q

جدلية العلاقة بين الفكر والعمل، التنظير والتطبيق، تكاد لا تنفصم، فالعمل لا يستغني عن الفكر، كونه التخطيط الهيكلي الذي يرسم مسارات ومقومات وتصاميم المنجز المطلوب، مثلما تكون هناك استحالة استغناء الفكر عن العمل، فما فائدة الفكر عندما يبقى نظريات مجردة، تسبح في فضاء الكلمات لا أكثر؟؟، قيمة العلم تأتي مما ينجزه عمليا، ولكن هناك أدوات لديمومة هذه العلاقة الجدلية بين الطرفين، منها بشرية وأخرى مادية.

تطبيق العلم في المجال الملي يحتاج الى مهارات خاصة، بعيدا عن الجهل بالشيء، فمثلما لا يتساوى العالِم بالجاهل، فإن العامل لا يتساوى بمن يتقاعس عن العمل، الأول العالِم يدرك ويفهم ويتعامل مع شؤون الحياة بوعيه الرصين، أما الجاهل فإنه لا يقطف شيئا من ثمار العلم بسبب جهله، فيبقى رازحا في الحضيض على الدوام إلا اذا نهض بوعيه وطوّر عقله، كذلك الحال يبقى العاطل بذاته، وليس المعطَّل بغيره، فهو كالجاهل في النتيجة، يعيش في حضيض الحياة، والسبب لأنه لا يسعى بصورة جدية لتحقيق ذاته من خلال العمل، وهكذا نلاحظ ان العلم حتى يتحول الى منجز يحتاج الى أناس يتقنون أداء المهمة وتحويل الافكار الى مادي ملموس.

ةقبل الخوض في الفوارق بين العلم والعمل، هل هناك مفهوم محدد للعمل على نحو عام، يقال أن العمل بمفهومه المادي الملموس، يعني سعي الانسان لانتاج شيء ما، يؤكَل أو يُشرَب أو يُرتَدى أو يُسكَن، أو أنه بالنتيجة يساعد على تحقيق الاشياء الأربعة التي سبق ذكرها، وسواها مما يحتاجه الانسان والكائنات الاخرى الأليفة لمواصلة الحياة، أما في حالة تقاعس الفرد عن القيام بدوره هذا، فإنه سيصبح عالة على المجتمع، وعاملا لتأخير التقدم والاستقرار، لأن أعباء عيشه، ستلقى على كاهل إنسان آخر، ومثلما يقوم الآخرون برفد الحياة بالديمومة، على كل انسان أن يقوم بدوره المناسب، وفي حالة تخلي الانسان عن هذا الدور فلابد أن يقوم به شخص غيره، أي يتحمل أعباء وجود الانسان العاطل في الحياة، من هنا جاءت أهمية قيمة العمل، لدرجة أن بعض المفكرين قدّمه على الفكر، ومنحه قدسية الانجاز.

ولكن مثل هذه الطروحات أثارت اعتراضات كثيرة، فالفكر هو المخطط الذي يسبق طبيعة الانجاز، لهذا تبقى جدلية الترابط بين الاثنين قائمة، ولا يصح في أي حال أن يتساوى الانسان المنتِج بغير المنتج، أي ليس من العدالة بشيء أن يتساوى من يعمل وينتج ويساعد على نمو الحياة وتطورها، بمن لا يؤدي دوره في هذا المجال، هناك بون شاسع بين الاثنين، فالعامل نقيض العاطل، والمفكر يختلف عن الجاهل، إنه العقل المخطط والمصمم، بعد ذلك تأتي ارادة العمل والانجاز، كي تحيل الفكر الى مادة تدخل في اطار خدمة الانسان، وتحسين حياته وزيادة درجة الرفاهية التي يحق له الحصول عليها.

متى يحترم الانسان عمله؟

أثبتت التجربة ان احترام الانسان لعمله عامل تفوق له، فهذا الاحترام دليل الرغبة بالعمل، ما يعني تمهيد السبل الصحيحة لتحقيق التفرد والنجاح، ولكي يزداد الانسان تمسكا في قيمة العمل المنتِج والصالح، فقد حثت النواميس والاعراف والافكار البناءة، على ضرورة تمسك الانسان بالعمل واعتباره قيمة مقدسة لا يجوز التفريط بها، والاعتماد على وسائل عيش يغيب عنها العمل الصحيح، ولكي لا يخطئ الانسان في أعماله، بقيت الذات الإلهية تتابع وتراقب عمل الانسان، فيُجزى على العمل الأفضل، أو يعاقب على العمل الخاطئ، أو على تقاعسه عن العمل، لذا يقول الله تعالى في كتابه الكريم (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) -التوبة 105-، فاذا كانت الذات الالهية تراقب عمل الانسان وتقدم له الجزاء عن ذلك، فهذا دليل قاطع على أولوية العمل في صناعة الحياة الأفضل.

حاول العلماء تكريس علاقة متميزة بين الانسان والعمل، وقد مهدوا لذلك من خلال وضع قواعد سهلة التنفيذ، وركزوا على الجانب التجريبي اكثر من النظري، ونادوا بالعمل اليدوي اولا بموازاة الدراسة العلمية، واكدوا على أهمية أن يقترن العلم بالتجربة، فالاجابة عن السؤال الذي يطرحه العنوان، تعني أن يتلازم العلم بالعمل في علاقة لا فكاك منها، فلا العمل يكون مجديا وناجحا بلا علم، ولا الأخير يعطي ثماره المأمولة بلا عمل.

وهذا تحديدا ما دفع العلماء الى التركيز على أهمية زرع حب العلم والعمل في ذات الانسان وهو طفل، فأكدوا على أهمية أن تُغرس قيمة العمل في ذات الانسان منذ أوائل نشوئه وترعرعه، ووجهوا المحيط العائلي الى أن يسعى لغرس حب العمل لدى الاطفال، وأن يفهم الصغير، بأنه لا يتمكن من مواصلة حياة أفضل وأجمل من دون احترامه للعمل والتمسك به، وثمة أمر يكاد أن يعرفه الجميع، فالحياة اليومية الروتينية تكاد تهيمن على عوالم بعض الافراد، فتصبح حياتهم روتينية لا تنطوي على الجديد، أو المحفز على التطوير والتغيير نحو الافضل، هنا يبدو العمل خير وسيلة لتحقيق عدة فوائد في وقت واحد.

وسائل وأفكار لتجديد الحياة

العلاقة الجدلية بين العلم والعمل تدفع الانسان نحو ابتكار أفكار جديد، وتجريب طرق عملية لم يسبق له تجربتها عمليا، هكذا يكون العلم مصباح العمل، والاخير هو الذي يمنح ضوء العلم جدوى وأهمية، لذا يعد العمل من أهم وأفضل وسائل تجديد الحياة، على الصعيدين الفردي والجماعي، بمعنى أن الفرد قادر على تحسين حياته وجعلها تزخر بالجديد الجميل من خلال العمل، ويمكنه ايضا من خلال التقاعس ان يجعلها رتيبة مملة وبائسة في آن، لذا يؤكد أحد الكتاب على أن العمل يقتل أكبر أعداء الانسان الملل والشر والفقر، ولكن سوف يتم ذلك بمساعدة العلم وتأثيره وتخطيطه المسبق.

ومن الأفضل دائما أن يفهم الانسان منذ نعومة أظفاره، وتفتح وعيه، ومعرفته، بأن حياته مرتبطة بعمله الجاد، عبر تحصيل الأفكار المبتكرة وليست التقليدية، من اجل ان تكون النتائج متفردة، وهذا لا يحدث من دون توافق العلم والعمل، فلابد أن يقترن العلم بالعمل كما تم تأكيده سابقا، اما من الذي يسبق في الأهمية، فالحقيقة هذا الامر يتعلق بالنتائج، وفي جميع الاحوال اذا اقترن العلم بالعمل فإن الانجاز سوف يُحسَب للاثنين، والمهم هنا أن لا يبقى الانسان عاطلا عن الفكر والعمل.

من الامور المؤسفة في عالم اليوم وخاصة في مجتمعاتنا أن الانسان قد يكون مرغما البطالة خلافا لرغبته ومؤهلاته العلمية، كما يحدث الآن في العديد من الدول العربية والاسلامية ومنها العراق، حيث تنتشر البطالة بين شريحة الشباب وغيرهم على الرغم من القدرات المالية الهائلة التي تدرها ثروات النفط وسواه، والسبب هنا سوء الادارة للحكومات التي تعاقبت على حكم هذه الشعوب، لذا في هذه الحالة لا يمكن تحميل الفرد العاطل عواقب عجزه عن اداء عمل ما يتناسب مع قدراته ومؤهلاته، ومع ذلك ينبغي أن يسعى الانسان الى ملء فراغه بالعمل أيا كان نوعه شريطة أن لا يشكل تجاوزا على حقوق او كرامة الآخرين.

في الخلاصة لا يمكن الفصل بين الاثنين، العلم والعمل، كما لا يمكن تفضيل أحدهما على الآخر، ولكن من المهم أن يتعلم الانسان حب العمل وهو طفل صغير، على أن يجرب ذلك بنفسه، بالتناسق مع الحرص العلمي، فتعليم الانسان وهو طفل حب ثنائية العلم والعمل خطوة أساسية لتحقيق النجاح المطلوب مع أهمية التمسك بالافكار الجديدة والمبتكرة دائما.

اضف تعليق