q

كما أن اسم المجدد الراحل السيد ميزرا محمد حسن الشيرازي – قدس سره- يحتل مكانة لامعة في سجل الثورات الايرانية، فانه يُحظى في الوقت نفسه باحترام وتقدير خاصّين من لدن علماء الدين والباحثين والمثقفين في ايران، ويعدونه من مفاخر التاريخ الايراني. فقد أحصيت من موقع "وكالة أنباء الكتاب الايراني – abna" وجود (37) كتاباً حول يُسمى في الأدبيات الثقافية الايرانية بـ "انتفاضة التبغ"، وقد تناولت بالبحث والدراسة، خلفيات الحدث من الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، كما اختصت بعض العناوين بدراسة شخصية المجدد الشيرازي الذي يُسمى بـ "ميرزا شيرازي"، ربما هنالك عناوين أكثر في المكتبة الثورية الايرانية.

من خلال قراءة متأنية لمسألة القيادة، نجد أن "انتفاضة التبغ" لم تنجح وتحقق ذلك المكسب التاريخي العظيم لإيران وللأمة بأسرها، لولا تضافر جهود علماء الدين في عديد المدن الايرانية، وتكاملها مع جهود علماء الدين في سامراء وتحديداً المرجع الاعلى في زمانه، المجدد الشيرازي.

ولمن يقرأ عن هذه الانتفاضة المدوية، يخال له أنها عبارة عن معاهدة استثمار خيانية من قبل شاه ايران (القاجاري)، وفتوى تحريم استخدام التبغ، ثم تراجع الشاه عن الاتفاقية وإلغائها... فهذه هي الصورة العامة للقضية، بيد أن الحقائق التاريخية تؤكد وجود جهد علمائي متكامل هو الذي قاد الانتفاضة الى النصر.

فالمعروف عن ايران في العهد القاجاري، وفي القرن التاسع تحديداً، كانت تعيش بين كماشتي الدولة الروسية ذات الاطماع التوسعية، وبين الاستعمار البريطاني، صاحب الجولات والصولات في العالم آنذاك، وعندما كانت الايادي الخفية وأذرع القوى الكبرى تتصارع وتتسابق لالتهام أكبر قطعة ممكنة من ايران، كان الشعور بالضعة والهوان، هو سيد الموقف في الدولة الايرانية، فكان البلاط يشعر دوماً بالتهديد من تلكم الأيادي، وما تحمله من عوامل ضغط اقتصادي متمثلة بالشركات والمؤسسات المختصة ببناء الطرق والجسور والمستشفيات وغيرها. فكانت شركة "ريجي" برئاسة الجنرال البريطاني "جيرالد تالبوت"، من جملة الشركات البريطانية المتلهفة لقضم حصة من هذه الكعكة، من خلال الحصول على امتياز زراعة وانتاج وتصدير التبغ الايراني.

من أول افرازات الاتفاقية التي أبرمها "ناصر الدين شاه" مع هذه الشركة، إلحاق الضرر البالغ بالمزارعين وايضاً تجار التبغ في الاسواق الايرانية، حيث سيفقدون السيطرة على هذه السلعة ويتحول المواطن الايراني الى وسيلة كسب تجاري للبريطانيين، وهذا ما أثار استنكار وغضب الشارع الايراني، وكانت الشرارة الاولى من مدينة تبريز شمال ايران، ثم انتشر لهيب الانتفاضة الى سائر المدن الايرانية. وكان المساند الأول لهذه الانتفاضة من لحظاتها الاولى ، علماء الدين والخطباء الذين تصدّوا بقوة للخطوة التي اتخذها الشاه وطالبوه فوراً بالتراجع عن الاتفاقية.

ومن أبرز وجوه المناضلين من علماء الدين، السيد علي أكبر فال اسيري، وكان من خطيب الجمعة في مدينة شيراز، وكان الى جانب الميرزا محمد حسن الاشتياني أبرز علماء الدين في طهران، في طليعة المعارضين للاتفاقية، وحسب المصادر فان السيد فال اسيري، طلب من السيد جمال الدين الافغاني – وكان منفياً في منطقة نائية- إرسال رسالة الى المجدد الشيرازي يعلمه بأمر الاتفاقية فكان الجواب سريعاً من المرجع الأعلى، حيث أبرق رسالة عاجلة الى الشاه، يطلب منه التراجع عنها، بيد أن ناصر الدين شاه، المشحون كبرياء وخيلاء في بادئ الامر، كان من السهل عليه تجاهل الرسالة، لاسيما وانه كان يتصور أن وجود المجدد الشيرازي في سامراء، يُعد ضماناً من عدم وجود أي خطر من جانب الحوزة العلمية يهدد عرشه.

تجاهل الشاه وغطرسته وإعلانه للملأ، أن إلغاء الاتفاقية أمراً مستحيلاً، ولن يتراجع عنها، لم يكن بأي حال من الاحوال سبباً لسكوت وصمت علماء الدين والخطباء في كل أنحاء ايران، فقد كان التحرك العلمائي يواكب الغضب الجماهيري، فقد كان الخطباء في اصفهان وشيراز وطهران وغيرها يبينون للناس الآثار الكارثية لهذه الاتفاقية على كرامة المواطن الايراني. وابرز ما يُروى عن ملاحم النضال والجهاد العلمائي، الخطبة الصاعقة التي ألقاها السيد فال اسيري في شيراز، عندما اعتلى المنبر وأخذ بفضح الاتفاقية ومخاطرها، وقبل ان ينزل من المنبر أشهر سيفاً كان مخبئاً تحت عباءته وهتف في الناس قائلاً: "أيها الناس...! اليوم هو يوم النفير العام. ايها الناس... احذروا ان لا تلبسوا رداء النساء. لدي سيف وقطرتي دم، على استعداد بالتصدي لأي اجنبي يدخل شيراز لتنفيذ اتفاقية احتكار التبغ، وابقر بطنه بهذا السيف...."!!

من مثل هذا الموقف كانت تعجّ بها ايران آنذاك، وفي الوقت نفسه كانت المواكبة والمتابعة من سامراء للغليان الجماهيري في ايران. وتؤكد المصادر التاريخية أن فتوى التحريم جاءت بعد فترة النضوج الثوري على يد علماء الدين والخطباء هناك، ولم تكن مجرد أمر ملزم يصدر من جهة عليا في القمة لينفذه الناس وحسب. وليس أدلّ على ذلك الاستقبال الحافل والفرحة العارمة في الشارع الايراني عند إصدار الفتوى من المجدد الشيرازي بحرمة استخدام التبغ الايراني. فبالرغم من محاولات السلطة إخفاء الامر على الناس، نظراً على انعدام وسائل الاعلام آنذاك، إلا حجم التفاعل كان يمثل بالحقيقة وسيلة إعلام فائقة السرعة، حيث تفيد المصادر أنه في اليوم الاول لوصول الفتوى بيد الميرزا الاشتياني في طهران، حتى تمت تكثيرها (100) ألف نسخة، وكانت الوسيلة هي القلم والورق. وينقل أن الفتوى انتشرت كالنار في الهشيم، حتى إن اشخاصاً من الأميين، ولا يحسنون القراءة والكتابة، وجدوا ان الواجب عليهم توزيع هذه الفتوى بين الناس، او الصاقها على الجدران.

هذا المآل المخزي والخطير جعل الشاه على حافة الهاوية، فتشبث بكل "قشّة" منها محاولته استمالة الميرزا محمد حسن الاشتياني أحد ابرز علماء الدين في طهران، لإصدار فتوى خاصة تجيز استخدام التبغ، فكان الجواب القاطع سريعاً بالنفي من هذا العالم وسائر علماء الدين، وعلى لسان علماء الدين كافة، أن الشخص الوحيد القادر على تغيير الفتوى، هو نفس المرجع الأعلى المجدد الشيرازي المقيم في مدينة سامراء.

وهكذا حقق الشعب الايراني، مكسباً تاريخياً عظيماً أثبت للعالم وللبريطانيين تحديداً، أنهم أناس ليس من السهل التجاوز على حقوقهم وكرامتهم، وهذا بفضل الموقف البطولي للعلماء والخطباء، وقبل هذا، بفضل حنكة ودراية المجدد الشيرازي الذي أدار الانتفاضة الجماهيرية بالشكل الذي يحقق للشعب الايراني اكثر المكاسب بأقل الخسائر.

اضف تعليق