q
إسلاميات - القرآن الكريم

مناهج التفسير.. نقد التفسير الظاهري والباطني

(هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) (3)

الآية الكريمة صريحة في ان إتباع المتشابه وإبتغاء التأويل من دون الرجوع إلى الراسخين في العلم متفرع على زيغ القلوب، وان الذين في قلوبهم زيغ وانحراف وضلال هم الذين يسلكون ما يسمى بالمسلك الباطني إذا أريد به المسلك الذي ينتهج منهج التأويل من غير دلالة ظاهرة بحسب الطرق العقلائية...

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وأهل بيته الطاهرين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.

قال الله العظيم في كتابه الكريم: ((هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذينَ في‏ قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْويلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ))(1).

من البصائر: المعاني الست للقلب

منطلق البحث في هذه الحلقة سيكون بإذن الله تعالى بصيرة قرآنية هامة تلقي الضوء على النقد الأساسي الموجّه لبعض المناهج التفسيرية، بل تعد هذه البصيرة أحد المفاتيح الرئيسة في تقييم المناهج والاتجاهات التفسيرية، وهذه البصيرة تُعنى بتحديد المراد من (القلب) في قوله تعالى: ((فَأَمَّا الَّذينَ في‏ قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْويلِهِ)) مع ما اكتنفته من صفات، فنقول:

إنّ القلب في منطق الآيات والروايات يطلق، على حسب التحقيق، على ستة معاني، وقد يكون ذلك على نحو الاشتراك اللفظي بتعدد الأوضاع لتلك المعاني ولكن على نحو الوضع التعيّني، من غير ان يكون الجامع هو الموضوع له، كما قد يكون ذلك على نحو الانصراف لمناسبات الحكم والموضوع وغيرها مع الذهاب إلى الاشتراك المعنوي:

العضو الصنوبري

المعنى الأول: العضو الصنوبري الذي يتميز بكونه مضخة للدم إلى أنحاء الجسم.

العقل

المعنى الثاني: العقل، الذي ورد فيه: عن أحمد بن إدريس عن... أبي عبد الله ((عليه السلام)) قال: ((قُلْتُ لَهُ: مَا الْعَقْلُ؟ قَالَ: مَا عُبِدَ بِهِ الرَّحْمَنُ وَاكْتُسِبَ بِهِ الْجِنَانُ قَالَ: قُلْتُ: فَالَّذِي كَانَ فِي مُعَاوِيَةَ؟ فَقَالَ: تِلْكَ النَّكْرَاءُ، تِلْكَ الشَّيْطَنَةُ وَهِيَ شَبِيهَةٌ بِالْعَقْلِ وَلَيْسَتْ بِالْعَقْلِ))(2).

الروح المجردة

المعنى الثالث: الروح المجردة، التي ورد فيها قوله تعالى: ((وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي))(3).

مركز المعرفة الشهودية

المعنى الرابع: مركز المعرفة الشهودية، والتي تختلف لدى الدقة عن (العلم الحضوري) إذ يراد بها ما أراده الإمام أمير المؤمنين ((عليه السلام)) فيما روي عن أبي عبد الله ((عليه السلام)) قال: ((قَالَ جَاءَ حِبْرٌ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ حِينَ عَبَدْتَهُ؟ قَالَ: فَقَالَ: وَيْلَكَ مَا كُنْتُ أَعْبُدُ رَبّاً لَمْ أَرَهُ، قَالَ: وَكَيْفَ رَأَيْتَهُ؟ قَالَ: وَيْلَكَ لَا تُدْرِكُهُ الْعُيُونُ فِي مُشَاهَدَةِ الْأَبْصَارِ وَلَكِنْ رَأَتْهُ الْقُلُوبُ بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ))(4) فهذه أربعة من المعاني:

لا شيء من المعاني الأربعة يفسر ((قُلُوبِهِمْ))

ولكنّ شيئاً من هذه المعاني لا ينطبق على ((قُلُوبِهِمْ)) في الآية مورد البحث:

أما المعنى الأول، فواضح إذ القلب بما هو عضو صنوبري مادي تلاحظ خواصه وجوانبه البيولوجية والفيزياوية والكيماوية وحركته ونشاطه المادي، أجنبي عن عالم العلم والمعرفة والضلال والهداية وغير ذلك فلا يوصف من هذه الجهة بان فيه زيغاً.

وأما المعنى الثاني فهو مستبعد؛ إذ العقل في الروايات والآيات يراد به عادةً القوة النورية والحقيقة السامية الإلهية التي أودعها الله في الإنسان، فمثلاً ما عن أبي جعفر ((عليه السلام)) قال: ((لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلَ اسْتَنْطَقَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَقْبِلْ فَأَقْبَلَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ، ثُمَّ قَالَ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي مَا خَلَقْتُ خَلْقاً هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْكَ، وَلَا أَكْمَلْتُكَ إِلَّا فِيمَنْ أُحِبُّ، أَمَا إِنِّي إِيَّاكَ آمُرُ، وَإِيَّاكَ أَنْهَى، وَإِيَّاكَ أُعَاقِبُ، وَإِيَّاكَ أُثِيبُ))(5).

وقال رسول الله ((صلى الله عليه واله وسلم)): ((مَا قَسَمَ اللَّهُ لِلْعِبَادِ شَيْئاً أَفْضَلَ مِنَ الْعَقْلِ فَنَوْمُ الْعَاقِلِ أَفْضَلُ مِنْ سَهَرِ الْجَاهِلِ وَإِقَامَةُ الْعَاقِلِ أَفْضَلُ مِنْ شُخُوصِ الْجَاهِلِ، وَلَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيّاً وَلَا رَسُولًا حَتَّى يَسْتَكْمِلَ الْعَقْلَ وَيَكُونَ عَقْلُهُ أَفْضَلَ مِنْ جَمِيعِ عُقُولِ أُمَّتِهِ، وَمَا يُضْمِرُ النَّبِيُّ ((صلى الله عليه واله وسلم)) فِي نَفْسِهِ أَفْضَلُ مِنِ اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَمَا أَدَّى الْعَبْدُ فَرَائِضَ اللَّهِ حَتَّى عَقَلَ عَنْهُ، وَلَا بَلَغَ جَمِيعُ الْعَابِدِينَ فِي فَضْلِ عِبَادَتِهِمْ مَا بَلَغَ الْعَاقِلُ وَالْعُقَلَاءُ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ((وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْباب)) ))(6)

وعن أبي عبد الله ((عليه السلام)) في حديث طويل: ((إِنَّ أَوَّلَ الْأُمُورِ وَمَبْدَأَهَا وَقُوَّتَهَا وَعِمَارَتَهَا الَّتِي لَا يُنْتَفَعُ بِشَيْ‏ءٍ إِلَّا بِهِ، الْعَقْلُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ زِينَةً لِخَلْقِهِ وَنُوراً لَهُمْ، فَبِالْعَقْلِ عَرَفَ الْعِبَادُ خَالِقَهُمْ وَأَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ وَأَنَّهُ الْمُدَبِّرُ لَهُمْ وَأَنَّهُمُ الْمُدَبَّرُونَ وَأَنَّهُ الْبَاقِي وَهُمُ الْفَانُونَ...))(7)، فذلك بعض ما ورد في الروايات الشريفة.

وأما الآيات الكريمة فكقوله تعالى: ((كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ))(8) و((وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذينَ لا يَعْقِلُونَ))(9) و((ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ))(10).

ولذلك يستبعد ان يراد من ((قُلُوبِهِمْ)) في الآية الكريمة، عقولهم إذ انه تعالى وصفها بوصف سلبي شيطاني ((فَأَمَّا الَّذينَ في‏ قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْويلِهِ)).

وأما المعنى الثالث فكذلك، لما عهدناه من وصف الروح في الآيات والروايات بنسبتها إلى الله تعالى وبانها من أمره جل اسمه ((وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَليلاً))(11) ((وَنَفَخْتُ فيهِ مِنْ رُوحي‏))(12) كما ورد عن أبي خديجة قال: دخلت على أبي الحسن ((عليه السلام)) فقال لي: ((إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَيَّدَ الْمُؤْمِنَ بِرُوحٍ مِنْهُ تَحْضُرُهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ يُحْسِنُ فِيهِ، وَيَتَّقِي وَتَغِيبُ عَنْهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ يُذْنِبُ فِيهِ وَيَعْتَدِي فَهِيَ مَعَهُ تَهْتَزُّ سُرُوراً عِنْدَ إِحْسَانِهِ وَتَسِيخُ فِي الثَّرَى عِنْدَ إِسَاءَتِهِ، فَتَعَاهَدُوا عِبَادَ اللَّهِ نِعَمَهُ بِإِصْلَاحِكُمْ أَنْفُسَكُمْ تَزْدَادُوا يَقِيناً وَتَرْبَحُوا نَفِيساً ثَمِيناً، رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً هَمَّ بِخَيْرٍ فَعَمِلَهُ أَوْ هَمَّ بِشَرٍّ فَارْتَدَعَ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ: نَحْنُ نُؤَيِّدُ الرُّوحَ بِالطَّاعَةِ لِلَّهِ وَالْعَمَلِ لَهُ))(13).

وذلك كله في مقابل النفس التي ورد فيها ((وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها * فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها))(14).

وأما المعنى الرابع: فالأمر فيه كذلك؛ لتمحضّه في النورانية والإيجابية عكس القلب في الآية الشريفة.

والذي نستظهره وجود معنيين آخرين للقلب هما:

ما هو مركز العاطفة

المعنى الخامس: هذا القلب الصنوبري لكن لا بما هو هو ولا بما هو عضو بيولوجي محض للإنسان، بل بما هو مركز للعاطفة والقوة الشهوية والقوة الغضبية والحقد والحسد والعجب والكبرياء وغير ذلك.

المركب من المعنيين الثاني والخامس

المعنى السادس: المزيج المركب من المعنى الثاني والخامس، وهذا هو الذي لا نستبعده كونه المقصود من الآية الكريمة.

وتوضيحه: ان العقل بما هو عقل، متمحّض في الخير والنورية كما سبق، والقلب بما هو مركز للعاطفة والشهوة و... ممحض في هذه الأحاسيس والمشاعر والصفات النفسية، ولكن العقل بما هو موجود في القلب وباعتبار ان مسكنه القلب كما تدل عليه بعض الروايات الآتية، يمثّل معادلة جديدة تتشكل مخرجاتها عبر التفاعل بين هذين العنصرين والكسر والانكسار بينهما، فقد تتغلب القوة المتعقلة بشكل مطلق وقد تتغلب بشكل نسبي، والنسبية بدورها على درجات، كما قد تغلب العاطفة والشهوة ونظائرها العقل بشكل مطلق أو نسبي على درجات النسبية كذلك، وقد تتكافؤ القوتان، ولعل (الأعراف) في قوله تعالى: ((وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسيماهُمْ))(15) هي النتاج الأخروي الطبيعي لتكافؤ القوتين وتساوي الكفتين، على كلام مفصّل في ذلك.

وعليه: فان ((قُلُوبِهِمْ)) يراد بها عقولهم بما هي ساكنة في قلوبهم، ففي الرواية ((الْعَقْلُ مَسْكَنُهُ فِي الْقَلْبِ))(16) ومن الواضح ان كل ساكنٍ في مكانٍ يدور أمره بين أربع صور: فقد يؤثر فيه بالإيجاب أو السلب، وقد يتأثر هو بالمكان بما يحمل من خصائص، بالإيجاب والسلب، وقد يؤثر كل منهما في الآخر، وقد لا يؤثر أحدهما في الآخر أبداً ولعله نادر.

وهذه العقول بما هي ساكنة في القلوب ومتشابكة معها ومتداخلة ومتفاعلة قد تحمل الزيغ الذي أشارت إليه الآية الشريفة ((فَأَمَّا الَّذينَ في‏ قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ...)) فان العقل بما هو في القلب يمكن ان يزيغ(17) دون العقل الممحض الخالص.

والمعنى الخامس وإن احتمل لكنه مستبعد أيضاً، لكون القوة الغضبية والشهوية والحسد والكبرياء مما يغلب عليها طابع الشر إن لم تكن ممحضة فيه فلا يعبر عنها بان فيها زيغاً وانحرافاً بل هي الزيغ نفسه، ولو بلحاظ الطابع العام، فتأمل.

نقد المنهج الباطني

وعلى أي حال، فان الآية الكريمة صريحة في ان إتباع المتشابه وإبتغاء التأويل من دون الرجوع إلى الراسخين في العلم متفرع على زيغ القلوب، وان الذين في قلوبهم زيغ وانحراف وضلال هم الذين يسلكون ما يسمى بالمسلك الباطني إذا أريد به المسلك الذي ينتهج منهج التأويل من غير دلالة ظاهرة بحسب الطرق العقلائية في الإفهام والتفهيم والتفهم ومن غير دلالة من الرسول ((صلى الله عليه واله وسلم)) الذي ورد فيه ((وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ))(18) وأهل بيته ((عليه السلام)) الذين نزل القرآن في بيوتهم وكانوا أبواب مدينة علمه.

نماذج من التفسير الباطني:

ولنضرب لذلك بعض الأمثلة:

فقد ورد في (تفسير الحقائق المنسوب إلى أبي عبد الرحمن السلميّ (330هـ) قال في معنى قوله: ((وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَليلٌ مِنْهُمْ))(19): اقتلوها بمخالفة الهوى النفسي، والمراد من اخرجوا من دياركم أخرجوا حبّ الدنيا من قلوبكم. وأمّا قوله تعالى: ((ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَليلٌ مِنْهُمْ)) فالمراد به أنّه لم يقم بذلك إلا قليل منهم؛ لكنّهم من حيث المعنى كثر، وهم أهل التوفيق والولاية الصادقة)(20).

فإن تفسير القتل بذلك مما لا يصح بدون قرينة، نظراً لكونه مجازاً، وتفسير ((اخْرُجُوا)) بـ(أخرِجوا) غلط إذ هو من تفسير الأمر من الثلاثي المجرد بالأمر من المزيد من باب الإفعال(21)، كما ان تفسير الكم بالكيف بعيد.

وورد (في تأويل الآية: ((وَما تِلْكَ بِيَمينِكَ يا مُوسى‏))(22). يقول: إشارة إلى نفسه أي الحقّ التي هي في يد عقله؛ إذ العقل يمين يأخذ به الإنسان العطاء من الله ويضبط به نفسه)(23).

وهو من الغرابة بمكان إذ كيف؛ وبأية لغة عقلائية، يفسر اليمين بـ(العقل) والأغرب ان يفسر (تِلْكَ) بالحق والحقيقة والنفس أي ما تلك النفس التي هي بيد عقلك؟ والأغرب منه جداً ان يقصد من (الحق) الله تعالى.

((فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ)) أي الدنيا والآخرة!

و(عن الغزالي في تفسير الآية ((فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ...))(24) من يريد إدراك الوحدانية الحقيقية يجب عليه أن يطرح عن نفسه التفكير في الحياتين الدنيا والأخرى)(25).

ومن الغريب بل من المستقبح جداً ان يفسر الحياة الأخرى أيضاً بانها نعل مع ان الله تعالى يقول: ((وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى))(26) و((وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى))(27) ((وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ))(28) وغير ذلك، ومع ان الآخرة كما هو بديهي تتضمن الجنة والفردوس و((وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ))(29) و((مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتي‏ وُعِدَ الْمُتَّقُونَ))(30) و((وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ))(31) فكيف يصح القول بان التفكير في الآخرة كالتفكير في الدنيا، تفكير في النعال والحذاء؟ ما ذلك لعمري إلا سوء أدب مع رب الأرباب وجرأة على الله تعالى.. كما تشمله وأشباهه الآية الكريمة بوضوح ((فَأَمَّا الَّذينَ في‏ قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْويلِهِ)).

تطرّف الباطنيين بالتصرف في دائرة المحكمات!

والغريب ان هؤلاء تطرّفوا إلى أبعد الحدود وجاوزوا الحد حيث لم يقتصروا على ارتكاب ما ذمه الله تعالى واعتبره من أفعال الذين في قلوبهم زيغ في الآية الكريمة، بل أفرطوا إفراطاً مذهلاً إذ نقلوا تفسيرهم بالرأي إلى دائرة المحكمات أيضاً، حيث ان الآية الكريمة تدين أولئك ((الَّذينَ في‏ قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْويلِهِ)) وهم الذين يتبعون المتشابه ويجيّرونه لأهدافهم كي يصلوا بذلك إلى تشييد مبانيهم الضالة، ولكن المذهل ان يتطرف أولئك الباطنيون فيتصرفوا في (المحكمات) نفسها بتفسيرها بما يخالف ما وضعت له وما قد أحكمت عليه، والأمثلة الثلاثة السابقة، والتي سبقت في الدروس السابقة شواهد صدق على ذلك(32).

مآخذات أخرى على المنهج الباطني

والحاصل: ان الباطنيين يجترحون السيئات المعرفية والدينية والأخلاقية حيث انهم يهدمون الأسوار العلمية، وينحون نحو الفوضى المعرفية عبر هدم الجسور الرابطة بين الألفاظ والمعاني، بل انهم يقومون بما يقارب دعوى (صدور كل شيء من كل شيء)، فكما ان صدور كل شيء من كل شيء محال، كصدور البرودة من النار والحرارة من الثلج والإعطاء من فاقد الشيء إلخ لأنه يعني هدم قاعدة العلّية والمعلولية وصدور المعلول من غير علّته وعلّية العلّة لغير معلولها وعلّية ما ليست بعلة لما ليس بمعلول، فكذلك دلالة كل لفظ على كل معنى، من دون تقيّد بدلالة وضع أو غير ذلك من الأسباب والعلل التي تقتضي دلالة اللفظ الخاص على المعنى الخاص.

بل نقول: انه يمكن للباطني ان يلتزم بهدم الأسوار والعلائق بين الألفاظ والمعاني في دائرته الشخصية بان يقول انني أقصد من كل لفظ كل معنى، فقد اقصد من النار النار وقد أقصد منها البقرة، أو الجبل، أو الماء، أو اللانار، أو الغيب، أو الجن، أو التراب... إلخ من دون أي ضابط أو قرينة، وهذا وإن كان خارجاً عن طريقة العقلاء لكن قد يكون له ان يفعل ذلك في عالمه الخاص به لا في علاقته مع غيره فانه لا يمكنه ان يتدخل في عالم الآخرين ويتصرف فيه على خلاف رغبتهم ومواضعاتهم وعَقْدهم اللفظي والاجتماعي، فيقول انني أفسر كلماتهم كما أشاء!.

بل نقول انه إن صح له ذلك فرضاً، وإن كان سفهائياً، فانه لا يصح له ان يقول: وانني أحمّلهم مسؤولية تفسيراتي وتأويلاتي وأقول انهم قصدوا كما أقصد وطاروا كما أطير وأسفوا كما أسفّ.. بل نقول: لئن كان له ان يقول ذلك عن مجهول فليس له ان يقول ذلك عمن يصرح ببطلان هذا المبنى الفوضوي، فكيف بان ينسب ذلك كله لله تعالى مع انه سبحانه صرح بـ((فَأَمَّا الَّذينَ في‏ قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْويلِهِ))؟

العاملان النفسي والفكري، وراء المنهج الباطني

إلى ذلك، فان الآية الشريفة لعله يستفاد منها انه يقف وراء ذلك النمط من التأويل (الذي لا يُرجَع فيه إلى الراسخين في العلم والذي لا يَنطلق من مباني العقلاء والذي يعد من مصاديق التفسير بالرأي) والذي اشتهر بالتفسير الباطني) عاملان(33):

أ- العامل الفكري ((وَابْتِغاءَ تَأْويلِهِ)) حيث يستهدفون تأويله على حسب مبانيهم العقدية والفكرية.

ب- العامل النفسي وهو ان ((في‏ قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)) حيث يقول تعالى: ((فَأَمَّا الَّذينَ في‏ قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ)) والزيغ الانحراف والضلال فهؤلاء يلجأون إلى عملية التأويل غير المنضبط ((ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ)) والإضلال.

وتوضيحه: انّ المرضى نفسياً وهم المصابون بعقدة النقص والحقارة أو المبتلون بالحسد أو الحقد أو شبه ذلك، فيدفعون نحو إنكار الحق والتأويل بالباطل من غير ان توجد لديهم شبهات فكرية بل مجرد عُقَد نفسية ((وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً))(34) وفي بالي ان بعض الروايات أفادت أن موقف أبي لهب من رسول الله ((صلى الله عليه واله وسلم)) كان ناجماً من الحسد حين كان يحسد عبد الله بن عبد المطلب لما رأى من إكراه أبيهما (عبد المطلب) له، لعبد الله، ولما كان يتمتع به من مآثر ويتميز به من مناقب فدفعه ذلك الحسد (النفسي) إلى معاداة رسول الله ((صلى الله عليه واله وسلم)) وجحد نبوّته.

ومن الطريف ان أنقل هنا كلام أحد العلماء في الغرب، حيث وصل إلى مسامعه انّ طالبين جامعيين، أخاً وأختاً، من أحد بلاد الشرق أعلنا الإلحاد والارتداد، فبعث إليهما خبراً يطلب فيه ان يلتقي بهما كي يتناقشوا في الأمر فرفضا.. لكنه أصرّ.. فرفضا.. ثم أصرّ عبر الوسيط قائلاً: الحوار لصالحكما فان غلبتماني كانت لكما الحجة الظاهرة في المجتمع على ارتدادكما، وإن غلبتكم كان من السهل عليكما العودة إلى الإسلام... ولكنهما رغم ذلك رفضا بشدة... وعندما بعث وسيطاً آخر إليهما ليقنعهما أجاب الشاب: بان السبب الأساس لارتدادنا هو ان لنا ميولاً جنسية مثلية والإسلام يحرِّم ذلك فلم نجد مناصاً من إعلان الكفر كي نتمتع كما نشاء!

فأمثال هذين الشابين لم تكن مشكلتهم فكرية ولا كانت الشبهة هي العامل وراء ارتدادهم بل كانت مشكلتهم نفسية – جنسية – أخلاقية، وكذلك يكون أحياناً حال أولئك الذين ينحون منحى التأويل من دون الرجوع إلى الراسخين في العلم (الرسول وأهل بيته) فانهم إما من القسم الأول أو من القسم الثاني، والآية الكريمة تصرح بـ: ((فَأَمَّا الَّذينَ في‏ قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْويلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)) فهذا كله عن المنهج الباطني.

نقد المنهج الظاهري

وأما المنهج الظاهري، فانه يعاني من جهات قصور علمية ومعرفية متعددة، ويكفي ان نعرف ان من أبرز ما يبتلى به أتباع هذا المنهج:

أولاً: السذاجة المفرطة في تفسير بعض الآيات الكريمة، أي في إبقائها على ظواهرها التزاماً بالمنهج الظاهري والذي يكاد يقترب من حدّ البلاهة أحياناً.

وثانياً: العجز عن الجواب عن الشبهات التي قد تورد على القرآن الكريم، بل التورط في الإذعان بالتناقض بين آياته الكريمة من دون ان يملكوا إمكانية العثور على أي مخرج، إلا الخروج من المنهج الظاهري.

1- السذاجة في التفسير

ويكفي التمثيل للأول بقوله تعالى: ((وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى‏ عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً))(35) فان الطريق العقلائي العام والمنهج الذي نزل به القرآن وهو ((بِلِسانِ قَوْمِهِ)) يقودنا إلى تفسير الآية الكريمة بالكناية عن الإفراط والتفريط في العطاء، أي لا تبخل بالعطاء (فكأنّ يدَك مغلولةٌ إلى عنقك فلا تقدر على ان تعطي شيئاً) ولا تسرف في العطاء بلا حساب (فكأنّك باسط يديك تماماً) فتضيّع الأهم اللاحق إذا انفقت كل ما في يدك على المهم الحالي.

أما المنهج الظاهري فليس أمامه كما سبق إلا الخروج عن منهجه وتفسير الآية بقرائن الحال والمقال وفهم العقلاء، أو الجمود على الظاهر الذي لا يقول به حتى البسطاء بل لعله يختص بالسفهاء والبلهى من الناس، وذلك لأنك لا تجد عاقلاً في الكون، من عالم وجاهل وطبيب ومهندس وعامل ومزارع وقروي وحضري، يوصي أحد أبنائه بهذه الوصية إلا إذا كان ولده سفيهاً حقاً! إذ لا تجد أحداً من العقلاء بل حتى من الصبيان يفعل مثل ذلك، بمعناهما الحقيقي كي يُنهى عنه، فكيف برسول رب العالمين؟

بوجه آخر: هل كان يحتمل في حق رسول الله ((صلى الله عليه واله وسلم)) ان يفعل ذلك (يبسط يده تارة كل البسط، ويجعلها مغلولة إلى عنقه تارة أخرى) كي ينهى عنه في القرآن الكريم!

2- العجز عن حل الشبهات والعُقُد

ويكفي التمثيل للثاني بالآيات الثلاثة التالية:

1- قوله تعالى: ((الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكيمٍ خَبيرٍ))(36).

2- قوله تعالى: ((اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَديثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ))(37).

3- قوله تعالى: ((هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ)) حيث قد يتوهم التناقض بين هذه الآيات الكريمات، والذي يعجز المنهج الظاهري عن الجواب عنه البتّة!

الطوسي: جواب التناقض بين آيات المحكم والمتشابه

وقد طرح الشيخ الطوسي الإشكال بقوله: (فإن قيل: كيف تقولون، ان القرآن فيه محكم ومتشابه، وقد وصفه الله تعالى بأنه اجمع محكم؟ ووصفه في مواضع أخر بأنه متشابه وذكر في موضع آخر ان بعضه محكم، وبعضه متشابه ـ كما زعمتم ـ وذلك نحو قوله: ((الر. كتاب احكمت آياته)) وقال في موضع آخر: ((الله نزل احسن الحديث كتابا متشابها)) وقال في موضع آخر: ((وهو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن ام الكتاب وأخر متشابهات)) وهل هذا إلا ظاهر التناقض؟)(38).

أقول: فكيف يجيب الظاهري عن هذا الإشكال إلا بالتراجع عن المسلك الظاهري واللجوء إلى التفسير العقلائي الآتي الذي يتصرف في الظواهر بقرائن مناسبات الحكم والموضوع وغيرها.

وقد أجاب الشيخ الطوسي عن ذلك الإشكال بقوله: (قلنا: لا تناقض في ذلك، لأن وصفه بانه محكم كله، المراد به انه بحيث لا يتطرق عليه الفساد والتناقض والاختلاف والتباين والتعارض، بل لا شيء منه إلا وهو في غاية الاحكام ـ إما بظاهره أو بدليله، على وجه لا مجال للطاعنين عليه. ووصفه بانه متشابه يراد به: أنه يشبه بعضه بعضاً في باب الاحكام الذي أشرنا إليه، وأنه لا خلل فيه ولا تباين ولا تضاد ولا تناقض. ووصفه بان بعضه محكم، وبعضه متشابه ما أشرنا إليه، من ان بعضه ما يفهم المراد بظاهره فيسمى محكماً ومنه ما يشتبه المراد منه بغيره وإن كان على المراد والحق منه دليل فلا تناقض في ذلك بحال)(39).

أقول: وتوضيح جوابه ((قدس سره))مع إضافات وتطوير في ضمن الأمور التالية:

1- وجه الجمع بين إحكام آياته وتشابهها والتفصيل

الأمر الأول: ان للمتشابه معنيين، من ضمن معاني خمسة أو أكثر، لكنّ هذين المعنيين هما محل الحاجة في هذا المقال وبهما يرتفع الأعضال:

الأول: ما يشبه بعضه بعضاً نظير قوله تعالى: ((وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً))(40) وهذا هو المقصود بالآية الثانية ((اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَديثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ))، وذلك لقرائن كثيرة:

منها: قوله ((أَحْسَنَ الْحَديثِ))، فان ((كِتاباً)) بدل من ((أَحْسَنَ الْحَديثِ))، وأحسن الحديث هو ذلك الذي يشبه بعضه بعضاً في الإتقان والإحكام والفصاحة والبلاغة والكمال والجمال والعمق وكما قال الطوسي: (بحيث لا يتطرق عليه الفساد والتناقض والاختلاف والتباين والتعارض، بل لا شيء منه إلا وهو في غاية الاحكام ـ إما بظاهره أو بدليله، على وجه لا مجال للطاعنين عليه).

ومنها: قرينة قوله ((مَثانِيَ)) التي هي صفة لـ((كِتاباً)) أو لمتشابها أو بدل، وسيأتي إيضاح هذه القرينة ببيان شافٍ لطيف مع قرائن أخرى في الدرس القادم بإذن الله تعالى.

وقد أوجز السيد الوالد ذلك في تبيين القرآن بقوله: (كتاباً متشابهاً: يشبه بعضه بعضاً في البلاغة وحسن النظم وقوة الأحكام)(41).

الثاني: ما اشتبه المراد منه على مسامعه أو قارئه، وهذا المعنى هو المقصود من الآية المفصِّلة ((مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ)) أي يَشتبه المراد منها على سامعها، إلا بالرجوع إلى الراسخين في العلم، ومن ذلك يظهر ان هذا التشابه ليس تشابهاً ذاتياً ينافي الإحكام الذاتي بل هو تشابه إضافي أي بالقياس إلينا نحن الجاهلين، لكنه عند الراسخين بالعلم واضح محكم (بدليله) حسب الطوسي، وبوجه آخر كما سيأتي.

2- المتشابهات كلها محكمة

الأمر الثاني: انّ كافة آيات الكتاب محكمة دون شك وهو قوله تعالى: ((الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ)) مع ان بعضها متشابه في الوقت نفسه دون تناقض، إذ يراد بالإحكام معنى وبالتشابه معنى آخر، فالإحكام يراد به انه محكم في حد ذاته فلا يتسرب إليه الخطأ والخطل والغلط والتناقض.. إلخ والتشابه يراد به انه متشابه على من لم يُؤتَ علمَه، فهو رغم إحكامه الذاتي مجهول عند من لم يُمنح ضوابطه(42).

ويوضّحه: ان اللغز والشفرة، كشفرة موريس، والمعادلات الرياضية المعقدة، محكمة في حد ذاتها لكنها متشابهة ومجملة المراد بالنسبة إلى الجاهل بها، فقد تكون الشفرة دقيقة جداً لا تخطئ أبداً كما ان تلك المعادلة الرياضية المكتوبة قد تكون صحيحة مائة بالمائة ومتقنة تماماً لكنها متشابهة على غير الراسخ في الرياضيات، واللغز محيّر للذي لا يعرف حله، لكنه في حد ذاته ومرحلة لغزيته قد يكون متقناً غاية الإتقان، وفي أروع مراتب الإلغاز!

ويوضحه أكثر: المثال التالي من عالم التكوين، فانّ (العظم) في بنائه الصلب متقن جداً، كما ان (الغضروف) في بنائه المَرِن الرَّخْو متقن جداً، ولا يضرّ بإتقانه وإحكامه كونه مرناً رخواً بل ان كماله وإتقانه بذلك حيث انّ مهمة الغضروف هي ان يكون الفاصل – الواصل بين عظام المفاصل كي لا تصطك ببعضها فتلتهب وتتآكل وتولد الآلام المذهلة، أما الغضاريف فلأنها لمرونتها فانها تمنع الاحتكاك والاصطكاك وتوفر السلاسة في الحركة، وذلك يعني بعبارة أخرى: انّ إتقان كل شيء بحسبه.

وبذلك ينكشف لنا أكثر: انّ المتشابه بالإضافة إلى الغير لهو من دائرة المحكم في حد ذاته؛ لذا ورد قوله تعالى ((الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ)) فهي متقنة تماماً حتى إذا كان بعضها متشابه المراد على سامعه الذي لم يعرف قرائنه وشواهده ووجوه الجمع بينه وبين غيره.

بل ان كمال القرآن الكريم هو بان تكون بعض آياته محكمة في الباطن والظاهر ولدى القاصي والداني وبعضها محكمة في ذاتها ولدى الراسخين في العلم ولكنها متشابهة المراد على غيرهم، قال تعالى: ((فَأَمَّا الَّذينَ في‏ قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْويلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)). وللبحث مزيد إيضاح وتتمات فانتظر.

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين

* سلسلة محاضرات في تفسير القرآن الكريم
http://m-alshirazi.com

...........................................
(1) سورة آل عمران: الآية 7.
(2) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران، ج1 ص11.
(3) سورة الإسراء: الآية 85.
(4) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران، ج1 ص98.
(5) المصدر: ج1 ص10.
(6) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران، ج1 ص12.
(7) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران، ج1 ص28.
(8) سورة الروم: الآية 28.
(9) سورة يونس: الآية 100.
(10) سورة المائدة: الآية 58. وسورة الحشر: الآية 14.
(11) سورة الإسراء: الآية 85.
(12) سورة الحجر: الآية 29، وسورة ص: الآية 72.
(13) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران، ج2 ص268.
(14) سورة الشمس: الآيتان: 7-8.
(15) سورة الأعراف: الآية 46.
(16) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران، ج8 ص190.
(17) وفي الواقع زاغ المركب منه ومن مركز الأحاسيس، ولم يزغ هو بنفسه.
(18) سورة النحل: الآية 44.
(19) سورة النساء: الآية 66.
(20) محمد باقر سعيدي روشن / ترجمة: رضا شمس الدين، منطق الخطاب القرآني – دراسات في لغة القرآن -، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي ـ بيروت، ص427-428.
(21) تقول: خرجوا، يخرجون، اخرجوا، وتقول: اخرِج، اخرِجا، أخرِجوا.
(22) سورة طه: الآية 17.
(23) محمد باقر سعيدي روشن / ترجمة: رضا شمس الدين، منطق الخطاب القرآني – دراسات في لغة القرآن -، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي ـ بيروت، ص429-430.
(24) سورة طه: الآية 12.
(25) عبد الرحمن العك، أصول الدين وقواعده، دار النفائس ـ بيروت، ص214.
(26) سورة الضحى: الآية 4.
(27) سورة الأعلى: الآية 17.
(28) سورة العنكبوت: الآية 64.
(29) سورة التوبة: الآية 72.
(30) سورة الرعد: الآية 35.
(31) سورة الواقعة: الآيات: 10-14.
(32) على التصرف في المحكمات نفسها.
(33) وقد يقال انه يصلح كل منهما لكل منهما. فتدبر.
(34) سورة النمل: الآية 14.
(35) سورة الإسراء: الآية 29.
(36) سورة هود: الآية 1.
(37) سورة الزمر: الآية 23.
(38) الشيخ الطوسي، التبيان في تفسير القرآن، إحياء التراث العربي ـ بيروت، ج1 ص11.
(39) المصدر.
(40) سورة البقرة: الآية 25.
(41) السيد محمد الحسيني الشيرازي، تبيين القرآن، ص474.
(42) وعليه: فحتى لو أريد فرضاً من (( كِتاباً مُتَشابِهاً)) ما اشتبه المراد على سامعه، لما كان هنالك تناقض، على ان هذا الجواب يوضح معنى الآية المفصّلة ((مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ...)).

اضف تعليق