q

أناتول كاليتسكي

 

لندن ــ إن التقلبات العنيفة في أسعار النفط تزعزع استقرار الاقتصادات والأسواق المالية في مختلف أنحاء العالم. عندما هبط سعر النفط إلى النصف العام الماضي، من 110 دولاراً إلى 55 دولاراً للبرميل، كان السبب واضحا: وهو القرار الذي اتخذته المملكة العربية السعودية بزيادة حصتها في سوق النفط العالمية من خلال توسيع الإنتاج. ولكن ما السبب وراء الهبوط الجديد في أسعار النفط في الأسابيع القليلة الماضية ــ إلى مستويات غير مشهودة من التدني لم نرها سوى في أعقاب اندلاع الأزمة المالية العالمية في عام 2008 مباشرة ــ وكيف قد يؤثر هذا على الاقتصاد العالمي؟

التفسير المعتاد هو ضعف الطلب الصيني، مع النظر إلى انهيار أسعار النفط على نطاق واسع في مختلف أنحاء العالم باعتباره نذيراً بالركود، سواء في الصين أو الاقتصاد العالمي بالكامل. ولكن هذا يكاد يكون خاطئاً تماما، حتى وإن كانت تؤكده ظاهرياً العلاقة المحكمة بين أسواق النفط والأسهم، التي هبطت إلى أدنى مستوياتها منذ عام 2009، ليس فقط في الصين بل وأيضاً في أوروبا وأغلب الاقتصادات الناشئة.

الواقع أن أهمية التنبؤ بأسعار النفط مبهرة حقا، ولكن فقط باعتباره مؤشراً عكسيا: فهبوط أسعار النفط لم يتنبأ بشكل صحيح قط بركود اقتصادي. ففي كل المناسبات الأخيرة عندما كانت أسعار النفط تهبط إلى النصف ــ 1982، 1983، 1985، 1986، 1992، 1993، 1997، 1998، ثم في الفترة 2001-2002 ــ كان النمو العالمي الأسرع يعقب ذلك.

وعلى العكس من ذلك، كان كل ركود عالمي في السنوات الخمسين الماضية مسبوقاً بزيادة حادة في أسعار النفط. وكانت أحدث حالة عندما تضاعف سعر النفط إلى ثلاثة أمثاله تقريبا، من 50 دولاراً إلى 140 دولارا، في السنوات السابقة لانهيار عام 2008؛ ثم هبط بعد ذلك على أربعين دولاراً في الأشهر الستة السابقة مباشرة للتعافي الاقتصادي الذي بدأ في إبريل/نيسان 2009.

وإحدى النتائج المباشرة المهمة بالنسبة للبلدان النامية المنتجة للسلع الأساسية هي أن أسعار المعادن الصناعية، التي نادراً ما تشكل مؤشرات رئيسية للنشاط الاقتصادي، ربما تزداد بعد انهيار أسعار النفط. ففي الفترة 1986-1987 على سبيل المثال، تضاعفت أسعار المعادن بعد سنة واحدة من هبوط أسعار النفط إلى النصف.

هناك آلية اقتصادية قوية تستند إليها العلاقة العكسية بين أسعار النفط والنمو العالمي. فلأن العالم يحرق 34 مليار برميل من النفط كل عام، فإن هبوط سعر النفط بنحو 10 دولارات يحول 340 مليار دولار من منتجي النفط إلى المستهلكين، وبالتالي فإن هبوط السعر بنحو 60 دولاراً منذ أغسطس الماضي سيعيد توزيع أكثر من 3 تريليون دولار سنوياً على مستهلكي النفط، وهو ما يوفر دفعة أكبر للدخل من مجموع الحوافز المالية التي قدمتها الولايات المتحدة والصين في عام 2009.

ولأن مستهلكي النفط عموماً ينفقون أي دخل إضافي بسرعة إلى حد ما، في حين أن الحكومات (التي تحصل القسم الأعظم من عائدات النفط العالمية) تحافظ على الإنفاق العام من خلال الاقتراض أو إنهاك الاحتياطيات، فإن التأثير الصافي لانخفاض أسعار النفط كان دوماً إيجابياً للنمو العالمي. ووفقاً لصندوق النقد الدولي، فإن هبوط أسعار النفط هذا العام لابد أن يعزز الناتج المحلي الإجمالي لعام 2016 بنحو 0.5% إلى 1% على مستوى العالم، بما في ذلك النمو بنسبة 0.3% إلى 0.4% في أوروبا ونحو 1% إلى 1.2% في الولايات المتحدة، ونحو 1% إلى 2% في الصين.

ولكن إذا كان من المرجح أن يتسارع النمو في العام المقبل في الاقتصادات المستهلكة للنفط مثل الصين، فما الذي يفسر هبوط أسعار النفط؟ لا تكمن الإجابة على هذا السؤال في اقتصاد الصين والطلب على النفط، بل في الحالة الجيوسياسية في الشرق الأوسط والمعروض من النفط.

رغم أن سياسات الإنتاج السعودية كانت بشكل واضح السبب وراء انخفاض أسعار النفط إلى النصف في العام الماضي، فإن الانخفاض الأخير بدأ في السادس من يوليو/تموز، بعد بضعة أيام من إبرام اتفاق رفع العقوبات الدولية المفروضة على إيران. فقد دحض الاتفاق النووي مع إيران الافتراض الواسع الانتشار رغم سذاجته بأن الأوضاع الجيوسياسية من الممكن أن تدفع أسعار النفط في اتجاه واحد فقط. ولكن التجار تذكروا فجأة أن الأحداث الجيوسياسية من الممكن أن تزيد من المعروض من النفط، لا أن تقلصه فحسب ــ ومن المرجح أن تستمر هذه الدفعة التي تحركها أسباب جيوسياسية للمعروض من النفط في السنوات المقبلة.

والواقع أن الأوضاع في ليبيا، وروسيا، وفنزويلا، ونيجريا سيئة بالفعل إلى الحد الذي يجعل أي ضرر إضافي لناتجها من النفط شديد إلى حد يصعب تخيله. ولكن على العكس من ذلك، مع انزلاق العديد من مناطق العالم الأكثر إنتاجاً للنفط إلى مستنقع الفوضى السياسية، فإن أي علامة على الاستقرار من الممكن أن تعطي دفعة سريعة للمعروض من النفط. وهذا هو ما حدث في العراق العام الماضي، والآن تأخذ إيران هذه العملية إلى مستوى أعلى.

فحالما يتم رفع العقوبات، تَعِد إيران بمضاعفة صادراتها من النفط على الفور تقريباً إلى مليوني برميل يوميا، ثم مضاعفة الصادرات مرة أخرى بحلول نهاية هذا العقد. ولكي تحقق إيران هذا الوعد فسوف يكون لزاماً عليها أن تعزز ناتجها الإجمالي (بما في ذلك الاستهلاك المحلي) إلى ستة ملايين برميل يوميا، وهو ما يعادل تقريباً ذروة إنتاجها في سبعينيات القرن العشرين. ونظراً للتقدم الهائل الذي طرأ على تكنولوجيا استخراج النفط منذ السبعينيات والاحتياطيات الهائلة التي تمتلكها إيران (رابع أكبر احتياطيات في العالم بعد المملكة العربية السعودية، وروسيا، وفنزويلا)، فإن استعادة الإنتاج إلى المستويات التي كانت قبل أربعين سنة يبدو هدفاً متواضعا.

ولكن لكي تجد إيران مشترين لكل النفط الإضافي، الذي يعادل تقريباً الناتج الإضافي الذي تنتجه ثورة الصخر الزيتي في الولايات المتحدة، فسوف يكون لزاماً عليها أن تتنافس بشراسة ليس فقط مع المملكة العربية السعودية، بل وأيضاً مع العراق، وكازاخستان، وروسيا، وغيرها من الدول المنتجة المنخفضة التكاليف. وكل هذه البلدان أيضاً عازمة على استعادة إنتاجها إلى مستويات الذروة السابقة وينبغي أن تكون قادرة على ضخ المزيد من النفط مقارنة بما كانت قادرة على ضخه في السبعينيات والثمانينيات من خلال استغلال تكنولوجيات الإنتاج الجديدة التي تحمل الولايات المتحدة لواء ريادتها.

في هذه البيئة التنافسية، يصبح تداول النفط مثله كمثل أي سلعة عادية، مع كسر الاحتكار السعودي وتحديد سقف سعر جديد للأمد البعيد يبلغ نحو 50 دولاراً للبرميل بفضل تكاليف الإنتاج في أميركا الشمالية، لأسباب عرضتها في يناير/كانون الثاني.

من هنا، فإذا كنت راغباً في فهم أسعار النفط الهابطة، فعليك أن تنسى تماماً الاستهلاك الصيني وأن تركز على الإنتاج في الشرق الأوسط. وإذا كنت راغباً في فهم الاقتصاد العالمي، فلتنس أسواق الأسهم ولتركز على حقيقة مفادها أن النفط الرخيص يساهم دوماً في تعزيز النمو العالمي.

* كبير الاقتصاديين والرئيس المشارك للـ دراجونوميكس جافيكال، كتب سابقا في صحيفة تايمز أوف لندن، ونيويورك تايمز وصحيفة فاينانشال تايمز، وهو مؤلف من الرأسمالية 4.0، ولادة من الاقتصاد الجديد، الذي يتوقع العديد من التحولات ما بعد الأزمة في الاقتصاد العالمي.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق