q
لنا نحن لتأويل اللغة المقصودة: هل هي اللغة المكونة من الحروف والرموز التي تكوِّن جملًا، أم اللغة التي يولِّدها المخ بعد المرور بتجربة مفاجئة؟ وربما ما يحاول "ساكس" طرحه علينا وعلى نفسه ليس له إجابةٌ واضحة، ثمة ما هو مفاجئ دائمًا ويمكن للعقل خلقه للتعايُش، في أن يصبح له عينٌ مثلًا...
بقلم مهند عبد العظيم

يُعد أوليفر ساكس (1933-2015) أحد أهم أطباء الأعصاب في العصر الحديث، ورغم أهميته في هذا المجال، فهو أيضًا كاتب علمي لقبته صحيفة نيويورك تايمز بـ"شاعر الطب"، حاز "ساكس" جائزة لويس توماس من جامعة روكفلر عام 2001، وهي الجائزة التي تُمنح للعلماء الذين يخطون خطى الشعراء الإبداعية في كتاباتهم، وعلى مجهوداته في نشر الثقافة العلمية، وبخاصة ما أحدثه فيلم "اليقظة "AWAKENINGS -المأخوذ عن كتابه الذي يحمل العنوان ذاته- من ضجةٍ آنذاك، وكان هذا الفيلم قد رُشح لجائزتي أوسكار وجولدن غلوب العالميتين.

أحدث ساكس ثورةً في طريقة الكتابة العلمية، وأسهم في تحويلها من أسلوب سردي تقريري (الشكل المعتاد في كتابة معلومات تهم المختصين فقط) إلى سردي شعري (يمزج بين القدرة الجيدة على الكتابة الدقيقة والأدبية في الوقت ذاته)، ورغم ذلك لا تفقد الكتابة عنده قيمتها العلمية إطلاقًا، بل تجذب المختص وغير المختص.

وُلد "ساكس" في أسرة جميع أفرادها أطباء وباحثون في مجالات العلوم المختلفة، وأسهمت هذه النشأة في طريقة كتابته، يحكي في بداية كتاب له عن حوارات أسرته، وكيف أسهمت نشأته في التأثير عليه، قائلًا: الحديث لم يكُن فقط عن الحالات المرضية؛ فالمريض يمكن أن يظهر باعتباره حالةً لمرضٍ، ولكن في أحاديث والدي أصبحت حالاته المرضية سيرًا ذاتية، وقصصًا لحياة أشخاص وكيفية تفاعُلهم مع مرضٍ أو إصابةٍ ما، أو تعاملهم مع حالات من التوتر أو الفاجعة، لذا ربما كان يجب أن أصبح أنا طبيبًا وقاصًّا في الوقت ذاته.

حياة ساكس مثيرة جدًّا؛ لأنه رغم نشأته بين أطباء لم يرد أن يصبح طبيبًا، بل ظن أنه سيصبح باحثًا في علم الكيمياء العصبية بعد انتقاله من بريطانيا إلى مدينة نيويورك الأمريكية عام 1965، حيث عمل باحثًا في علم الكيمياء العصبية وعلم الأمراض العصبية في كلية ألبرت آينشتاين لمدة عام، قبل أن ينتقل منها إلى برونكس- أحد أحياء مدينة نيويورك الفقيرة- بعد اكتشافه أن وظيفة أحلامه غير مناسبه له، ليصبح طبيبًا للأعصاب في إحدى العيادات.

اهتم أوليفر ساكس على مدار حياته كلها بالحالات المصابة بأمراض نادرة في الأعصاب، كالعمى الإدراكي Visual agnosia- والهلوسة وتحديدًا ما يُعرف بالهلوسة الموسيقية musical hallucinations وهي من أكثر أمراض الأعصاب نُدرة، واعتمدت أعماله الكتابية على تجارب حقيقية عاشها وذكرها في عدة كتب أبرزها "الرجل الذي حسب زوجته قبعة".

في عام 2010، أصدر كتابه "عين العقل- the mind's eye" الذي تناول حالاتٍ واقعيةً نادرةً من الأمراض العصبية كالعمى الإدراكي وفقدان القدرة على القراءة وأيضًا مرض الحبسة- aphasia، تناولت أغلب كتب "ساكس" تجارب ذاتية لمرضاه، لكن المختلف في هذا الكتاب أن ما حركه فيه كان فجيعته هو بسبب إصابته بـورم ميلانيني (الميلانوما) في عام 2005، وربما هذا ما دفعه إلى أن يُهدي كتابه "عين العقل" إلى "ديفيد أبرامسون"... الطبيب المعالج.

كتاب "عين العقل" ليس كتابًا علميًّا فقط أو سيرة ذاتية لطبيب يحكي عن مرضاه، بل يصف كيف يعمل العقل مع الفجيعة المفاجئة، وكيف يصبح مرنًا رغم كونه وحدةً واحدةً لا تتفتت، قُسم الكتاب إلى جزئين: جزء عن العمى الإدراكي الذي يعني اختلالًا مفاجئًا يحدث للمريض نتيجةً لإصابته بالضمور القشري الخلفي الذي وصفه فرانك بنسون لأول مرة عام 1988، والجزء الثاني تناول العمى الحقيقي BLINDNESS الذي يحدث لأسباب عديدة.

أن نرى ولا نرى

يستيقظ المرء وأول ما يعيده من عالم النوم إلى الحياة هو أن يفتح عينيه ليرى، لكن ماذا إذا كانت عيناك مفتوحتين على وسعهما لكنك ترى بعض الأشياء ولا تستطيع رؤية أشياء أخرى تعودت على رؤيتها، حدث هذا تحديدًا مع ليليان كالير (عازفة أمريكية تدرس الموسيقى) وهوارد إنجل (روائي كندي).

في يناير 1999 كتبت "كالير": "مشكلتي غير المألوفة تمامًا تتلخص في عبارة واحدة، وبمصطلحات غير طبية، أنا لا أستطيع القراءة"، لم تستطع "كالير" قراءة النوت الموسيقية و"إنجل" لم يستطع قراءة الجريدة، رغم أنهما يبصران الناس والأشياء الأخرى، لكن فعل القراءة أًصبح عصيًّا عليهما، ثمة رابط بينهما أن اللغة نفسها أصبحت مبهمة، يريانِها لكنهما لا يفهمان منها أي شيء، رغم اختلاف أسباب إصابتهما بهذا العطب العصبي، إلا أن العقل منح كليهما مرونةً ما للتغلب على هذا العطب، كأنه عينٌ بديلة، كلاهما تغلب على هذا العطب بالطريقة ذاتها، كلاهما منحه العقل إدراكًا حسيًّا للتغلب على العطب، إما باستدعاء صور من الماضي، أو بإدراك حسي خلقه العقل للتعامل مع تلف أحد مراكزه.

تغلبت "كالير" على إصابتها بأن رسمت خريطةً في عقلها للأشياء التي اعتادت التفاعُل معها في منزلها، لكن هذه الطريقة لم تنجح في محاولات جعلها تعزف من جديد بطريقتها المعتادة، وإنما عن طريق استدعاء صور النوتات الموسيقية التي قرأتها والتي كانت تدرسها، بالإضافة إلى أنها لاحظت زيادة الحاسة الإدراكية للسمع، زارها "ساكس" بعد تدهوُر حالتها في عام 2002، وطلب منها أن تعزف له رباعية هايدن، فشلت في البداية مما أثار غضبها، ولكنها نجحت في النهاية في استدعاء اللحن عبر ترديده عليه وعلى زوجها، لكن على العكس من ذلك، كتب هوارد إنجل، بناءً على نصيحة والدته الكتابة عما يعرف، ولكن ما كان يعرفه هو المرض فقط، لذا كتب عنه، فمنحه عقله قدرةً على الكتابة عن الحاضر كتعويض عن استدعاء الماضي.

في الكتاب، يقول زوج "كالير" إن صبره ينفد لأنه يرى عمى زوجته انتقائيًّا، ويرد عليه "ساكس": "لا أستطيع اقتراح أي قاعدة باستثناء الكياسة؛ فكل موقف يستدعي الحل الخاص به"، وربما تكون نصيحة "ساكس" بمنزلة نجاة للتعامل مع كل إصابة أو انتكاس يحدث لنا في الحياة.

الرابط بين كل الحالات المذكورة في كتاب "عين العقل" ليس فقط العمى سواء الإدراكي أو الخلقي، بل أيضًا فقد اللغة، يصور "ساكس" ذلك ببراعة، كأنه يتساءل: هل اللغة تعوض فقد البصر أو أي إصابة إدراكية؟

هل للعقل عين؟

يبدو عنوان كتاب "عين العقل" الذي نتناوله في هذا المقال عنوانًا غير مفهومٍ للبعض، وأول ما يراود ذهن مَن يراه هو محاولة الإجابة عن سؤال.. هل للعين عقل؟ ذكر "ساكس" ست حالات مرضية مختلفة من الإصابة البصرية، أبرزها: مَن لا يستطيع القراءة، ومَن لا يستطيع التعرف على الوجوه، ومن لا يستطيع استدعاء أي صور ذهنية من الماضي.

في كتاب فرانك برادي "رؤية أحادية: فن الرؤية بعينٍ واحدة"، يقول عمَّن أصيبوا بأنواع مختلفة من العمى: "يصبح معظم الناس مع الوقت قادرين على العودة إلى حياةٍ كاملةٍ وحرَّة، ما داموا محتفظين بوعي خاص، وعي فائق بالجانب المفقود".

وبين اختيار عنوان "ساكس" لكتابه وما تناوله، وما ذكره "برادي" في كتابه، ثمة رابط مثير للتأمل عن مرونة الدماغ في تعويض ما يتلف منه بطرقٍ تختلف من شخصٍ إلى آخر، في الحالات المرضية المذكورة، ثمة تعامُل مختلف في كل حالة من حالات الإصابة مع تلك الفجيعة المفاجئة، كتب "ساكس": "ماذا يحدث عندما لا تعود القشرة البصرية محددةً أو مقيدةً بأي مُدخَلات بصرية؟ الجواب البسيط هو أنه عند عزلها عما يدور خارجها، تصبح شديدة الحساسية للمثيرات الداخلية بجميع أنواعها، نشاطها المستقل، والإشارات الصادرة من مناطق الدماغ الأخرى، المناطق السمعية، واللمسية، واللفظية، والأفكار، والذكريات، والعواطف، إذ يعوض العقل تلف إحدى العيون بمنح الحواس قدرةً استثنائيةً على الإدراك.

في آخر فصول الكتاب، وتحديدًا في الصفحة الأخيرة، يتساءل "ساكس" عن اللغة قائلًا: "ثمة مفارقة هنا -وهي مفارقة مثيرة للتأمل- لا يمكنني فهمها: إذا كان هناك بالفعل فرق جوهري بين التجربة والوصف، بين المعرفة المباشرة والوسيطة للعالم، فكيف يمكن للغة أن تكون بذلك التأثير القوي؟ ذلك الابتكار ذي الطابع البشري إلى أبعد حد، أن تجعل المستحيل نظريًّا ممكنًا، فمن شأنها أن تمكِّننا جميعًا -حتى المكفوفين خِلقيًّا- من الرؤية بعينَي شخصٍ آخر".

تترك خاتمة الكتاب هامشًا لنا نحن لتأويل اللغة المقصودة: هل هي اللغة المكونة من الحروف والرموز التي تكوِّن جملًا، أم اللغة التي يولِّدها المخ بعد المرور بتجربة مفاجئة؟ وربما ما يحاول "ساكس" طرحه علينا وعلى نفسه ليس له إجابةٌ واضحة، ثمة ما هو مفاجئ دائمًا ويمكن للعقل خلقه للتعايُش، في أن يصبح له عينٌ مثلًا.

اضف تعليق