q
تؤثر التغيرات المناخية تأثيرًا بالغًا على الإنتاج الزراعي، ما يؤدي إلى نقص إنتاجية كثير من المحاصيل، الأمر الذي يمثل تهديدًا مزدوجًا للحياة على كوكب الأرض، يتمثل في عدم استقرار الأمن الغذائي من جهة، ومن جهة أخرى في نقص إنتاج محاصيل الطاقة الحيوية التي تساعد في التقاط الكربون من الغلاف الجوي وتخزينه...
بقلم محمود العيسوي

تؤثر التغيرات المناخية تأثيرًا بالغًا على الإنتاج الزراعي، ما يؤدي إلى نقص إنتاجية كثير من المحاصيل، الأمر الذي يمثل تهديدًا مزدوجًا للحياة على كوكب الأرض، يتمثل في عدم استقرار الأمن الغذائي من جهة، ومن جهة أخرى في نقص إنتاج محاصيل الطاقة الحيوية التي تساعد في التقاط الكربون من الغلاف الجوي وتخزينه، ما يسهم في الحد من انبعاثات الاحتباس الحراري.

وتحظى تقنيات الطاقة الحيوية التي تؤدي دورًا في احتجاز ثاني أكسيد الكربون وتخزينه (BECCS) باعتراف دولي على نطاق واسع، باعتبارها وسيلة للتخفيف من حدة التغير المناخي، إذ تعتمد على التقاط غاز ثاني أكسيد الكربون الناتج عن احتراق محاصيل الطاقة أو المخلفات الزراعية للمحاصيل الغذائية، مثل الذرة والأرز، بحيث يُخزن الكربون ويُعزل في مواقع جيولوجية بهدف إزالته من الغلاف الجوي، إلا أن التأثيرات السلبية للتغيرات المناخية على إنتاجية المحاصيل الزراعية تتسبب في تراجُع قدرة تلك التقنية، بالإضافة إلى ما يمثله نقص الإنتاج من تهديد للأمن الغذائي، الأمر الذي يثير سلسلةً من ردود الأفعال المتباينة بشأن الدور الذي يمكن أن تؤديه تلك المحاصيل في منع تفاقُم ظاهرة الاحتباس الحراري.

وكان فريق من الباحثين بجامعة فودان، في شنغهاي بالصين، بقيادة البروفيسور رونغ وانغ، أستاذ بقسم العلوم والهندسة البيئية، قد عمل على دراسة التأثيرات الناجمة عن مجموعة من العوامل على إنتاجية تلك المحاصيل، من ضمنها ارتفاع درجة الحرارة في أثناء مواسم النمو، ومستوى تركيزات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي المحيط، ومعدلات استخدام الأسمدة النيتروجينية في الزراعة، وكشفت نتائج دراستهم المنشورة حديثًا في دورية نيتشر – Nature أن ارتفاع الحرارة بأكثر من درجتين مئويتين عما كانت عليه قبل عصر الثورة الصناعية –وهو الهدف الذي اعتمده قادة العالم بموجب «اتفاق باريس» في عام 2015- من شأنه أن يهدد كلًّا من الأمن الغذائي وجهود التخفيف من التغيرات المناخية.

التخفيف المبكر لتجنُّب الأزمات

وخلص الباحثون إلى أنه في حالة تأخير استخدام تقنيات إنتاج الطاقة الحيوية لالتقاط ثاني أكسيد الكربون وتخزينه (BECCS) على نطاقٍ واسع، ضمن الجهود العالمية للتخفيف من التغيرات المناخية حتى عام 2060، فإنه يتوقع أن تكون مستويات الاحترار العالمي قد بلغت ما يقرب من 2.5 درجة مئوية، وبالتالي فإن معدل إنتاج محاصيل الطاقة الحيوية سيكون منخفضًا للغاية، بحيث لا يلبي هدف اتفاق باريس للحد من ارتفاع الحرارة بأقل من درجتين بحلول عام 2100.

يقول البروفيسور جيمس كلارك، مؤلف مشارك في الدراسة: "يوفر وقود الكتلة الحيوية والمواد الأولية مصدرًا متجددًا للطاقة وبديلًا للبتروكيماويات قابلًا للتطبيق، ولكن نتائج دراستنا بمنزلة تحذير صارخ حول التغيرات المناخية التى قد تؤدي إلى تعريض معدلات توافرها للخطر في حال ارتفعت درجات الحرارة العالمية عن المعدل المخطط له، وأضاف: "هناك نقطة تحول عندها سيعوق التغير المناخي بشدة قدرتنا على التخفيف من أسوأ آثاره، يجب استخدام الكتلة الحيوية مع احتجاز الكربون وتخزينه، بما في ذلك تصنيع المواد الكيميائية الحيوية الآن إذا أردنا تعظيم مزاياها".

في حين يوضح «وانغ»، في تصريحات لـ«للعلم»، أن التراجُع المتوقع في إنتاج المحاصيل المستخدمة في إنتاج الطاقة الحيوية يرجع إلى مجموعة من الأسباب، في مقدمتها الطلب المتزايد على الغذاء، بالإضافة إلى عوامل أخرى ترتبط بالتغيرات المناخية، مما يتطلب التوسع في استخدام الأراضي الزراعية، أو الإفراط في استخدام الأسمدة النيتروجينية لتعويض نقص الإنتاج بسبب المناخ.

ويرى المؤلف الرئيسي للدراسة أن هناك ضرورةً مُلحَّة لاستخدام هذه التقنيات مبكرًا بقدر الإمكان، للتخفيف من الانبعاثات الكربونية، مشيرًا إلى أنه من المفضل أن يكون ذلك بحلول عام 2040، لتجنُّب وصول التغير المناخي إلى مستوى لا رجعة فيه، وتجنُّب حدوث أزمات غذائية واسعة النطاق، إذا لم تتوافر تقنيات أخرى بديلة لتخفيف الانبعاثات في المستقبل القريب.

مصادر طاقة «صفرية» الانبعاثات

وعن طريقة عمل تلك التقنيات يقول "وانغ": إن هذه المحاصيل توفر المواد الأولية للكتلة الحيوية للاحتراق في محطات الطاقة التي يجري تعديلها بما يتيح استخدام الحرق المشترك للفحم والكتلة الحيوية، إذ يجري تزويدها بمرافق لالتقاط ثاني أكسيد الكربون الناتج عن عملية الاحتراق، ومنع وصوله إلى الغلاف الجوي، بهدف توفير مصادر طاقة «صفرية» الانبعاثات.

ويوضح أنه بعد ذلك يُنقل ثاني أكسيد الكربون إلى مواقع التخزين تحت الأرض، مثل خزانات النفط المستنفدة، أو خزانات المياه الجوفية المالحة، أو طبقات الفحم، حيث يُحقَن الكربون في المواقع التي لا تكون قابلةً للتعدين، مؤكدًا أن عملية التقاط الكربون وتخزينه هذه تُسهم في تقليل الانبعاثات الكربونية، ويُنظر إليها على نطاق واسع بوصفها أحد الخيارات الواعدة للتخفيف من حدة التغيرات المناخية، ويتكون الكربون في الأصل نتيجة عملية التمثيل الضوئي للنبات.

ويؤكد المؤلف الرئيسي للدراسة أن هذه الطريقة تواجه عددًا من التحديات المادية والتقنية، نظرًا لارتفاع تكاليف بعض العناصر المستخدمة في آلية التقاط الكربون وتخزينه، ومع ذلك فقد جرى الاعتراف بها كمصدر لتخفيض الانبعاثات، ومن المتوقع استخدامها على نطاق واسع في النصف الثاني من القرن الحالي.

التخفيف المبكر قبل 2040

وبالنسبة لما تطرحه الدراسة بشأن التوسُّع في الأراضي الزراعية، وتكثيف عمليات التخصيب بالأسمدة النيتروجينية، لتعويض النقص في إنتاج المحاصيل بسبب تغيُّر المناخ، يقول "وانغ": "افترضنا أنه يمكن تعويض انخفاض إنتاج المحاصيل عن طريق زيادة مساحة الأراضي الزراعية وزيادة إنتاج المحاصيل، أو الحفاظ على مستويات الإنتاج الحالية لتحقيق هدف نصيب الفرد من السعرات الحرارية اليومية، وكذلك الأمر بالنسبة لتكثيف التسميد بالنيتروجين، لزيادة غلة المحاصيل".

إلا أنه يستطرد قائلًا: "ومع ذلك، تُظهر النماذج المستخدمة في الدراسة أن زيادة الأراضي الزراعية، وتكثيف التسميد بالنيتروجين، سيكون لهما آثار جانبية تؤدي إلى تسريع تغيُّر المناخ، بسبب انبعاثات غازات الدفيئة، مثل الميثان وأكسيد النيتروز، مما يتسبب في انخفاض غلة المحاصيل".

ويختتم "وانغ" بقوله: "لذلك، توصي الدراسة بالتخفيف المبكر على مستوى العالم، عن طريق نشر تقنية التقاط الكربون وتخزينه، بالإضافة إلى نشر مصادر الطاقة الأخرى منخفضة الانبعاثات الكربونية على نطاق واسع قبل عام 2040، فهذه هي الإستراتيجية المحتملة لتجنُّب تقليل إنتاج المحاصيل، وتعزيز الأمن الغذائي".

آثار كارثية بمرور الوقت

ويُظهر تقرير سابق لموقع «للعلم» أن التوسع في انتاج الطاقة الحيوية يمثل ضغطًا لموارد الأرض التي قد تصبح أكثر ندرةً بمرور الوقت، الأمر الذي دفع فريقًا من الباحثين المعنيين بالحفاظ على البيئة للمطالبة بالحد من استخدام الطاقة الحيوية لتجنُّب آثار مناخية كارثية.

ويستند الباحثون، وفق تحليل نشرته دورية «جلوبال تشينج بيولوجي» إلى أن التصورات القائمة على استخدام الكتلة الحيوية للمحاصيل والأشجار والحشائش كوقود، حتى عام 2100، تتجاهل البصمة الكربونية المرتفعة للتكنولوجيات المستخدمة في هذا المجال، كما لم تلتفت إلى الاستخدام المفرط للأرض.

في المقابل، تضمَّن تقرير للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيُّر المناخ (IPCC) دعوةً إلى وضع مجموعة من السيناريوهات للحد من التغيرات المناخية، تعتمد على التوسع في استخدامات الطاقة الحيوية، إذ توقع أن تمثل الطاقة المستمدة من الكتلة الحيوية 26% من إجمالي الطاقة الأولية في عام 2050، مقارنةً بـ10% في عام 2020، في حين أن الطاقة الشمسية وطاقة الرياح معًا يمثلان نسبةً لا تتجاوز 22%.

ويقدر الباحثون أنه فيما يتعلق بالسيناريو الأسوأ، يجب زيادة حجم تجارة المواد الغذائية بنسبة 80٪ عن مستويات عام 2019 من أجل تجنُّب النقص الحاد في الغذاء في أجزاء كثيرة من العالم النامي الأكثر تضرُّرًا من تغيُّر المناخ.

تكنولوجيا جديدة تحتاج إلى التقييم

يقول سمير طنطاوي، عضو الهيئة الحكومية الدولي لتغير المناخ ومدير مشروع الإبلاغ الوطني للتغيرات المناخية في مصر: إن تقنية الطاقة الحيوية التي تعتمد على إنتاج طاقة «صفرية» الانبعاثات مصدرها المحاصيل الزراعية، بالإضافة إلى قنص ثاني أكسيد الكربون في أثناء حرق المحاصيل، وتخزينه في باطن الأرض، من التقنيات النظيفة لتوليد الطاقة التي بدأ عدد من الدول بأنحاء العالم في استخدامها.

ويؤكد "طنطاوي"، في تصريحات لـ«للعلم»، أن هذه التكنولوجيات ما زالت جديدة، وتحتاج إلى مزيد من الدراسات، لتقييم تأثير تخزين ثاني أكسيد الكربون في باطن الأرض على النظم الأحيائية الأخرى في طبقات الأرض، مشيرًا إلى أن هناك كثيرًا من التحفظات على توليد الوقود من المحاصيل الزراعية التي يجب أن يكون استخدامها الأساسي في تلبية احتياجات البشر من الغذاء، كما أن هناك تحذيرات من أن توليد الوقود بكميات كبيرة من المحاصيل الزراعية قد يؤدي إلى تفاقُم أزمات الجوع في العالم.

ويلفت "طنطاوي" إلى أن بعض الشركات الكبرى تقوم بالفعل بإنتاج الوقود الحيوي من المحاصيل الزراعية، نظرًا لما يحققه من عائدات اقتصادية مرتفعة، مقارنةً بتكاليف إنتاج المحاصيل، لكن لا يجب أن يكون العامل الاقتصادي هو العنصر المهم في هذه المعادلة، إنما ينبغي أن يأتي تحقيق الأمن الغذائي على رأس الأولويات، عند التفكير في استخدام مثل هذه التقنية.

اضف تعليق