q

تعد خارطة الشرق الأوسط بشقيها من أكثر البقع الجغرافية نشاطا وحراكا على رقعة الشطرنج العالمية منذ مطلع القرن 21، نظرا لما تشهده من تحولات ومتغيرات سياسية وعسكرية وأمنية واقتصادية استثنائية، جعلتها بحق المحرك العالمي لأغلب الأنشطة والتحولات والمتغيرات الجيوسياسية والجيواستراتيجية العابرة للقارات، حيث تشهد دول هذه الخارطة على سبيل المثال لا الحصر ابرز استفزازات سياسية وعسكرية ساخنة تدفعها المصالح الاستعمارية في الجزء الخاص بدول الأناضول الشرق أوسطي بين الدولة التركية الاردوغانية وروسيا بوتين في كل من سوريا والعراق، كما تشهد جغرافيا شبه الجزيرة العربية والهلال الخصيب حروب وصراعات دامية في كل من اليمن وسوريا والعراق وأفغانستان والصومال، وعدم استقرار سياسي في كل من لبنان ومصر وليبيا، وخليط من الفوضى السياسية والأزمات الاقتصادية والمالية في دول البترودولار الخليجية ودول البحر المتوسط ومنطقة القوقاز، وابرز تدخلات القوى القارية ذات النفوذ في جغرافيا المنطقة واقصد بها تدخل كل من تركيا وإيران.

ما يجعلنا نرسم صورة شبه مؤكدة بان كل تلك الأحداث سالفة الذكر والمتغيرات والتحولات التي تشهدها رقعة الشطرنج الشرق أوسطية هذه الأيام، تشكل المسرح القادم لانطلاق أسباب انهيار النظام العالمي القائم اليوم، ومنطلق أهم حروب وصراعات القرن 21، فليس من السهولة التحليلية او معقولية المنطق توقع تراجع التوترات وانخفاض التصعيد الى درجة الاستقرار والعودة الى النقطة صفر، نظرا لوجود أكثر من بقعة ملتهبة وساخنة في هذه المنطقة ومزاجات وتوجهات وأطراف مختلفة تتداخل مصالحها مع بعضها البعض في أكثر من مكان وزمان، يضاف الى ذلك إذكاء تلك الصراعات والحروب من خلال خطوط تماس خارجية ترسمها أهم القوى العالمية سواء العظمى او القارية او ذات المصالح المزدوجة في منطقة الشرق الأوسط كالولايات المتحدة الاميركية وروسيا او بعض الدول الأوربية كفرنسا وألمانيا وبريطانيا على سبيل المثال لا الحصر.

وبالعودة قليلا الى الوراء، وتحديدا الى شهر مارس من العام 2013م اذكر بأنني كتب دراسة موجزة تحت عنوان:- حصاد الثورات: رقعة الشطرنج العربية وفوضى الفراغ الجيوسياسي، وقد أشرت في حينها الى توقع اتساع دائرة الفوضى السياسية والتدخلات في الشؤون الداخلية لدول الشرق الأوسط وخصوصا الدول العربية التي تأثرت بشكل مباشر بما أطلق عليها حينها ولازال بثورات الربيع العربي من خلال وسائل " القوة الناعمة " كتأثير قوة المال والاستثمارات واستغلال سطوة الإعلام وتأثيره كقوة أثبتت سطوتها في مسار الأحداث، وفيما يطلق عليه بتناقل الثورات وصراع المصالح الإقليمية والطموحات الدولية، وليس ذلك على مستوى الدول الكبرى فقط، بل حتى على مستوى دول اقل مكانة وشان من الناحية الجيوسياسية على خارطة القوى الدولية.

كذلك ومما أشارت إليه وأكدت عليه الدراسة سالفة الذكر هو اتساع ظاهرة تفتيت الدول العربية وتقسيمها،" دينيا – طائفيا - مذهبيا " كما هو الحال في السودان بشكل نهائي، وفي دول أخرى بات أمرها مؤسفا من خلال الصراعات المسلحة والدخول في مرحلة الاقتتال الطائفي نتيجة تقسيمها بين أطياف أيديولوجية سلفية واخوانية وشيعية ومسيحية وقاعدية واشتراكية ووالخ، او غيرها من المسميات كما هو الحال في اليمن ولبنان وسوريا والعراق ومصر على سبيل المثال لا الحصر، كذلك من خلال صعود رائحة المذهبيات والطائفيات المقيتة على حساب وحدة الصف والوطن – انظر في هذا الشأن كذلك مقال " ظاهرة تفتيت الدول ونهاية الجغرافية السياسية " والمنشور بتاريخ 19/10/2010م، -أي– قبل أحداث ما أطلق عليه بثورات الربيع العربي بفترة وجيزة.

وكان من ابرز استنتاجات الدراسة سالفة الذكر والمنشورة لنا في مطلع العام 2013م استمرار التصعيد والفوضى والتجاذبات واستمرار حالة عدم الاستقرار السياسي على رقعة الشطرنج العربية تحديدا، ما يؤهلها للاتساع في المستقبل القريب من خلال وجود ملفات إقليمية ساخنة لم تحسم بشكل نهائي بعد كالملف النووي الإيراني - تم حلحلة جزء كبير منه مع نهاية العام 2015م - وملف الصراع في سوريا والعراق واليمن والقضية العربية الفلسطينية - لم تحسم حتى نهاية العام 2015م-، واستمرار ظاهرة الصراع السياسي الداخلي والانقسام الاجتماعي والثقافي في بعض الدول العربية القيادية والمؤثرة في وحدة الصف العربي، واتساع دائرة الخلافات بين بعض الدول العربية وشقيقاتها حول طبيعة الحكم ونوعه، وهو ما يجعلنا غير متفائلين بتقارب عربي في المستقبل، ونقصد به التوحد تحت بناء عربي قومي مشترك، بل ان كل الخوف من تعمق الخلافات العربية/العربية كما سبق واشرنا نتيجة اختلاف المصالح والطموحات ووجهات النظر والتدخلات الخارجية تجاه العديد من الملفات والقضايا الإقليمية القائمة منها والقادمة.

ما يجعلني استرجع في هذا السياق التحليلي المؤسف للوضع الشرق أوسطي بشكل عام والعربي على وجه الخصوص منذ العام 2011م وحتى نهاية العام 2015م مقال آخر كتبته تحت عنوان:- نظرية الفوضى الخلاقة وتدمير الاستقرار في العالم العربي، حيث يمكن ان تجمع كل تلك الأوراق والنظريات والأفكار والتوجهات والأحداث الجيوسياسية والجيواستراتيجية المأساوية سالفة الذكر والتي تحدث اليوم على رقعة الشطرنج الشرق أوسطية بوجه عام والعربية بوجه خاص في قالب هذه النظرية التي هي اقرب للمتهم الأبرز والأكبر لما يحدث على تلك الخارطة الجيوسياسية الشرق أوسطية، وسواء كان ذلك انطلاقا من وجهة نظر تآمرية او كانت من محض الصدف ومجريات الأحداث ونتائج التحولات، ففي نهاية المطاف اعتقد شخصيا ان خارطة الشرق الأوسط ومن خلالها رقعة الشطرنج العالمية قد اقتيدت تدريجيا للدخول الى سياق نظرية الفوضى الخلاقة -الهدامة في حقيقتها وتطبيقها- بطريقة ما، وهو ما يرفع من سقف التوقعات سالفة الذكر، أي، انهيار النظام العالمي القائم اليوم، ومنطلق أهم حروب وصراعات القرن 21 خلال السنوات القليلة القادمة، إلا ان ذلك لن يكون بحسب ما خطط أصحاب ومهندسي هذه النظرية، وذلك نتيجة العديد من المعطيات والعوامل التي ستتضح لاحقا، وعلى رأسها انفلات عقال هذه النظرية، وخروجها عن السيطرة.

وتعد نظرية الفوضى الخلاقة من ابرز النظريات التي لعبت دور كبير في تغيير طبيعة السياسة والعلاقات الدولية وأنظمة الحكم المعاصرة في القرنين الـ 20 و21، وهي (حالة جيوسياسية تعمل على إيجاد نظام سياسي جديد وفعال – على حد تعبير أصحابها - بعد تدمير النظام السياسي القائم أو تحييده)، وبمعنى آخر- إخضاع النظام القائم لحالة من الفوضى والتدمير المنظم من خلال اختراق ما يطلق عليه بفجوة الاستقرار في ذلك النظام بقصد هدمه بشكل كامل وإعادة تشكيله وبناءه من جديد، وتعرف كذلك نظرية الفوضى الخلاقة بأنها التغيرات التي تحــدث على التوازنات المســــتقرة في أي نظام، فهـي نظرية تقول بان تغييرات ضئيلة جدا قد تتسبب بانهيار التوازنات المستقرة جدا.

وقد طور نظرية الفوضى الخلاقة أحد أهم المحاضرين في وزارة الدفاع الأمريكية وهو البروفيسور توماس بارنيت، الذي قسّم العالم إلى من هم في القلب أو المركز -أمريكا وحلفائها- وصنف دول العالم الأخرى تحت مسمى دول- الفجوة أو الثقب- حيث شبهها بثقب الأوزون الذي لم يكن ظاهرًا قبل أحداث 11 سبتمبر من العام 2001م، ويذهب بارنيت إلى أن دول الثقب هذه هي الدول المصابة بالحكم الاستبدادي، والأمراض والفقر المنتشر، والقتل الجماعي والروتيني، والنزاعات المزمنة، وهذه الدول تصبح بمثابة مزارع لتفريخ الجيل القادم من الإرهابيين – تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة " داعش" على سبيل المثال، وبالتالي فإن على دول القلب ردع أسوأ صادرات دول الثقب، والعمل على انكماش الثقب من داخل الثقب ذاته، ويعتقد أصحاب وأنصار نظرية الفوضى الخلاقة بأن خلق حالة من الفوضى وعدم الاستقرار في نظام ما سوف يؤدي حتماً إلى بناء نظام سياسي جديد، أفضل بكثير من النظام القائم، يوفر الأمن والازدهار والحرية وهو ما يشبه العلاج بالصدمة الكهربائية لعودة الحياة من جديد.

خلاصة هذا الطرح وما نود الوصول إليه من خلال هذا التحليل والقراءة السابقة للأوضاع والتحولات التي حدثت ولا زالت مستمرة الحدوث، ونؤكد على استمراريتها الكارثية على المدى القصير خصوصا حتى نهاية العقد الثاني من القرن 21 على رقعة الشطرنج الشرق أوسطية بناء على نظرية الفوضى والنتائج التي أحدثتها ولا زالت، ان نظرية الفوضى الخلاقة تلك كما أريد وخطط لها من قبل منظروها وعلى رأسهم مطورها الحديث البروفيسور توماس بارنيت قد نجحت في جانب واحد فقط، وهو إحداث فوضى عارمة وانهيار وتدمير شبه كامل في النظام الجيوسياسي القائم في الشرق الأوسط، او كما أطلق عليهم بدول الثقب، وهي الدول المصابة بالحكم الاستبدادي، والأمراض والفقر المنتشر، والقتل الجماعي والروتيني، والنزاعات المزمنة، والمزارع التي تقوم بتفريخ الجيل القادم من الإرهابيين من وجهة نظر بارنيت.

ولكنها وفي الجانب الأهم منها وهو إيجاد نظام سياسي جديد وفعال – على حد تعبير أصحابها، أفضل بكثير من النظام القائم، ما سيوفر الأمن والازدهار والحرية لهذه المنطقة والعالم من بعدها، قد فشل فشلا تاما حتى اللحظة الراهنة، بل وانعكس سلبا على كل من الولايات المتحدة الاميركية وحلفاءها، وهو ما أكدته منذ العام 2011م الكثير من الأحداث المأساوية والفوضوية الإرهابية والتي نعتبرها ارتداد واضح وردة فعل طبيعية لنظرية الفوضى الخلاقة، ومن أبرزها أحداث الحادي عشر من سبتمبر والأحداث الأخيرة في كل من بريطانيا وفرنسا وروسيا، والقادم من وجهة نظري الشخصية سيكون أسوا بكثير، سواء على رقعة الشطرنج الشرق أوسطية، او على بقية دول العالم وخصوصا دول أوربا والولايات المتحدة الاميريكية وروسيا، لان تلك الدول هي من بعث حرارة الحياة في عش الدبابير او في المزارع التي تقوم بتفريخ الجيل القادم من الإرهابيين كما أطلقوا عليهم، ما جعل نظرية الفوضى أشبه بالآلة التي انقلبت على مهندسها وصانعها وهو ما سيتضح خلال المرحلة الزمنية القائمة والقادمة على المدى المتوسط على اقل تقدير 2016-2020م، وباختصار – نؤكد من جهة على فشل نظرية الفوضى الخلاقة في تحقيق جل أهدافها الاستراتيجية في الشرق الأوسط، وولادة ما نطلق عليه بالارتداد الجيوسياسي لها من خلال ولادة ما نطلق عليه بالفوضى المضادة والتي سنتناولها بشكل منفصل ومفصل في مقال قادم بإذن الله.

* باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق