك فإن كل إمام معصوم أدى دوره بطريقة تختلف عن الإمام الآخر، وأهم عنصر يعزز قيم التقدم، مواجهة المصدات التي تعيق هذا التقدم وفي مقدمة هذه المصدات هو الاستبداد الذي يمنع الحريات والتقدم وكثير من أمور التقدم، فمواجهة الاستبداد هو الهدف الرئيسي لقيم التقدم، وبعد مواجهة الاستبداد يمكن التحول إلى الإحياء، (من أحياها فكأنما أحيى الناس جميعا) سورة المائدة. الآية 32. طبعا إحياء القيم في الأمة يشمل الفرد والمجتمع، والأمة أيضا تُطلَق على الفرد وعلى المجتمع.

في تصوري بالنسبة للحاضنات هي موجودة أصلا، ولكن قد تكون مهمشة أو أن دورها ضعيف، وغير فعال، لكنها موجودة كالمؤسسات الدينية والإعلامية والثقافية وغيرها، لكنها مهمّشة.

العالم يعيش حالة من التهور الانفعالي

الكاتب حيدر الأجودي، باحث في مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية:

إن رسالة أهل البيت (ع) للبشرية عموما ما هي إلا خارطة طريق من أجل التطور والتقدم البشري بصورة عامة، وخصوصا فيما يتعلق بقضية النضج الفكري، لأن أغلب البشرية اليوم تعيش حالة من التهور الانفعالي، وحالة من التوحش والعنف، بعيدا عن الأساليب السلمية وقيم السلم.

فالعالم يعيش حالة من البهيمية، وهذا هو خلاف لسلوك أهل البيت (ع) الذي بدأه الرسول (ص) ثم أكمل الدور أئمة أهل البيت.

من الأمور التي أكد عليها أهل البيت (ع)، من خلال رسالاتهم على تعدد أدوار الأئمة، هي قضية احترام الإنسان لنظيره الإنسان، بغض النظر عن دينه وعرقه وقوميَّته ولغته، واحترام الإنسان مندرج على مراحل، وأول مرحلة من مراحل احترام الإنسان هي مسألة احترام الإنسان لنفسه وذاته، ومن بعدها احترامه لأسرته وأصدقائه وبيئته ومجتمعه، حتى تصبح لديه ملكة احترام الإنسان لأخيه الإنسان بغض النظر عن كل الانتماءات البشرية.

فلا يصح أن لا يحترم الآخر بسبب جنسه أو أنه يحمل فكرا معينا، وبهذه الخاصية الحميدة الأخرى استطاع أهل البيت (ع) الدخول إلى قلوب أغلب الناس، واستطاعوا أن يحولوهم من مجتمع متوحش قبل البعثة النبوية، إلى مجتمع أو إلى أمه تسود فيها قيم المحبة والتسامح واحترام الآخرين، وحرية الرأي.

وإلا كيف كان المجتمع الذي يتبع وأد البنات، ويرتكبون الفواحش، لكنهم خلال فترة قصيرة تم تغيير هذا المجتمع، ولابد أنه كانت هناك تأثيرات عملية، وهذا هو مقصد كلامنا حول اتباع منهج أهل البيت أن نقوم بذلك في تطبيقات عملية في تطبيق رسالة أهل البيت، ولا نكتفي بالتنظير فقط، والآية التي وردت سابقا (كنتم خير أمة أخرجت للناس) هي مشروطة بشرطين، ما أن تحقق هذان الشرطان نكون خير أمة، وما لم يتحقق هذا الشرطان فالنتيجة سوف تكون معاكسة، وهو العمل وفق مبدأ (العمل بالمعروف والنهي عن المنكر).

إذًا العمل هو الأساس قبل أن يكون تنظير لساني فقط، بل لابد من تطبيق المنهاج إلى عمل لكي نستطيع أن نواكب منهج أهل البيت (ع) في التطور والتقدم نحو المسيرة المجتمعية التي خطّتها لنا مبادئ وأفكار أئمة أهل البيت (ع).

القرآن كتاب تقدّمي

الأستاذ محمد علي جواد تقي، الكاتب في شبكة النبأ المعلوماتية:

إن ما لفت نظري بخصوص عنوان هذه الورقة الذي يبحث في الفضائل، وعن التقدم، فالفضائل مفهوم معنوي واضح، والتقدم هو قضية مادية إلى حد ما، لهذا فإن مناقشة هذا الموضوع مميز يُشكَر عليه الباحث، اليوم لابد أننا جميعا نلاحظ بأن الفضائل شيء مهمش إلى حد ما في حياة المجتمع، وفي واقعنا، فأي شخص نتكلم معه عن التقدم وكيف يمكن للإنسان أن يتقدم، فيكون الجواب إن التقدم يحصل بالمال، أو بالعلم ووسائل التكنولوجيا، أما حين تتحدث معه عن الصدق والأمانة، فسوف يقول لك هذه الأمور لا تجدي نفعا.

فالهدف هو المال، والعلم، والحصول على شهادة دراسية عليا، مع الاعتزاز بالمراتب الأكاديمية، فمجتمع اليوم لم يتوصل بعد إلى هذه الحقيقة، وهي الدمج بين الاثنين التقدم والفضائل، فلا يمكن أن يحدث التقدم من دون وجود الفضائل، ومنها الصدق والأمانة مثلا.

إن الغربيين يتعاملون مع قضية الصدق والكذب مهمة، مع أننا نعيب على الحضارة الغربية بعض الأمور والسلبيات، لكن بعض الأمور لديهم مقدسة، فالغربيون مثلا أكثر شيء يعيبونه على المهاجرين قضية الكذب، فيرفضون أي كذب مهما كان، أما حين نأتي إلى واقعنا نحن فالأمر مختلف، لذلك علينا أن نعطي لهذا الموضوع أهمية وفاعلية كبيرة، من خلال عملنا وكتاباتنا.

الإجابة عن السؤال الأول أرى إن المسألة الأولى من خلال احتكاكي بالواقع المعرفة، فنحن نتكلم عن فضائل أهل البيت، وقد جسدوا كل الفضائل في حياتهم ولو قُدِّر وجودهم في الحكم وإدارة الحياة لتبيّن للعالم كيف يتقدم الإنسان، وكيف تتقدم الحضارة والإنسانية، لكن الأنظمة السياسية أجبرتهم على التهميش والابتعاد وحدث ما حدث وما نراه اليوم ونعيشه.

فالمعرفة مطلوبة للناس بشكل عام، وعلينا أن نركز إلى من نوجّه كلامنا؟، ومن يسمع كلامي الذي أقوله الآن؟، إن الإمام علي والسيدة الزهراء (عليهما السلام) والأولياء الصالحين، حين كانوا يطبقون الفضائل في واقعهم كالصدق والأمانة، هل كانت تؤدي إلى التقدم، لكن الناس يقولون إن هذه القيم شيء أخلاقي، ويقولون إن التقدم أتى به الغربيون من خلال الثورة الصناعية، في حين أن العكس هو الصحيح، لأن النجاة في الصدق، والأمانة وكثير من الفضائل، إضافة إلى الأمور التي تتعلق بالمواجهة، فليس من الضروري أي يكون الإنسان شجاعا دائما في الحرب، ولكن يجب أن يتحلى بقيم الأمانة والصدق والتواضع.

التواضع بالنسبة للإنسان مهم جدا، وكثير من القيم الأخرى كالتسامح، فهذه القيم هي التي تعد من أهم سبل التقدم التي ترفع الشعوب عاليا، لكن للأسف نحن نفتقد لهذه المعرفة، أو الناس ونحن معهم، في حالة انقطاع عن هذه الصلة المعرفية الثقافية بين المجتمع الذي يجب أن يتوصل إلى أن الفضائل هي الطريق إلى التقدم فعلا للناس الذين تكون لديهم معرفة بسيرة أهل البيت وكيف كانوا يعيشون، أو كيف يتكلمون.

الناس يعرفون أهل البيت معرفة عاطفية، كما نلاحظ ذلك مثلا بين الناس والزيارة الشعبانية، فالمجتمع في مكان والإمام الحجة (عجل الله فرجه) في مكان آخر، لذلك تبقى مجرد طقوس ظاهرية، من دون وجود معرفة، ولا قرب للناس للأئمة ولفضائلهم ولثقافتهم الدينية والتقدمية، أحد المفكرين يقول إن (القرآن كتاب تقدمي) وهذه الجملة لم أقرأها في أي كتاب آخر.

كيف نصل إلى الفضائل وما هي الوسائل والآليات لتحقيق ذلك؟

إن المطلوب من الإنسان أن يجمع بين التعلّم والالتزام، فحين يتعلّم يجب أن يلتزم بما تعلمه، ويجب أن يجسد هذه الفضائل في حياته، سواء كان إنسانا عاديا أو متعلّما، أو جامعي، وإلا فإن تعلّم الفضائل بشكل مجرد من الالتزام بها، مثلا يطالع الكتب ويقرأ كتاب (نهج البلاغة) ويستمتع بالخطب الجميلة، ولكن هل انعكست هذه الحكم والمضامين والفضائل على حياتنا وهل طبقناها؟.

الإجابة عن السؤال الثاني وما يتعلق بالحاضنات، كالمؤسسات أو الكيانات، فبرأيي القاصر أن الحاضنات موجودة كالمراكز الدينية والحوزات العلمية أو غيرها، لكن المجتمع اليوم مع إجلالنا وتقديرنا للمؤسسة التي نجلس فيها، فهو لا ينظر إلى مؤسسة النبأ مثلا كقدوة، أو إلى الخطباء والمراجع أو الناس المثقفين ووجهاء المجتمع، لذلك يجب التأكيد على مسألة القدوة وأهميتها.

وأن يكون وجهاء المجتمع أن يقدموا تجسيدا عمليا للفضائل أمام المجتمع، كما هي الفضائل التقدمية عند أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، فإذا ما تجسدت هذه القيم عند الإنسان المتعلم حيث يفترض به أن يكون ملما بالثقافة عليه أن يطبق ذلك، وإلا كيف يتعلّم الناس؟ لابد أن يكون هناك نموذج حي يجسد هذه الفضائل أمام الناس، في كل القضايا التي ذكرناها كالأمانة والصدق، وأخص بالذكر التواضع لأنه يصنع الصلة بالناس.

إن أكثر القصص والحكايات التي كنا نقرأها عن حياة أهل البيت (ع)، نجد فيها التواضع منذ عهد الرسول (ص) إلى الإمام الحجة (ع)، وتطبيق قيمة التواضع في العلاقات الاجتماعية، ونتمنى أن يسود ذلك في مجتمعنا، وندعو لذلك أي تكون لدينا هذه الفرصة والإمكانية لتجسيد هذه الفضائل في المجتمع، ونحقق مراكز جيدة على طريق التقدم إن شاء الله.

ملاحظات ختامية

وقبل الختام أجاب الباحث محمد الصافي كاتب الورقة في الحلقة النقاشية، على الاسئلة الموجّه له من قبل الحاضرين:

كما ذكرنا بأن المعرفة تبدأ من ضبط الإنسان لنفسه، والسيطرة على محيطه، لكنني لا أعتقد أن هناك مؤسسة حاضنة اليوم وبشكل تام لقضية الفضائل والرذائل.

وقد ذكر الأستاذ عدنان الصالحي وسماحة الشيخ مرتضى معاش، على قضية أهمية إعداد منهج تربوي يؤخذ من سيرة أهل البيت (عليهم السلام) ومن منظومة الفضائل التي جسدوها في سيرتهم وطبقوها في حياتهم وعلاقاتهم في المجتمع مع كل المكونات بمختلف انتماءاتها، هذا المنهج التربوي القاسم على سيرة أهل البيت (عليه السلام) من المهم إعداده وتطبيقه في المناهج الدراسية بغض النظر عن طبيعة المكون الاجتماعي واعتقاده الديني لأن رؤية أهل البيت لهذه الفضائل تنطلق من نظرتهم الإنسانية لجميع البشر.

* مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–Ⓒ2023
http://shrsc.com

اضف تعليق