q

مـرّ على العراق زمن طويل جداً، يعاني مواطنيه من نظام استبدادي، وحكم مركزي شمولي مقيت، في السياسة والإدارة والاقتصاد وغيرها، تشكلت نتيجة لذلك علاقات اجتماعية سلبية، وأنماطاً سيئة من السلوك والتصرفات لدى الأفراد والجماعات، فضلاً عن اتباع اجراءات إدارية معقدة، التي لازلنا نواجه الكثير منها، لأنها أصبحت ثقافة سائدة في المجتمع. لكننا في هذه المقالة سنعالج جزأ ً من هذه الثقافة، الذي يخص طباع وأخلاق العاملين في جهاز الدولة الإداري المركزي المتخلف الذي يعمل بصفة مكتبية (بيروقراطية)، رتيبة (روتينية)، بعيدة كل البعد عن استعمال الأجهزة العلمية الحديثة، وبعيدة عن العلاقات الإنسانية الإيجابية. يتضح ذلك بشكل أساسي من ناحية التأخير والبطء والمماطلة في إنجاز معاملات المواطنين، وإرهاقهم بكثرة الأوراق والوثائق والتواقيع.

سلوك إداري غريب متناقض

من المعروف أن بنية النظام الإداري المركزي قائمة على سلطات هرمية تصاعدية لرؤساء الوحدات الإدارية، من أقل قوة وصلاحيات إلى أكثر قوة وصلاحيات. ويتشكل هذا النظام من عنصرين أساسيين متكاملين هما:

1. حق الرئيس الإداري المباشر، استعمال سلطة أو قوة للأمر والنهي.

2. واجب المرؤوس الطاعة والخضوع والتبعية، وتنفيذ الأوامر الصادرة إليه من رئيسه المباشر.

لابد من الإشارة، هنا، أن هذا النظام يعني أيضاً خضوع فروع الإدارات المحلية في المحافظات إلى الحكومة المركزية في بغداد، من ناحية. ومن ناحية أخرى خضوع جميع الموظفين لهذا النظام، نظام التدرج الإداري. أي خضوع الموظف الأقل درجة إلى الموظف الأعلى درجة. إن هذا النظام له إيجابيات وسلبيات بالوقت ذاته. لكن في النظام الاستبدادي، أسيء استخدام نظام الادارة المركزية، فأصبحت سلبياته أكثر من ايجابياته، حين ابتعد معيار الكفاءة عند التعينات والترقيات وغيرها وحل محلها العلاقات الحزبية والعائلية ونحوها.

فضلاً عن ذلك، ونتيجة للمركزية الصارمة الشديدة في الإدارة، أصبحت سلطة الرئيس الإداري قوية جداً تجاه مرؤوسيه. هذه السلطة وهذه القوة في التنفيذ قائمة على تطبيق العقوبات الإدارية وغير الإدارية بصورة متطرفة على المخالفين لقرارات الإدارة الأعلى درجة. لكن هذه العقوبات أنشأت حالة من الحذر الدائم، والتردد والترقب خشية الوقوع في خطأ، كما أنتجت ثقافة كانت مزيجاً من الخوف والاستسلام، تحولت مع مرور الوقت إلى ثقافة للخضوع، خضوع أعمى للأعلى.

والحقيقة أن هذا الخوف والرهبة من العقوبات أدى إلى نتائج خطيرة، تعد أحد السيئات الهامة للنظام المركزي، لأنها تشكل الملامح الرئيسية لشخصية الفرد الإداري في هذا النظام، كونه يتصف بشخصية مزدوجة. فهو من ناحية ضعيف، خاضع، مطيع، ذليل لرؤسائه، ينفذ تعليماتهم دون اعتراض، مهما كانت هذه التعليمات صائبة أم خاطئة، جيدة أم سيئة، قانونية أم غير قانونية. لكنه من الناحية الأخرى تراه قوياً شامخاً أمام مرؤوسيه، يعتز ويمجد الأمر والنهي بغير اعتراض أو نقد، فهو يمتلك قوة العقاب والقهر والتخويف، ولا سبيل لهؤلاء سوى الإنصياع والإنقياد.

إذن طبيعة الإداري وتصرفاته تجمع بين شخصيتي العبد والسيد. لكن الغريب في الأمر أن هذا الإداري يجد في الإستعباد أمراً طبيعياً يتقبله دون خجل، والدليل على ذلك لا يدهشه أو يزعجه معاملة رؤسائه له معاملة العبيد، كأن الاستعباد متغلغلاً في نفسه.

ومن ذلك فإن الموقع الإداري في النظام المركزي الشديد، خلق نزعتين عند الإداري: نزعة التسلط، ونزعة الخضوع. عند ذلك ترسخ لدى العاملين في جهاز الدولة المركزي سلوكاً غريباً مزدوجاً متناقضاً، هو خليط من الرغبة في الهيمنة، والرغبة في الخضوع المطلق. بالطبع الهيمنة على الأضعف، والخضوع للأقوى.

الأضعف هنا يشمل فئتين: الأولى، هم الأقل درجة في السلّم الإداري، والثانية هم المواطنين المراجعين البسطاء من أصحاب المعاملات. أما الأقوى، فهو الأعلى درجة في هذا السلّم. لذلك يمكننا أن نطلق على هذه النزعة المزدوجة: غريزة تسلط الخاضعين. وقد رافق هذه الغريزة سلوكيات خاطئة وتصرفات غير سليمة، وصف بعض منها خير وصف، إيريك فروم في كتابه: " الإنسان بين الجوهر والمظهر"، عن المركزية والبيروقراطية في الإدارة بقوله: إن المجتمع يتحول إلى آلة كلية، يمكن أن تدار، إدارة مركزية، عند ذاك يصبح الناس قطيعاً من الغنم، ويفقدون القدرة على التفكير النقدي، ويشعرون بالعجز ويصابون بالسلبية. ويقول أيضاً: والبيروقراطي يخشى المسؤولية الفردية، ويحتمي وراء القواعد واللوائح، وينبع أمنه وكبرياؤه من الولاء للوائح والروتين، لا من الولاء للقلب الإنساني... فهو لم يكن يحب أو يكره أحداً، وإنما كان يقوم بواجبه، لم يكن يهمه إلا تنفيذ التعليمات، ولم يشعر أبداً بالذنب إلا عندما كان لا ينفذها.

يمكننا أن نبين أمثال ذلك الكثير، عند مراجعاتنا للدوائر الرسمية لإنجاز معاملاتنا، نذكر أهمها:

1. إداريين لا يمتلكون الجرأة أو حتى التفكير في الاعتراض أو مناقشة القرارات الإدارية، بخاصة تلك التي ترهق المواطن. ففي هذه الحالة لا نرى وجوداً للابتكار أو الإبداع أو روح المبادرة، وتنعدم الاقتراحات وتوفير البدائل. وبالوقت ذاته يرفض هذا الاداري النقد واقتراحات التغيير والتطوير الذي يبديه المراجعين.

2. الوقوف مع توجهات السلطة المركزية في تطبيق اجراءاتها المعقدة المملة. فضلاً عن التزام، قسم آخر منهم، منطق الصمت والسكوت والقبول بواقع الحال. والأمر المؤسف أن يجد، قسم ثالث، حججاً مختلفة لتبرر خضوعهم الكامل للسلطة المركزية في تلك الإجراءات. فهم بهذه الحالة لا يتذمرون من تعقيد الاجراءات على المواطن، لا بل لا يتعاطفون معه، ولا يكترثون بما يصيبه من أذى نتيجة الروتين والمركزية.

3. بروز ظاهرة الإتكالية والاعتماد المفرط على الإداري الأعلى، فلا يستطيع الاداري في المستوى الأدنى أن يتصرف في أي موقف حتى يأتيه الأمر من الإداري الأعلى. لذا يصعب على الاداري إنجاز مهامه دون الرجوع المتكرر لرؤسائه واستشارتهم. كما نلاحظ أيضاً، انعدام ثقة رئيس الوحدة الادارية، فيمن يليه في التدرج الاداري، لهذا نجد، المواطنين، في أغلب الأحيان، تقف معاملاتهم، إذا كان هذا الرئيس غائباً، فلا أحد يوقع عوضاً عنه.

4. ليس هناك قدرة في تحمّـل المسؤولية في مواجهة المشاكل المحلية والعمل على حلها بصورة سريعة. سبب ذلك وجود إداري ثابط الهمة، يهرب من المسؤولية، لا يحب أن يجهد نفسه، لا يمكن أن ينهض بأي من الالتزامات التي قد تفرض عليه. وأحسن مثال على ذلك هو تهرب أو تلكؤ الإداريين في بعض المحافظات، الآن، من تطبيق عملية نقل الصلاحيات من الحكومة المركزية، حسب قانون 21 لسنة 2008م. هذه الحالة تعبر عن ضعف الثقة بالنفس، والميل إلى مساعدة الآخرين.

5. اتباع الإداري سياسة الترضية اتجاه رؤسائه. فهو يقبل تنفيذ طلباتهم حتى وإن كانت هذه الطلبات مزعجة له،. كما أنه لا يعارضهم لخوفه من أنها قد تفقد مساعدتهم. على هذا الأساس تكون العلاقة بين الأدنى والأعلى في الإدارة، علاقة ترضية، ليست مهنية ولا ترتبط بالكفاءة. النتيجة هي انتشار ثقافة الخنوع لكل المحيطين بمركز القرار، رغبة منهم في الحصول على امتيازات معينة. ومقابل هذه الامتيازات يتخلى هؤلاء المحيطين عن الكثير من حقوقهم في سبيل إرضاء صاحب القرار، بخاصة السكوت والرضا عن الاخطاء والتساهل عن فضح الانحرافات، كما تظهر في هذه الحالة المجاملات والوساطات والمحسوبية والنفاق والرشوة.

6. ليس للإداري الرغبة بتطوير أسلوب العمل، والانتقال للأساليب العلمية الحديثة، مما يجعله نمطي الأداء دون مرونة بطيء التنفيذ، متقيد حرفياً بنظم وقوانين تعيق العمل وتؤخره وتطيل أمد الانتظار من خلال كثرة التوقيعات والهوامش. ولعلي أذكر ما شاهدته في إحدى الدوائر الرسمية استعمالهم لورق "الكاربون" في استنساخ بعض الوثائق.

7. تطبيق مزدوج للتعليمات والاجراءات الادارية. من المؤسف أن الكثير من الإداريين يطبق التعليمات والاجراءات، تطبيقاً كاملاً على الناس البسطاء، لكنه يجتهد في إيجاد منفذ شرعي وقانوني لتيسير معاملات معارفه أو الذين يدفعون له الرشاوي والاكراميات. وهنا تصح مقولة أحد الحكماء: " كل شيء لمعارفي أما الآخرون فلهم القانون".

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق