q

أندريس فيلاسكو

 

سانتياجو ــ يبدو أن أميركا اللاتينية لديها الآن منتج تصديري جديد: ردود الفعل الشعبوية العنيفة. وقد هبط هذا المنتج أول ما هبط على شواطئ البحر الأبيض المتوسط الدافئة حسنة الاستقبال، لكي تغذي دعم حزب سيريزا في اليونان وحزب بوديموس في أسبانيا. والآن وصل هذا المنتج إلى المملكة المتحدة.

الواقع أن الإيديولوجية الكروبينية، أو إيديولوجية عضو البرلمان البريطاني الذي طال أمد تهميشه جيريمي كوربين ــ الذي أعرب عن إعجابه برئيس فنزويلا الراحل هوجو شافيز، والذي يعتقد أن غزو فلاديمير بوتن لأوكرانيا كان مبررا، والذي يتزعم الآن حزب العمال البريطاني المبجل ــ تبدو مألوفة لأي شخص على دراية بأميركا اللاتينية. فهي تدعو إلى تمويل العجز المالي نقديا (ما يسمى الآن "التيسير الكمي الشعبي")، وتأميم الصناعات (بدءاً بالسكك الحديدية)، وإنهاء المنافسة وتقديم الخدمات العامة بالاستعانة بالقطاع الخاص. وهذه هي الأمور التي تصور رئيس الوزراء السابق توني بلير وأنصاره ــ مخطئين كما يبدو ــ أنهم أودعوها مزبلة التاريخ.

بطبيعة الحال، تتغذى الشعبوية الجديدة على مصادر أعظم كثيرا (بوسعنا أن نعتبر منافس هيلاري كلينتون الديمقراطي بيرني ساندرز عضواً عاملاً في نادي الشعبوية الجديدة). فكما أكَّد مارتن وولف، تسببت الأزمة المالية في الفترة 2008-2009 في إغضاب الناخبين إزاء "طبقة الأثرياء النافذين الجشعين وأتباعهم المتزلفين في عالم السياسة والإعلام". ويؤكد بول كروجمان الحائز على جائزة نوبل (والذي يبدو لمن ينصت إليه وكأنه "من أتباع كوربين" في بعض الأحيان، ولكنه ليس كذلك) وفولفجانج مونشاو أن اليسار المعتدل في أوروبا خسر الدعم الشعبي بسبب استعداده المفرط لتبني النسخة المتطرفة من التقشف المالي التي طالبت بها ألمانيا وحلفاؤها التقليديون.

ولكن أن تكون غاضباً ليس كأن تكون محقا. إن الشعبويين الأوروبيين الجدد يراهنون بالإحباط المشروع على مجموعة مضللة من السياسات التي من غير الممكن أن تنتج إلا المزيد من نفس الشيء. وقد أدركت شعوب أميركا اللاتينية هذه الحقيقة بالطريقة الصعبة في عقود ماضية. والآن، ربما يوشك الأوروبيون (وربما الأميركيون) على إدراكها بنفس الطريقة أيضا.

الواقع أن ثلاثة التباسات دفعت كوربين إلى النظر إلى أمور حاسمة بشكل خاطئ تماما.

سوق البطاطا ليست كمثل سوق القروض. صحيح أن المصرفيين جشعون. وصحيح أن الأسواق المالية تحتاج إلى مراقبة لصيقة وإشراف دقيق. ولكن ما هو صحيح بالنسبة للأسواق المالية ليس صحيحاً بالضرورة في أسواق أخرى.

إن صفقة البطاطا تحدث عند نقطة بعينها في الزمن فقط: فالشاري يضع ماله والبائع يضع درنات البطاطا، وهذا كل شيء. أما المعاملة المالية فهي على النقيض من هذا تحدث بمرور الوقت: يحصل المقترض على المال اليوم ويَعِد بسداد القرض بعد شهر، أو عام، أو عشر سنوات. وهذا في حد ذاته يجعل التمويل عُرضة بشكل خاص للمحتالين والنصابين. ولأن التوقعات والثقة بشأن الأحداث في المستقبل من الأمور الحاسمة، فيتعين على الحكومات أن تكون مستعدة للقيام "بكل ما يلزم" لتثبيت استقرار الأسواق المالية، وهو ما يعتزم رئيس البنك المركزي الأوروبي ماريو دراجي القيام به على وجه التحديد.

وكما أشار رجل الاقتصاد الكوبي الأرجنتيني الأميركي كارلوس دياز أليخاندرو قبل فترة طويلة، فإن خطر الإفلاس لا يحمل الأسواق المالية على الانضباط. فعندما تنزلق البنوك إلى المتاعب، تسارع الحكومات دوماً إلى إنقاذها أو تتمنى لو كانت أنقذتها (كما حدث في حالة ليمان براذرز). ويتعين على الهيئات التنظيمية أن توفر الانضباط الذي لا تستطيع الأسواق أن تقدمه.

ولكن أتباع كوربين يخطئون عندما يستنتجون أن الاعتلالات التي تصيب الأسواق المالية تصيب بعدواها أيضاً كل الأسواق الأخرى، في كل الأوقات. فالدول سواء كانت غنية أو فقيرة لا تحتاج إلى تعيين هيئة إشرافية على البطاطا تتمتع بسلطات تنظيمية جديدة ومعززة.

أمر عظيم أن يكون المرء من أنصار جون ماينارد كينز ــ ولكن خلال شطري الدورة. صحيح أن الاقتصاديين التقليديين، وأغلبهم من أصول تيوتونية يروجون لوصفة مميتة من السياسة المالية. فهم يزعمون أنه عندما يكون الاقتصاد في رواج لابد من خفض الإنفاق (أو إذا فشل كل شيء آخر، زيادة الضرائب) من أجل الحد من الطلب. وعندما يكون الاقتصاد في ركود، فلابد أيضاً من خفض الإنفاق من أجل استعادة الثقة وإحياء الاستثمار. ويرى بعض أهل الاقتصاد الأوروبيين أن هذه الوصفة كانت دوماً السبب في فترات ركود طويلة دون داع.

لكن هذا لا يعني بالضرورة، كما يعتقد أنصار كوربين، أن العجز الكبير في الميزانية والديون الضخمة أمور لا ضرر منها. بل على العكس من ذلك، عندما تصبح الديون غير مستدامة ولا تجد الحكومات أي خيار غير إغلاق المستشفيات وخفض معاشات التقاعد، فإن الفقراء والضعفاء هم دوماً الذين يعانون أشد الضرر من جراء ذلك.

إن السبيل لجعل السياسة المالية المكافِحة بقوة للتقلبات الدورية في حكم الإمكان يتلخص في الاعتماد على قواعد الميزانية الحديثة. فالحكومة الكينزية الحديثة لا تتردد في زيادة الإنفاق في مواجهة الركود. ولكن لكي يتسنى لها أن تفعل ذلك، فإنها تحتاج إلى مستوى مرتفع من المصداقية جنباً إلى جنب مع انخفاض الديون، والذي يرجع إلى الادخار وسداد الديون خلال فترة الرواج.

وقد فعلنا هذا في شيلي أثناء طفرة أسعار النحاس في الفترة 2006-2008، فتجمع لدينا فائض في الميزانية بلغ ثماني نقاط مئوية من الناتج المحلي الإجمالي. وعندما انهار وال ستريت، كان لدينا الحيز المالي الكافي لتنفيذ واحدة من أكثر خطط مكافحة الأزمات عدوانية على الإطلاق. وكانت قاعدة مالية صارمة، نفذتها وطبقتها حكومة تنتمي إلى يسار الوسط، السبب في جعل هذا في حكم الإمكان.

الغايات التقدمية ليست كمثل الوسيلة الدولانية. لا يوجد أي شيء من شأنه أن يجعل المعاناة والظلم والتفاوت بين الناس حتميا. ولهذا السبب فإن الديمقراطيين الاجتماعيين والليبراليين التقدميين في العصر الحديث يحرصون على تصحيح الأخطاء الاجتماعية. ولكن الفعالية تتطلب اللاأدرية في التعامل مع السياسات اللازمة لتحقيق غايات نبيلة.

ولنتأمل هنا الرعاية الصحية. إن الأشياء المختلفة تعمل بشكل مختلف في الأماكن المختلفة. فبريطانيا لديها جهة واحدة تدفع وجهة واحدة تقدم الخدمة: خدمة الصحة الوطنية. وكندا لديها جهة عامة منفردة تدفع ولكن مقدمي الخدمة من القطاع الخاص غالبا. وقد أسس نظام أوباما كير تفويضاً عاماً لشراء التأمين الخاص (مع تقديم إعانات الدعم العامة للفقراء) لتمويل مقدمي الخدمة بواسطة مستشفيات وعيادات خاصة (غالبا).

وينطبق الشيء نفسه في التعليم، أو معاشات التقاعد، أو إسكان الفقراء. والدل محقة في الإنفاق بسخاء على التعليم؛ ولكن من بين أكبر عشر جامعات مدرجة في ترتيب شنغهاي على مستوى العالم، سبع منها جامعات خاصة. وكثيراً ما تقوم أنظمة معاشات التقاعد الناجحة على ركيزة التضامن (العام) وركيزة أخرى تقوم على الاشتراكات (الخاص). وهذا أمر عفا عليه الزمن في نظر طلاب السياسة العامة الحديثة. ولكن يبدو أن أتباع كوربين لم يستوعبوا أي شيء منه.

هذه هي الأخبار السيئة. والنبأ السار هو أن الأفكار موجودة بالفعل لتوفير بديل تقدمي لكوربينية الستينيات. وقد نشأت بعض هذه الأفكار وتطورت في العالم الغني؛ وبعضها الآخر في بلدان ناشئة. والزعامة السياسية ــ من بين الأمثلة عليها رئيس وزراء إيطاليا ماتيو رينزي ــ مطلوبة الآن لدفع هذه الأفكار إلى الأمام.

* أستاذ من الممارسة المهنية في مجال التنمية الدولية في جامعة كولومبيا للشؤون الدولية والعامة. وقد قام بالتدريس في جامعة هارفارد وجامعة نيويورك

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق