q
ملفات - عاشوراء

الحسين (ع).. قْامَةٌ وَقيمَةٌ

إنّ أعظمِ الجَرائمِ الّتي نرتكِبَها بحقّ قصّة عاشوراء، بعدَ جريمَةِ النّظام الاموي الذي ارتكَبَ تِلكَ المجزرةِ الفظيعة بحقّ أَهْلِ بيتِ النبوّة والرّسالة وبحقِّ رسول الله (ص) الذين قال عنهم ربُّ الْعِزَّة {ذَٰلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} وقوله تعالى {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} هي ان نّتعاملَ مع الحسين (ع) بطائفيةّ او عشائريّة وقبليّةٍ، وكأنّه نهضَ لصالحِ جماعةٍ دون اخرى! او قبيلة دون غيرها، او انّه ضحّى بالغالي والنفيس من اجل انقاذِ فئةٍ من المجتمع دون الفئات الاخرى!.

إِنَّهُ للناس كافة، بلا شكّ، كما انّ الرسالة للنّاس كافّة، لانّ القيم التي استُشهِدَ من أجلِ حمايتِها من الاندثار او التّلاعب هي قيمٌ إنسانيّة قَبْلَ ان تكونَ دينيّة او مذهبيّة او عربيّة او قبليَّة او ما أشبه، يتطلّع لها الانسان بغضّ النّظر عن ايّ شيء، فقيمٌ مثل العدْل والمساواة والحريّة والكرامة وحقّ الاختيار، هي كلّها قيمٌ إنسانيّة يتمنّى كلّ النّاس ان لو يستظلّوا بفيئِها، بل انّ دماءً أُريقت وأرواحاً أُزهقت على مرّ التاريخ من أَجل حمايتِها من عبثِ النُّظم السّياسيّة المستبدّة والظّالمة والمؤسّسات الدّينية المؤلّهة، التي حاولت ان تقدّم نفسها للمجتمع كممثّلٍ شرعيٍّ وحيد للسّماء في هذه الارض، لدرجةٍ أَنّها احتكرت عمليّة توزيع الاراضي في الجنّة، كما فعلتْ الكنيسة في أوروبا عندما كانت تبيع صكوك الغفران على المغفّلين، وعندما يكرر المُزحة نفسَها الارهابيّون وفقهاء التّكفير بقولهم للمغفّلين وللشّباب الذين غسلوا أدمغتهم، بأنّ تفجيراً انتحارياً واحداً ينقلُ صاحبهُ مباشرة ليحضر مأدُبة َ عشاءٍ مع رسول الله (ص)!.

لماذا نحتفي بحركات التحرّر وبالثّورات التحرّرية في العالم من دونِ ان نسأل عن خلفيّاتِها او نهتمَّ بانتماءاتِها، فنتعاطف معها ونؤيّدها وقد نحميها بالمالِ مثلاً او بالإعلام او ما الى ذلك، ولكن، عندما يتعلّق الامرُ بعاشوراء والحسين (ع) وكربلاء ندقّق في الانتماء ونفتّش في النوايا ونشكّك في الأهداف؟!.

لماذا نتعامل مع كلّ حركةٍ اصلاحيّةٍ في العالم، قديمها وحديثها، من منطلق انساني بحْت، وعندما يصل الامر الى عاشوراء نُثير بوجهِها رؤانا الطّائفية والعنصريّة والسّياسيّة الضيّقة؟!.

انّ الذين {أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} فأُصيبوا بالجهلِ المُركّب والتعصّب الأعمى، لَمْ ولنْ يستوعِبوا عاشوراء ابداً، ولذلك يتخيّلونها حركةً طائفيَّةً تارة وخروجٌ على الحاكم، حتّى اذا كان ظالماً ومستبداً، تارةً أُخرى، وتمرّد لشقّ عصا الامّة وتفريق كلمتهم تارةً ثالثةً، وهي الأفكار التي غذّاها النّظام الأَموي في عقول النّاس لتبرير جريمتهِ في كربلاء، بل كلّ جرائمهِ البشعة التي ارتكبها، خاصةً فترة حكم الطّاغية يزيد بن معاوية!.

امّا الجريمةُ الثّانية التي تُوازيها في الخطورةِ فتتمثّلُ عندما نتعامل مع عاشوراء كقضيّةٍ عاطفيّةٍ فقط وكتراجيديا نذرفُ من أجلِها الدّموع ونشقّ الصّدور ونشجّ الرؤوس وكفى الله المؤمنين القتال!.

انّ هذه الطّريقة في التّعامل مع عاشوراء يقزّمها كثيراً وربّما يحوّلها الى كائنٍ ميّت لا روحَ فيه ولا حَراك، فهو لا يضرُّ ولا ينفع.

فكلّنا نعرِف جيداً انّ الشّعائر الحسينيّة هي السبب المباشر لحفظِ عاشوراء خالدةً الى أبد الآبدين، ولذلك حرص عليها أئمة أهل البيت عليهم السلام ومراجع الامّة والعُلماء والفُقهاء والاُدباء وعلى مرِّ العصور والأزمنة، فكان ثمنُ الحفاظِ عليها دماءٌ وارواحٌ، فأيُّ عاشوراء هذه التي حفظَتها، وتحفظَها، الشّعائر؟ أو ليست عاشوراء القيم والمبادئ والمناقبيّات العظيمة الّتي ضحّى من أجلِها الحسين عليه السلام؟ أم عاشوراء الذّكرى فقط والتّاريخ والقصّة والماضي وتفاصيل مُجرياتها التي نقرأَها ونسمعها في قصص المقاتل؟!.

بالتّأكيد، فانّ المقصود هو عاشوراء القيم، فالشّعائر، والتي تعني العلامات، تُرادُ لغيرها ولا تُرادُ لذاتِها، فكما انّ شعيرةَ الأضحيةِ في الحجّ ترادُ للقيمة والمبدأ الذي يضحّي من أجلهِ الحاج ببُدنٍ مثلاً، كما تشير الى ذلك الآية الكريمة {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَٰلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ* لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ كَذَٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} وكما انّ شعائِر المرور، العلامات، تُرادُ لشيءٍ آخر هو تحذير وتنبيه السّائق من مخاطرِ الطّريق، كذلك الشّعائر الحسينيّة، فلقد اهتمّ بها أئمة اهل البيت عليهم السّلام وعلماؤنا الاعلام ومراجعنا وفقهاؤنا من أجل ان نحتفظ بعاشوراء القيم والمبادئ حيّة في نفوسِنا وعقولِنا ومشاعرِنا، لنكرّسها مشروعٌ حقيقيٌّ وواقعيٌّ في حياتِنا اليومية وفي كل سلوكيّاتنا، سواءً مع الله تعالى أو مع الطبيعة أو مع انفسِنا أو مع الاخرين.

فماذا تنفعُنا عاشوراء اذا أحييناها عواطفَ فقط؟ وماذا تنفعُنا كربلاء اذا لم نستشعرها تضحيةٌ من أجل حياةٍ افضل هي مزرعةٌ للآخرة؟!.

انّ عَاشُورَاءَ بهذا الفهمِ القاصر والنّاقص ستكون مصداق لقول الامام أمير المؤمنين عليه السلام الذي يصف عباداتنا الفارغة من الجوهرِ والمحتوى والرّوح بقوله {كَمْ مِنْ صَائِم لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلاَّ الظَّمَأُ، وَكَمْ مِنْ قَائِم لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلاَّ الْعَنَاءُ، حَبَّذَا نَوْمُ الاَْكْيَاسِ وَإِفْطَارُهُمْ!} ولذلك فلنحذر ان تلعنَنا عاشوراء ونحن نحييها بِغَيْرِ ما اراد الله تعالى منها ورسولهُ وائمةُ اهل البيت (ع) وخاصّة سيد الشهداء عليه السّلام صاحب الذّكرى.

اذا أردنا ان لا نرتكبَ أحدَ هتين الجريمتين، ينبغي علينا ان نفهم الحسين (ع) على أَنه؛

اولاً؛ قامةٌ انسانيّةٌ، وليست دينية او مذهبية فحسب.

انّهُ رمزٌ وأسوةٌ وقدوةٌ للنّاس كافّة، فلا ينبغي التّعامل معهُ بطائفية او عشائرية ابداً، فلقد كتب لي أحدُهم يقول؛ وما دخلُنا في قصّة الصّراع بين الحسين ويزيد؟ أولادُ عمٍّ وتعاركوا على السّلطة! فما بالُنا نحشرُ أنفسَنا بين السّلاطين؟! وهو كمَن يفهم قصّة قابيل وهابيل على انّها عراكٌ بين أخوين لا ينبغي ان نضخّم القصّة! او حتّى نتدخّل بها ونحشر أنفسنا فيها! او كمَن يفهم قصّة نبيّ الله يوسُف عليه السلام على انّها قصّة حسد بين إِخوة غير أشقّاء فما دَخلنا بالموضوعِ؟!.

لقد جسّد كثيرون ومن مختلف المِلل والنِّحل حقيقة انّ الحُسينَ (ع) قامةٌ انسانيَّةٌ إِن من خلال الكتابةِ عَنْهُ ونظْم الشّعر والقصّة والرّواية أو من خلالِ قراءاتهم لهُ والتصريح بمشاعرِهِم ورأيهم فيه.

ومن أجلِ ان نفهمَ الحسين (ع) القامة، يلزم على كلِّ مُنصفٍ ان يدرسَ حياتهُ بالكامل ويطالع سيرتهُ العطرةِ فسيكتشف كم هو قامةٌ عظيمةٌ في تاريخ البشريّة، وليس في تاريخ المسلمين او الشّيعةِ فقط.

ثانياً؛ قيمةٌ إِنسانيّةٌ عملاقةٌ، وهذا يحتاجُ منّا انْ نعيدَ قراءة سيرتهِ العاشورائيّة، رسائلهُ، مواقفهُ، خُطبهُ، آراءهُ، سلوكيّاتهُ، بناءً على الواقع المتغيّر وليس بناءً على ماضٍ مرَّ وتاريخٍ قديمٍ، فاذا اردتَ ان تستفيدَ من التّاريخ ودروسهِ وعبرهِ وتجاربهِ فما عليك الّا ان تقرأَهُ من صُلْبِ الواقع وليس بناءً على ما كان فيما مضى، ولذلك نلحَظ انّ الله تعالى اعتبرَ في اكثرِ من آيةٍ انّ قَصص التّاريخ عبرةً لقومٍ يعقِلون، لأنّ قراءة التّجربة بلا تعقُّلٍ هو تَكَلُّس على الماضي او تسلية لا تُغني ولا تُسمن من جوعٍ.

الحسين (ع) اذن قامَةٌ وقيمَةٌ، قامَةٌ انسانيّةٌ عملاقةٌ نظلِمُ أنفُسنا اذا حشرناهُ في زوايا الدّين او المذْهب، وقيمةٌ انسانيّةٌ نظلِمُ انفُسنا كذلك اذا حَبَسناهُ في عَواطِفِنا فقط.

اضف تعليق